مسيرة التنمية الثقافية في مصر كجزء من بناء الإنسان
اضطلعت الثقافة والمثقف المصري بمسألة الحداثة في مصر منذ عهد الأسرة العلوية وبدأت مع بداية تاريخ محمد علي في مصر، ومنذ ذلك الوقت صعب بحال من الأحوال الفصل بين دور المثقف المصري فيما شهدته البلاد من نقلة حداثية، اعتمدت بالأساس على المصريين العائدين من أوروبا، وما نقلوه من مظاهر للحداثة ارتبطت بالفكر السائد لدى المثقف المصري في ذلك التوقيت الذي شكل فارقًا حقيقيًا للدولة المصرية، حيث اعتمد المثقف المصري على نقل ما تلقاه من علوم لمؤسسات الدولة المصرية ومحاولات الإسهام في تطويرها، والابتعاد عن حالة الانتقاد التي تخصم أكثر مما تضيف، وربما عد ذلك تخصصًا مصريًا بامتياز انعكس في إسهامات عظيمة لرجال من المثقفين الأوائل أمثال علي مبارك ورفاعة الطهطاوي وغيرهم.
ولذلك يمكن القول، أن مصر قد استطاعت الخروج بمقاربة خاصة بها اعتمدت على مزج كثير من الأفكار الحداثية بالواقع المصري وأحد أهم روافده وهي الثقافة المصرية، لتنتج ثقافة فريدة استطاعت الحفاظ على أصالتها والاندماج في العالم المعاصر، ولا نبالغ إذا ما أشرنا أن هذه المقاربة المصرية الفريدة شكلت النواة التي بني على أساسها التأثير المصري الثقافي الفريد في المنطقة العربية والإقليم، ولا شك في أن ذلك كانت له انعكاسات على التأثير السياسي لمصر في الدوائر العربية والإفريقية والإقليمية، وبعبارة أخرى لا يمكن فصل التأثير الثقافي لمصر عن فعاليتها السياسية بل إنها تعد جزءًا منها وسببًا من أسبابها.
وترتبط الثقافة المصرية من هذا المنطلق بهوية تم تشكيلها على مدى الآلاف من السنين، بدأت بأول دولة مركزية في التاريخ عندما تم توحيد القطر المصري على يد مينا موحد القطرين، ولذلك كان من الطبيعي أن تعمل الدولة المصرية منذ عام 2014 على إعادة تفعيل هذه الهوية لاتصالها بالثقافة المصرية ومن ثم لتأثيراتها السياسية. وذلك في إطار مشروع نهضوي ثقافي يتزامن مع عملية البناء والإصلاح الداخلي فيما بعد ثورة يونيو 2013، خصوصًا بعدما اتضح من وجود خلل وإشكالية حول تراجع المكون الثقافي في معادلة البناء، الأمر الذي استدعى رسم ملامح جديدة للإصلاح الثقافي، من خلال مشروع ثقافي يعيد رسم ملامح جديدة للشخصية المصرية، ومعالجة الكثير من السلوكيات والتفاعلات والقيم المجتمعية التي تنامت في أركان المجتمع المصري وتبدو جديدة عليه.
وجاء ذلك بعد معاناة الثقافة من عراقيل متعددة في الفترة ما قبل 2013، تمثلت في تمركز الأنشطة والمراكز الثقافية في العاصمة ومراكز المحافظات ونقص التمويل، وهو ما كان يجب تغييره بالكامل طبقًا لدستور 2014 الذي أقر في مادته رقم 48 أن الثقافة حق لكل مواطن تكفله الدولة وتلتزم به دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي.
