ترسيخ الثوابت … أبعاد المقاربة المصرية للقضية الفلسطينية
ظلت مصر على مدار عقود الحاضن الأكبر لقضايا العرب الأشقاء، حيث سجل التاريخ مساهمات عديدة للدولة المصرية في إنهاء الأزمات في المنطقة العربية وإعادة الاستقرار، تكريسًا لدورها في محيطها العربي والإقليمي كدولة محورية ورئيسة في المنطقة العربية، وبما لها من ثقل إقليمي وعربي، وما يضيفه لها موقعها الجغرافي ودورها التاريخي.
وقد كانت القضية الفلسطينية دومًا خلال كافة المراحل التي مرت بها المنطقة منذ عام 1948 حاضرة بقوة على مستويات عدة في الذهنية السياسية والشعبية المصرية، فمن جهة كانت الدماء المصرية أعوام 1948 و1956 و1967، وسيلة من وسائل دعم حق الشعب الفلسطيني في العيش على أرض فلسطين بكل حرية وأمن، ومن جهة اخرى كانت المساندة السياسية الدائمة من جانب القاهرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي المظلة الجامعة لكافة الفصائل الفلسطينية، خلال فترة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما تم تدشينه عبر مشاركة مصر في القمة العربية الثانية في الاسكندرية عام 1964، والتي رحبت بقيام منظمة التحرير الفلسطينية، واعتمدت قرار المنظمة بإنشاء جيش للتحرير الفلسطيني.
لم يتوقف الدعم المصري للقضية الفلسطينية خلال السنوات التالية، واستمر هذا الدعم واتخذ أشكالًا أخرى، خاصة بعد أن دخلت منظمة التحرير في إطار عملية تفاوضية مع تل أبيب، بداية من اتفاقية “غزة-أريحا” وصولًا إلى اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993، علمًا بأن مصر حاولت خلال تفاوضها مع إسرائيل لتوقيع اتفاقية “كامب ديفيد” أن توجد آلية لسلطة حكم ذاتي فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، لكن حال غياب منظمة التحرير عن هذه الجهود حينها دون التوصل إلى اتفاق حول هذا الأمر خلال عامي 1979 و1980.
مسارات التحرك المصري في القضية الفلسطينية
الاهتمام المصري الدائم بالملف الفلسطيني على كافة المستويات تم التأكيد عليه بشكل مستمر خلال المراحل اللاحقة لتوقيع اتفاقية أوسلو، وصولًا إلى الواقع المعاش حاليًا، حيث أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبات عدة استمرار مصر في جهودها الدؤوبة تجاه القضية الفلسطينية؛ لكونها من ثوابت السياسة المصرية، ومواصلة بذل الجهود لاستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة.
وقد تضمن التأكيد المصري المستمر على أهمية هذا الملف إبراز المسارين الأساسيين اللذين يلخصان المقاربة المصرية الحالية للقضية الفلسطينية، الأول يرتبط بأهمية توحيد الجهود العربية والدولية لإعادة تنشيط الآليات الضالعة في مسار السلام في فلسطين على أساس حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والمسار الثاني يتضمن التحرك بشكل أكبر لإنهاء حالة الانقسام التي يعاني منها الكيان الفلسطيني، وتحريك مسار المصالحة الوطنية وبناء قواعد الثقة بين الأطراف الفلسطينية.
مسار المصالحة الوطنية كان من أولويات مصر في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث تولت مصر منذ نوفمبر 2002 رعاية الحوار الفلسطيني – الفلسطيني، عبر جولات متكررة استهدفت تحقيق الوفاق الفلسطيني، لكن أدت الأحداث التي شهدها قطاع غزة في يونيو 2007 إلى تكريس حالة الانقسام والخلاف بين قطاع غزة والضفة الغربية، ودخل ملف المصالحة الفلسطينية في جمود شبه كامل خلال السنوات التالية، إلى أن اعادت القاهرة تفعيل هذا المسار في أبريل 2011 عبر استضافتها اجتماعًا ضم ممثلين عن حركة فتح وحماس،تم خلاله الاتفاق على بنود وثيقة للوفاق الوطني تم بحث آليات تنفيذها في ديسمبر 2011، خلال اجتماع استضافته القاهرة أيضًا للفصائل الفلسطينية.
