
طوفان الأقصى: تحول نوعي في مسار وأداء الفصائل الفلسطينية
شنت فصائل المقاومة الفلسطينية منذ صباح اليوم عملية عسكرية استثنائية حملت اسم “طوفان الأقصى” واستهدفت بشكل رئيس مستعمرات غلاف قطاع غزة، وتم إطلاق آلاف الصواريخ على البلدات الإسرائيلية وصولًا إلى القدس، مما أسفر عن خسائر كبيرة على كافة المستويات في صفوف الجانب الإسرائيلي. في مشهد يمكن وصفه بأنه غير مسبوق على مستوى عمل فصائل المقاومة الفلسطينية، خصوصًا على مستوى التكتيكات المستخدمة، وطبيعة الأهداف التي تم التركيز عليها، بما يعكس وجود تخطيط مسبق ومحكم لهذه العملية. وقد مثلت العملية خسارة استراتيجية كبيرة لإسرائيل، وطرحت في الوقت ذاته تساؤلات مهمة خصوصًا ما يتعلق بدلالات توقيتها، ومآلات التصعيد بين الجانبين خصوصًا مع إعلان إسرائيل عن عملية عسكرية مضادة على قطاع غزة تحت مسمى “السيوف الحديدية”.
استنفار من الطرفين
أعلن قائد “كتائب القسام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، محمد الضيف اليوم السبت، عن إطلاق عملية “طوفان الأقصى” ضد إسرائيل. وقال “الضيف” في رسالة صوتية “قررنا أن نضع حدًا للانتهاكات الإسرائيلية والضربة الأولى من عملية طوفان الأقصى تجاوز 5 آلاف صاروخ استهدفت العدو (إسرائيل)”، كذلك دعا “الضيف” فلسطينيي الضفة الغربية إلى تنظيم عمليات ضد المستوطنات الإسرائيلية، ودعا فلسطينيي الداخل المحتل في النقب والجليل والمثلث إلى تبني تحركات تصعيدية مماثلة.
وقد جاءت هذه العملية بعدما أطلقت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عشرات الصواريخ باتجاه مستوطنات إسرائيلية، منها “تل أبيب” و”ريشون لتسيون” و”بات يام”، وفي هذا السياق أعلن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أن “طوفان الأقصى” جاءت للرد على الممارسات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى والمقدسات الفلسطينية، مشددًا على أن “العملية بدأت من غزة وسوف تمتد إلى الضفة والخارج”.
تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة نتيجة عملية “طوفان الأقصى”، فوفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية فقد قُتل حتى اللحظة 42 شخصًا، فيما أُصيب نحو 700 شخص بينهم مئات الإصابات الخطيرة، وفُقد مئات الأشخاص، فيما أسرت فصائل المقاومة نحو 50 جنديًا إسرائيليًا، حتى لحظة كتابة هذا المقال، وهي مؤشرات أولية قد تتزايد في الساعات المقبلة مع احتمالية استمرار التصعيد، لكنها كاشفة لمدى ضخامة و”نوعية” العملية الأخيرة من منظور حجم الخسائر التي ترتبت عليها، وهي الخسائر التي لا تقتصر فقط على الأرقام الميدانية والعملياتية، وإنما ستمتد لتشمل خسائر على مستويات سياسية عديدة بالنسبة للجانب الإسرائيلي، خصوصًا وأن الفصائل الفلسطينية وعلى وجه الخصوص حركة حماس اكتسبت خبرات كبيرة في السنوات الماضية على مستوى توظيف النتائج الميدانية سياسيًا.
وفي أول رد فعل له على العملية الأخيرة للفصائل الفلسطينية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “إسرائيل في حالة حرب وليس في عملية ولا في جولة قتال”، معتبرًا أن “حركة حماس شنت هجومًا مفاجئًا ضد إسرائيل وسكانها”، مضيفًا أنه “بدأ في عقد اجتماعات أمنية موسعة بهذا الخصوص، وأمر بتطهير المستوطنات”، لافتًا إلى أنه “أصدر أوامر باستدعاء قوات احتياط على نطاق واسع”، ومتوعدًا حركة حماس برد قوي على العملية الأخيرة.
وفي إطار رد الفعل الإسرائيلي على العملية الأخيرة، يمكن القول إن هذا الرد اتخذ جانبين، الأول سياسي يتمثل في عقد اجتماع عاجل للمجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية، واجتماع آخر منتظر للحكومة الإسرائيلية مساء اليوم، لكن التطور الأهم فيما يتعلق بالرد الإسرائيلي على العملية الأخيرة تمثل في إعلان الجيش الإسرائيلي عن إطلاق عملية عسكرية ضد قطاع غزة ومواقع لحركة حماس حملت اسم “السيوف الحديدية”.