وقد مثل ذلك نقطة انطلاق لاستراتيجية وزارة الثقافة التي عملت عليها لتغيير تلك الأوضاع، فتنوعت وتعددت المشاريع الثقافية لتشمل جميع المحافظات وتم بالفعل تنفيذ 162 مشروعًا بتكلفة إجمالية قيمتها حوالي 3.6 مليارات جنيه، بينما يجري العمل على حوالي 46 مشروع آخرين بتكلفة 4.6 مليارات جنيه. وسارت هذه المشاريع بالتوازي لتغطية عدد من المحاور حسب أولوية الاهتمام بها فشملت:
أولًا) تطوير المؤسسات والمنشآت الثقافية في جميع محافظات الجمهورية:
- في هذا السياق تم تطوير 148 مسرح بزيادة بلغت 88 مسرحًا مقارنة بعام 2014، وعلاوة على ذلك تم افتتاح حوالي 85 موقعًا ثقافيًا في السنوات الأخيرة، وتطوير حوالي 357 من القصور والبيوت بزيادة 30 قصر ثقافة مقارنة بعام 2014.
- كذلك عملت الوزارة على تطوير 35 مكتبة و19 متحفًا، وتوفير حوالي 2500 نشاط ثقافي، وتطوير 9 مدارس ومعاهد تعليمية بأكاديمية الفنون.
ثانيًا) تنظيم معارض الكتاب: والتي تضمنت تنظيم 55 معرضًا سنويًا، استطاعت أن تخدم حوالي 3.5 مليون زائر في عام 2023 وحده.
ثالثًا) إطلاق العديد من المشروعات والمبادرات الثقافية: والتي تضمنت (مشروع سينما الشعب- مشروع مسرح المواجهة والتجوال-مشروع المسارح المتنقلة-مشروع أهل مصر- مبادرة صنايعية مصر- تنمية مهارات ذوي الهمم- المشاركة بمبادرة حياة كريمة- مشروع ابدأ حلمك مشروع ذاكرة المدينة-مشروع توثيق المباني- الانتهاء من ترميم مصحف حجازي- تكثيف العمل في محال الريادة الثقافية محليًا دوليًا من خلال عدد من المهرجانات مثل مهرجان العملين ومهرجان القلعة ومهرجان الموسيقى العربية- مشروع رقمنة المحتوى الثقافي- مدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الإدارية الجديدة ).
رابعًا) زيادة وتيرة العمل في مشاريع الترجمة والنشر: حيث تم ترجمة حوالي 1313 كتاب، وإصدار 6 آلاف عنوان جديد.
من ناحية أخرى، فإنه عند الحديث عن الثقافة المصرية لا يمكن تغييب مفهوم الهوية حيث عرف مفهوم الهوية انتشارًا واسعًا، مكتسحًا في وقت قصير العلوم الإنسانية وخاصةً الاجتماعية، وفرض نفسه في تحليل حقائق متنوعة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفًا متوافقًا عليه لمفهوم الهوية. وقد أثبتت الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة ما مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية، والنفسية، والمعيشية، والتاريخية المتماثلة، التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم.
ومن هنا، يمكن الإشارة إلى إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية طابعًا تتميز به عن الشخصيات الوطنية الأخرى. ولذلك كان هناك حالة من الحرص فيما بعد 2014 للتركيز على إعادة إحياء مفهوم الهوية متضمنًا الجانب التشريعي.
وتنظر الدولة لملف الهِوية الوطنية باعتباره ملفًا حيويًا، لا يمكن أن ينفصل عن قضية الحفاظ على الأمن الوطني بالكامل. وعلى هذا الأساس، بذلت الدولة عددًا من الجهود التشريعية في هذا السياق، من ضمنها ما تم تنفيذه في غضون العشر سنوات الماضية، ومن ضمنها أيضًا ما أقرته الدولة فيما قبل ذلك لكنها تظل متمسكة بالعمل على ضمان فاعلية الدور المصري في تحقيقه، مثل المعاهدات والمواثيق الدولية. والتي يعد من أبرزها التعهدات الدولية الكبرى، التي تلتزم مصر بتعهداتها بموجب توقيعها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، والذي يضمن أن تعمل الدولة على ترسيخ المشاركة في الحقوق الثقافية.