استمرت المساعي المصرية لتفعيل هذا المسار الذي كلما تمت فيه خطوة أصابه الجمود مرة أخرى؛ إدراكًا من القاهرة أن توحيد الرؤى الفلسطينية هو المسار الوحيد الذي من خلاله يمكن إيجاد حلول دائمة للقضية الفلسطينية. وتكللت الجهود المصرية بالنجاح في أكتوبر 2017، عبر رعايتها اتفاقًا تاريخيًا للمصالحة الفلسطينية، وقعته حركتا التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” والمقاومة الإسلامية “حماس”، تم بموجبه الاتفاق على توحيد المؤسسات الحكومية وتمكين الحكومة الفلسطينية من ممارسة مهامها والقيام بمسؤولياتها كاملة في إدارة شؤون قطاع غزة كما في الضفة الغربية.
تضارب الرؤي الفلسطينية جعل مسار المصالحة يتباطأ مرة أخرى خلال السنوات اللاحقة، لذا حرصت مصر على إدامة التواصل المشترك بين الفصائل الفلسطينية، فقامت برعاية نحو 20 اجتماعًا منذ 2017، استهدفت توحيد الصف الفلسطينى، كان من أهمها جلسات الحوار الوطني الفلسطيني التي استضافتها القاهرة في فبراير 2021 وشارك فيها 14 فصيلًا فلسطينيًا هم من سبق لهم التوقيع على اتفاق المصالحة فى القاهرة عام 2011، وتناولت المباحثات في هذه الجلسات الاتفاقيات والتفاهمات الثنائية التى تمت حول إجراء الانتخابات الفلسطينية.
ويبقى الاجتماع الأهم -بالنظر إلى التحديات التي شهدها الملف الفلسطيني على المستويين الميداني والسياسي خلال العامين الماضيين- هو الاجتماع الذي استضافته مدينة العلمين في يوليو الماضي، ليس فقط من أجل دفع مسار التواصل والتعاون والحوار بين هذه الفصائل، بل أيضًا لمواجهة تصاعد السياسات الإسرائيلية القمعية ضد الشعب الفلسطيني، والمتمثلة بالاقتحامات والعمليات العسكرية المتكررة وتسارع النشاطات الاستيطانية.
هنا لابد من الإشارة إلى أن مصر كانت تضع ضمن أولوياتها في هذا المسار إيجاد آلية يمكن من خلالها المحافظة على كيان منظمة التحرير الفلسطينية؛ بالنظر إلى كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت إيجاد آلية تسمح بضم فصائل فلسطينية أخرى إليها، بحيث يتم التوصل إلى آلية عملية لتوحيد كافة الفصائل على مستوى القرار والتوجه.
فيما يتعلق بمسار السلام وإيجاد حلول سلمية للقضية الفلسطينية، دعمت مصر -كما سبق ذكره- كافة المؤتمرات والمبادرات السلمية في هذا الصدد، ولا تزال تضع في سلم أولوياتها التحرك في هذا الصدد على قاعدة إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، ضمن مسار “حل الدولتين”. لذا كانت مواقفها المعلنة من بعض المبادرات السلمية التي تم طرحها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة متسقة مع هذه القاعدة، ومن بينها المبادرة الأمريكية التي أُعلنت أوائل عام 2020 والمعروفة إعلاميًا باسم “صفقة القرن”، حيث دعت كافة الأطراف المعنية إلى الدراسة “المتأنّية” للرؤية الأمريكية في هذا الصدد، ثم عادت وأكدت دعمها الثابت والكامل للقضيّة الفلسطينيّة العادلة وللقيادة الفلسطينّية الشرعيّة، وإصرارها على إحلال السلام والتوصّل إلى تسوية تعيد للشعب الفلسطينيّ كامل حقوقه المشروعة من خلال إقامة دولته المستقلّة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقيّة، وذلك وفق الكلمة التي ألقاها وزير الخارجيّة المصري سامح شكري خلال الاجتماع الطارئ الذي عقدته الجامعة العربيّة في فبراير 2020.
