“طوفان الأقصى” و”السيوف الحديدية”… جولة قصيرة أم حرب متعددة الجبهات؟
كانت التطورات المتلاحقة في فلسطين المحتلة خلال الفترة الأخيرة، وما يرتبط بها من تطورات تشهدها الساحة السورية، تنذر بقرب حدوث تصعيد غير محدد النطاق، منبعه قطاع غزة، لكن رغم هذا احتوت عملية “طوفان الأقصى”، المستمرة حتى وقت كتابة هذه السطور على جملة من المفاجآت التكتيكية والميدانية، التي تعطي لهذه الجولة من جولات المواجهة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، أبعادًا نوعية مختلفة على المستوى العسكري والاستراتيجي.
من حيث الشكل، لم تكن عملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها في السادسة من صباح اليوم كتائب القسام -الذراع العسكرية لحركة حماس- مجرد عملية اشتباك صاروخي مشابهة للاشتباكات السابقة التي كانت تدوم ساعات وأحيانًا أيامًا بين فصائل غزة والجيش الإسرائيلي، بل يمكن وصفها بأنها “عملية مشتركة ومعقدة”، هاجمت فيها وحدات خاصة تابعة للكتائب، معظم المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، بشكل متزامن ومنسق، برًا وبحرًا وجوًا، ليس فقط من أجل “الإغارة” على المستوطنات بشكل مباغت والعودة مرة أخرى إلى القطاع، بل من أجل السيطرة الميدانية لفترة وجيزة على الأجزاء المهمة داخل هذه المستوطنات، وتدمير ما يمكن تدميره من معدات ومواقع أمنية وعسكرية، واستهداف أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين – خاصة الجنود – سواء بتحييدهم عن طريق الاشتباك المباشر، أو عن طريق اعتقالهم وإرسالهم بشكل فوري إلى داخل القطاع.
عنصر المباغتة في هذا الهجوم كان لافتًا بشكل يدعو للتعجب، بالنظر إلى حقيقة أن الحدود الفاصلة بين قطاع غزة والمستوطنات الإسرائيلية المحاذية له تقبع تحت نظام مراقبة وتأمين صارم وشامل، يشمل: مئات كاميرات المراقبة، وعشرات مواقع الحراسة والتأمين، بجانب المراقبة الجوية المستمرة سواء عبر مناطيد المراقبة أو عبر الطلعات الروتينية لطائرات الاستطلاع بدون طيار، وبالتالي كانت طريقة تنفيذ هذا الهجوم، وما بدا أنه “ذهول” أصاب وحدات الحراسة الإسرائيلية المرابطة على حدود القطاع يعد من أهم مفاجآت هذه العملية.
في الجانب البري لهذا الهجوم -المستمر حتى وقت كتابة هذه السطور- هاجمت عناصر خاصة من كتائب القسام، 21 نقطة من نقاط السياج الحدودي، ومن ثم عبرت إلى سبعة مستوطنات إسرائيلية تقع جميعها جنوبي القطاع، منها مستوطنات “بيت حيفر” و”يئيري” و”سديروت” و”نتيفوت”، بجانب مهاجمة موقع “كرم أبو سالم” العسكري، والمعبر الحدودي الذي يحمل نفس الاسم، والذي يقع شرقي مدينة رفح. تمكنت العناصر المهاجمة -بسهولة واضحة- من دخول كافة هذه المستوطنات، بل ونفذت بداخلها عمليات مداهمة واعتقال لمن صادفوه من الإسرائيليين، الذين كان واضحًا أنهم فوجئوا بشكل تام بوجود المقاتلين الفلسطينيين في عمق المستوطنات.
لم تقتصر هذه المفاجأة على سكان المستوطنات، بل شملت أيضًا الجنود الإسرائيليين الموجودين داخل موقع الحراسة العسكرية على طول السياج الحدودي، وكذلك المتواجدين داخل موقع كرم أبو سالم، الذين لم يبد أغلبهم مقاومة تذكر، وبدا أنه قد تمت مباغتة اغلبهم، لدرجة أن عدة دبابات إسرائيلية من نوع “ميركافا-4” -الأحدث في الترسانة الإسرائيلية- والتي كانت مكلفة بالتمركز في عدة نقاط على طول السياج الحدودي مع القطاع، قد تم إحراقها وإعطابها، دون أن تبادر أطقمها بأية ردود فعل ميدانية.
وظهر بوضوح أن هذه الأطقم لم تتبلغ بأية معلومات حول الهجوم الفلسطيني، ووجدت نفسها منتشلة من داخل الدبابات التي تتمركز بها، وتنتقل بشكل سريع إلى داخل قطاع غزة، أسوة بأعداد لم تحدد حتى الآن من الجنود والمدنيين الإسرائيليين، الذي تم نقلهم إلى داخل القطاع بشكل منسق، يوحي بأن الهدف الأساسي لهذا الهجوم كان الحصول على أكبر قدر من الأسرى الإسرائيليين، يحتمل بشكل كبير ان يكون من بينهم، الجنرال “نمرود ألوني”، القائد السابق لفرقة غزة، والذي يتولى حاليًا منصب قائد “فيلق العمق” في الجيش الإسرائيلي.