تطور في استراتيجيات فصائل المقاومة
مثّلت عملية “طوفان الأقصى” تحولًا نوعيًا في مسار واستراتيجيات فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، على مستوى التصعيد مع إسرائيل، وذلك في ضوء عدد من الاعتبارات الرئيسة، التي عكسها الواقع الميداني والعملياتي لـ “طوفان الأقصى”، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- عنصر “المباغتة” و”المفاجأة”: كان عنصر “المفاجأة” أحد أهم العناصر التي تميزت بها عملية “طوفان الأقصى” باعتراف الجانب الإسرائيلي نفسه؛ فعلى الرغم من إعلان الفصائل المسلحة في قطاع غزة في الأسابيع الأخيرة عن رفضها وتنديدها بالممارسات الإسرائيلية المستفزة في القدس والضفة، فضلًا عن الإجراءات الإسرائيلية للتضييق على قطاع غزة، فإن أحدًا لم يتوقع أن تقوم فصائل المقاومة بفتح أي مسارات قتالية مع الجانب الإسرائيلي، خصوصًا مع إشارة إسرائيل في أكثر من مناسبة إلى رغبتها في تجنب أي تصعيد مع الفلسطينيين، وتلميح رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى توجهه نحو تبني إجراءات لتخفيف وطأة التوتر مع الجانب الفلسطيني، فيما بدا أنه محاولة للاستجابة لبعض المتغيرات الإقليمية الراهنة، ورغبةً في تجنب أي أزمات جديدة في ضوء حالة الاستقطاب والتوتر التي يشهدها الداخل الإسرائيلي، وقد عزز هذا السياق من أهمية العملية الأخيرة وعنصر “المفاجأة” فيها.
2- تخطيط عملياتي واضح: تشير التجارب السابقة الخاصة بالتصعيد العسكري المتبادل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني إلى أن أي تصعيد من قبل الفصائل الفلسطينية يكون محكومًا بتخطيط مسبق على مستوى الأبعاد الميدانية لهذا التصعيد، وحدوده ومآلاته المتوقعة، وتعكس عملية “طوفان الأقصى” ذلك بوضوح؛ إذ إن الحيثيات الميدانية المتاحة حاليًا تعكس أن هناك نمطًا مختلفًا من التخطيط العملياتي، وذلك في ضوء اعتبارات رئيسة، أولها أن العملية انطلقت على مستويين رئيسين أحدهما جوي من خلال إطلاق الصواريخ والقذائف بكثافة، والثاني بري من خلال تنظيم عمليات اقتحام منظمة للمستوطنات الإسرائيلية على الغلاف الحدودي. ومكمن الأهمية هنا أن عمليات إطلاق الصواريخ والقذائف مثلت “غطاءً جويًا مهمًا مهد للتوغل البري النوعي الذي حدث”.
كذلك تُظهر عمليات الاقتحام البرية التي حدثت للمستوطنات وما شهدته من حيثيات حالة الانهيار التي تعرضت لها القوات الإسرائيلية، خصوصًا الضربات التي تلقتها وحدات من لواء “عوز”، الذي يُنظر إليه إسرائيليًا بأنه أفضل لواء مقاتل في “الجيش” الإسرائيلي، إضافة إلى مقاتلين من وحدة “اليمام” ذائعة الصيت، وهي الحيثيات العملياتية التي تعبر عن تخطيط عملياتي واضح أخذ في الحسبان كافة الجوانب المعلوماتية الخاصة بالقوات الإسرائيلية المنتشرة على الحدود.
أيضًا تظهر الحيثيات العملياتية الخاصة بـ “طوفان الأقصى” أن العملية لم تستهدف فقط تحقيق “المباغتة” أو توجيه ضربات سريعة بغية تحقيق أهداف معينة، وإنما استهدفت السيطرة ولو لفترة مؤقتة على الأجزاء المهمة داخل هذه المستوطنات، وتدمير ما يمكن تدميره من معدات ومواقع أمنية وعسكرية، فضلًا عن استهداف الجنود والمستوطنين وأسرهم، بما يمكن ترجمته لاحقًا إلى مكاسب سياسية.
3- استغلال “التوقيت” و”السياق”: جاءت عملية “طوفان الأقصى” في ظل توقيت “مباغت” وسياق سياسي محفز لأي عمليات مشابهة، فبالنسبة للتوقيت الزماني تزامنت العملية مع “عيد العرش” وفترة الأعياد اليهودية، وهي الفترات التي تشهد فيها الثكنات العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات حالة من الهدوء النسبي والخمول على مستوى النشاط الخاص بالقوات المنتشرة فيها. أما بالنسبة للسياق الذي جاءت فيه العملية، فقد جاءت بالتزامن مع سياق سياسي واجتماعي مضطرب في إسرائيل، في ضوء أزمة الإصلاحات القضائية وما ترتب عليها من صدام سياسي، فضلًا عن انشغال الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بمواجهة الجريمة المنظمة، الأمر الي دفع بعض الدوائر الاستخباراتية الإسرائيلية إلى التحذير خلال الفترات الماضية من تأثير هذه الأزمات على أداء الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وعلى الحالة الأمنية بشكل عام.