نجدة قطاع غزة والدور الأساسي للقاهرة في وقف التصعيد الميداني
تحركت مصر في المسارات السالف ذكرها وهي تواجه بشكل شبه دوري تداعيات جولات التصعيد المتكررة من جانب الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزة، والتي تطورت خلال الأشهر الأخيرة لتشمل عدة مناطق في الضفة الغربية، منها مخيم جنين. لكن كانت جولات التصعيد ضد قطاع غزة دومًا هي الأكبر والأكثر صعوبة في إخمادها وإيقافها، وهنا يتجلى بشكل واضح حجم وأهمية الدور المصري في مثل هذه المناسبات، ومن أقرب الأمثلة على هذا الأمر، جولة التصعيد التي شهدها قطاع غزة في مايو 2021، والتي استمرت لمدة 11 يومًا. وتمكنت مصر بعد جهود حثيثة من إيقاف هذه الجولة التي كانت هي الأعنف منذ أعوام طويلة.
المسار المصري في مثل هذه المناسبات يتضمن السير في عدة مستويات مختلفة: أولًا وقف العمليات العسكرية وفرض هدنة لدواعي إنسانية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار سيرتبط بطبيعة الحال بشروط ومطالب متعددة من كلا الطرفين، وهو ما يحتاج إلى وسيط نزيه يتمتع بثقة الجانب الفلسطيني، ويرتبط في نفس الوقت بعلاقات مع الجانب الإسرائيلي تسمح له بممارسة مهام الوساطة. وهو ما يتوفر بشكل كامل في الجانب المصري الذي لعب دور البطولة في التوصل للتهدئة خلال جولة مايو 2021 التصعيدية، وهو ما أسفر عن إيقاف هذه الجولة العنيفة من القتال.
النجاح المصري في هذا الصدد دفع بعض الأطراف الغربية -التي كانت تفكر في انتهاج سلوك مناهض للدولة المصرية- إلى التراجع عن موقفها والإقرار بأهمية ومحورية الدور المصري، ناهيك عن إقرار القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بفاعلية الدور المصري في هذه الأزمة، وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن عقب التوصل إلى اتفاقية التهدئة، عبر اتصال هاتفي جمعه والرئيس عبد الفتاح السيسي، أعرب فيه “بايدن” عن “امتنانه الصادق” له وفريق الوساطة الذي شكله، للعبهم الدور الحاسم في المسار الدبلوماسي لهذه الأزمة.
اللافت في هذا الإطار أن مصر لا تكتفي فقط بالعمل على إيقاف التصعيد والقتال؛ فمهام الأغاثة وإعادة الأعمار تبقى جزءًا أصيلًا من هذا الجهد، وبجانب القوافل المتعددة من المساعدات المصرية التي تمر بشكل دوري عبر معبر رفح، تعهدت مصر عقب جولة مايو 2021 التصعيدية بالعمل بشكل ميداني أكبر على إعادة إعمار قطاع غزة، وخصصت لهذا الغرض مبلغ يعد الأضخم في تاريخ القضية الفلسطينية “نصف مليار دولار”، وهو ما وسع بشكل كبير من هامش الدور المصري في الملف الفلسطيني، ليصبح ذا اتجاهات مختلفة.
بالعودة إلى المشهد الحالي، تقود مصر جهودًا دبلوماسية مكثفة للحيلولة دون الذهاب إلى مواجهة مفتوحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال المواجهة الجارية حاليًا في قطاع غزة، حيث حذرت مصر من مخاطر وخيمة للتصعيد الجارى بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، في أعقاب سلسلة من الاعتداءات ضد المدن الفلسطينية. لذا تواصلت الرئاسة المصرية خلال اليومين الماضيين مع عدة أطراف دولية، من بينها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في حين أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري مشاورات مع وزيري خارجية الأردن والسعودية، وتواصل هاتفيًا مع كل من أنتونى بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، وسيرجى لافروف وزير خارجية روسيا الاتحادية، وكاترين كولونا، وزيرة خارجية فرنسا، وهاكان فيدان وزير خارجية تركيا، والشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة.
بالنظر إلى ما تقدم، يمكن فهم أهمية الدور المصري في القضية الفلسطينية، ومدى حرص القاهرة على وجودها بشكل مستمر في ثنايا محاولات حل هذا الملف، من زاوية الحرص على الإيفاء بمتطلبات الأخوة العربية، وعدم التخلي عن التزامات مصر كقوة عربية كبرى لها تاريخ عريض في دعم الشعب الفلسطيني في كافة العهود، وهو ما يوجب استمرار مصر في لعب هذا الدور وتوسيع هامشه ليضم كافة جوانب هذا الملف.