تمكنت عناصر المقاومة الفلسطينية أيضًا من السيطرة على عدد من المركبات العسكرية الإسرائيلية الخفيفة، ونقلتها أيضًا إلى داخل قطاع غزة، وقد أظهرت المشاهد المصورة المتوفرة، وقوع أعداد غير محددة من القتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي، بجانب عدد من المستوطنين من بينهم رئيس مستوطنة “شاعر هنيغف”، وهو ما شكل صدمة صاعقة للسكان المتواجدين في المستوطنات التي تمت مهاجمتها، نظرًا لأن كافة التقديرات الإسرائيلية السابقة لم تضع في اعتبارها إمكانية تنفيذ عمليات برية مباغتة بهذا الشكل ضد مستوطنات غلاف قطاع غزة، واعتماد هذه التقديرات على كثافة الإجراءات الأمنية الإسرائيلية على محيط السياج الحدودي المحيط بالقطاع.
اللافت أن الهجوم البري الفلسطيني قد صاحبته تحركات جوية وبحرية، تتمثل في تحرك وحدة “صقر” وهي وحدة مظلية تابعة لكتائب القسام، تعتمد على التحليق الشراعي باستخدام مظلة، وهو ما ساهم في الوصول السريع للمقاتلين إلى مستوطنة “نتيفوت”، وكذلك كان له تأثير نفسي مهم، نظرًا لأن استخدام هذه التقنية، وكذلك تسجيل تحرك لزوارق خفيفة تابعة للفصائل الفلسطينية على الساحل الشمالي للقطاع يمثل في حد ذاته إعادة لمشاهد سابقة تمثل أحد أنجح العمليات الفدائية الفلسطينية، وتحديدًا عملية “قبية” عام 1987، التي تم استخدام الطائرات الشراعية فيها، أو عملية الهجوم على فندق “سافوي” عام 1975، التي استخدمت المجموعة المنفذة لها زورقًا خفيفًا للوصول إلى شاطئ تل أبيب.
جدير بالذكر هنا أن التحركات الجوية الفلسطينية قد شملت أيضًا استخدام الطائرات المسيرة، وتم خلالها استخدام إحدى الطائرات لتدمير احدى دبابات “ميركافا-4″، عن طريق إلقاء رأس حربي ترادفي خاص بالقاذفات الكتفية المضادة للدبابات “PG-7VR”، بجانب استخدام طائرات أخرى لاستهداف تجمعات الجنود الإسرائيليين في محيط مستوطنات غلاف غزة، بإلقاء القنابل اليدوية عليهم بشكل مباشر.
لم تقتصر التحركات الفلسطينية على هذا، فبالتزامن مع الهجوم على المستوطنات، أطلقت الفصائل الفلسطينية -في وقت وجيز- ما يناهز 2500 صاروخ، استهدفت كامل المناطق الشمالية لقطاع غزة، من عسقلان جنوبًا إلى تل أبيب شمالًا، بجانب المناطق المحيطة بمدينة القدس، وهو ما أسفر عن إصابات مباشرة في عدة مدن من بينها عسقلان، التي تعرضت فيها محطة “روتنبيرج”، وهي ثاني أكبر محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في إسرائيل، إلى أضرار بالغة نتيجة للصواريخ الفلسطينية، وهو ما دفع -بجانب العمليات البرية- القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى إعلان حالة الطوارئ واستدعاء القوات الاحتياطية، وإعلان الطوارئ في نطاق 80 كيلو متر من حدود قطاع غزة، وإطلاق عمليات جوية وبرية تحت اسم “السيوف الحديدية”، تستهدف ضرب مواقع الفصائل في قطاع غزة، وتأمين المستوطنات التي تم اختراقها.
في الخلاصة الأولية، يمكن القول إن فشلًا مركبًا قد شاب اليوم منظومة الإنذار والمراقبة الإسرائيلية، يمكن بسهولة وبمنتهى الموضوعية مقارنته بالفشل الذي شاب هذه المنظومة خلال الأيام القليلة التي سبقت حرب أكتوبر 1973، وهو فشل يضم بين ثناياه عدم كفاءة واضحة للأطقم الميدانية الإسرائيلية، خاصة العاملة في سلاح المدرعات. كذلك تجد إسرائيل نفسها أمام وضع خطير على المستوى الميداني الحالي، وعلى مستوى الإدارة المستقبلية لملف “الأسرى الإسرائيليين”، الذين تقدر أعدادهم بالعشرات، وقد يفرض هذا الوضع على تل أبيب تقديم تنازلات كبيرة، سوف تضيف بالقطع نيرانًا جديدة، للغضب المتصاعد في الداخل الإسرائيلي على المستوى السياسي والمجتمعي، وهو ما سيضاف إليه في المحصلة ثورة داخلية تتعلق بالأداء العسكري الإسرائيلي السيء في هذه المواجهة، والذي لن يكرس فقط “عقدة أكتوبر”، بل سيفاقم من “حالة التمرد” السائدة منذ أشهر في داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.