4- فشل استخباراتي إسرائيلي: أحد الدلالات الرئيسة التي تعكسها عملية “طوفان الأقصى” تتمثل في أن هذه العملية تم التخطيط لها منذ أشهر، خصوصًا وأن هناك بعض المؤشرات التي عكست احتمالية حدوث تطور من هذا النوع، كاللقاءات الموسعة التي عُقدت في بيروت خلال الشهرين الماضيين بين قادة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، فضلًا عن بعض المناورات العسكرية التي نفذتها بعض الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وبوضع هذه الاعتبارات في الحسبان، جنبًا إلى جنب مع الشبكات الاستخباراتية الواسعة لإسرائيل في غزة، وسيطرتها على المجال الجوي تقريبًا للقطاع، وكذا الشبكات الاتصالية؛ نجد أن العملية الأخيرة تعكس فشلًا استخباراتيًا كبيرًا لدى الجانب الإسرائيلي، وهو الفشل الذي كانت بعض الدوائر الإسرائيلية قد حذرت منه في الآونة الأخيرة بسبب الأوضاع الداخلية لإسرائيل.
5- تضامن وتنسيق بين الفصائل الفلسطينية: على الرغم من أن كافة المؤشرات الميدانية الراهنة تشير إلى أن الدور الرئيس في العملية الأخيرة كان لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، فإن المتحدث الإعلامي باسم فصيل سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أعلن عن مشاركة “سرايا القدس” في العملية، وأسرها لعدد من الجنود الإسرائيليين، مشيرًا إلى أن مقاتلي سرايا القدس متواجدون مع كتائب القسام في المستوطنات التي تم اقتحامها. وفي سياق متصل، أعلنت فصائل: “عرين الأسود”، و”كتائب الشهيد أبو علي مصطفى” الذراع العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتائب “شهداء الأقصى”، عن دعمها للعملية وتضامنها معها وتنسيقها مع كتائب القسام، في مؤشر على توافق ونوع من التنسيق بين الفصائل المسلحة في قطاع غزة.
مآلات غامضة للتصعيد
تطرح عملية “طوفان الأقصى” تساؤلًا رئيسًا مهمًا على مستوى تداعياتها ومآلاتها المحتملة، وفي هذا الإطار يمكن القول إننا بصدد بعض السيناريوهات الأساسية، وذلك على النحو التالي:
1- التصعيد المفتوح: يتمثل هذا السيناريو في تبني الطرفين لتصعيد مفتوح ومتعدد الأوجه، لتتحول المسألة إلى حرب شاملة بين الجانبين، وقد تصاعد حضور هذا السيناريو في أعقاب إطلاق إسرائيل لعملية عسكرية في قطاع غزة “السيوف الحديدية” كرد على عملية “طوفان الأقصى”، لكن هذا السيناريو قد يكون أقل ترجيحًا وذلك في ضوء بعض الاعتبارات ومنها أن إسرائيل لا ترغب في الفترة الراهنة في تبني هذا الخيار في ظل بعض المتغيرات الإقليمية الجارية، فضلًا عن أزماتها السياسية والأمنية العميقة، بالإضافة إلى احتمالية تحول هذا السيناريو إلى حرب إقليمية مفتوحة مع فرضية دخول بعض الأطراف على خط التصعيد كحزب الله اللبناني، وهو السيناريو الذي ستتكبد إسرائيل على إثره خسائر كبيرة متعددة المستويات. أيضًا فإن أسر فصائل المقاومة الفلسطينية لعدد كبير من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين يمنع إسرائيل من تبني هذا السيناريو، لأن أي رد فعل عنيف من الجانب الإسرائيلي قد يترتب عليه عمليات قتل ضد هؤلاء الجنود والمستوطنين وهو ما سيزيد من حجم الضغوط الداخلية على الحكومة الإسرائيلية.
2- التهدئة النسبية: يتمثل السيناريو الثاني في وصول الطرفين إلى تفاهم يتم ترجمته في صيغة تهدئة نسبية بناءً على ضغوط ووساطات إقليمية تقودها في اللحظة الراهنة بشكل رئيس الدولة المصرية، لكن تحقق هذا السيناريو سوف يكون متوقفًا على جملة من الاعتبارات المهمة المرتبطة إلى حد كبير بالفصائل الفلسطينية نفسها على اعتبار أن التصعيد في هذه المرة قد بدأته الفصائل الفلسطينية وأعلنت حتى اللحظة أنه مستمر، ومنها مدى قدرة الفصائل الفلسطينية على خوض سيناريو الحرب المفتوحة في الفترة الراهنة، وطبيعة المواقف الإقليمية من هذا التصعيد ومدى قدرة بعض الفصائل الأخرى كحزب الله على فتح جبهات نوعية ضد إسرائيل.
وفي الختام، يمكن القول إن عملية “طوفان الأقصى” مثّلت من حيث أنماطها الميدانية نقلة نوعية على مستوى عمل واستراتيجيات الفصائل المسلحة الفلسطينية، وارتبطت إلى حد كبير بالتصعيد والممارسات الإسرائيلية الاستفزازية في الضفة والقدس، فضلًا عن الإجراءات الإسرائيلية على الحدود مع غزة. لكن مآلات هذا التصعيد العسكري سوف تكون متوقفة إلى حد كبير على جملة من الاعتبارات وعلى رأسها مدى قدرة الوساطات الإقليمية على إحداث خرق لهذا التصعيد بما يمهد لتهدئة ولو نسبية.