ومن هذا المنطق، يجوز القول إن مصر صادقت على كافة الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بوجه عام، وبمجال تعزيز الثقافة والفنون والهوية في المجتمعات المختلفة بوجه خاص. ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عام 1966، والذي أكد في المادة 15 على حق كل إنسان في أن “يشارك في الحياة الثقافية، ويتمتع بفوائد التقدم العلمي وبتطبيقاته، وأن يستفيد من حماية المصالح المعنوية والمادية الناجمة عن أي أثر علمي أو فني أو أدبي من صنعه، مؤكدًا على ضرورة مراعاة الدول الأعضاء للتدابير التي ستتخذها بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الحق، وأن تشـــمل تلك التـدابير التـــي تتطلبها صيانة العلم والثقافة وإنمائهما وإشاعتهما.
ومن هذا المنطلق كان لابد من أن تكون قضية الثقافة والهوية الوطنية جزءًا من جدول أعمال الحوار الوطني ضمن لجنة الثقافة والهوية الوطنية، لا سيما مع توافق مجلس أمناء الحوار الوطني بالبدء بمحور الهوية الوطنية في أولى جلسات المحور المجتمعي، نظرًا لأهمية الهوية الوطنية في بناء وتشكيل الوعي الجمعي، فالحديث عن الهوية الوطنية هو حديث عن عنوان هذه الأمة.
ولدى المجتمعات العربية وفي قلبها مصر تحدٍ يتعلق بكبر حجم الكتلة الشابة، والتي تمثل نحو 40% من عدد السكان، وهذه الكتلة الشابة تواجه العديد من التحديات أبزرها التحدي المرتبط بالعولمة والرقمنة التي قد تؤثر سلبًا على هذه الشريحة، لذا تبرز أهمية دور الإعلام والثقافة وتطوير الخطاب الديني بما يناسب العصر. وكذلك أهمية تعزيز القدرات على الخلق والإبداع والتقدم، والتركيز على دعم الصناعات الثقافية المختلفة والفنون والآداب من رواية وشعر وقصة قصيرة والفنون التعبيرية والتشكيلية والترجمة وغيرها، لأنها من المحاور المهمة التي تحتاج للمناقشة للوصول لتوافق بشأن وضع أسس ومبادئ لها في المستقبل، لأن الثقافة هي أساس نسيج الأمم.
وينبع اهتمام الدولة بمسألة الهوية التي هي جزء أصيل من الثقافة انطلاقًا من عدد من الاعتبارات، أهمها قدرة الهوية الوطنية على تحويل التعدد والتنوع الطبيعي في المجتمع إلى ثروة، وترجع خصوصية الحالة المصرية هنا إلى وحدة الهوية التي ترتكز على وحدة المكون بشكل كبير، وهو ما يقر حالة أمان واستقرار في المجتمع لا تتواجد في الدول والمجتمعات التي تتقاطع فيها الهويات الدينية والقومية والثقافية، وهو ما يحدث حالة من الانقسام حول الأهداف الوطنية، لأنه في المجتمعات التعددية تعلو قيمة الأنا وينطلق كل مكون من مصلحة ذاتية.
ومن هنا راعت الدولة المصرية ضمن استراتيجيتها لبناء الإنسان فيما بعد 2014 مسألة المواطنة، والتي تستند بشكل أساسي إلى ممارسة جميع أبناء المجتمع لكافة شعائرهم الدينية واحتفالاتهم الخاصة بحرية كاملة، مع الاعتراف الكامل للدولة بهذه الشعائر والاحتفالات، ومع إنشاء مؤسساتهم الدينية والثقافية بحرية كاملة ودون أية معوقات من الدولة، مما يمنح مواطني الأديان المختلفة كافة حقوقهم التي تقنعهم عمليًا بأن قيمة ومكانة الوطن أعلى وأهم من الدين ومن الطائفة، وأن قيمتهم الخاصة لن تتحقق إلا في سياق قيمة الوطن الواحد، مما يزيل من نفوسهم مسببات التطرف.
أما عن مستقبل الثقافة المصرية، فقد قال فيها العميد طه حسين إننا لا يجب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب؛ لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا، وبمقدار ما نقيم حياتنا المستقبلية على حياتنا الماضية والحاضرة وأننا بذلك نجنب أنفسنا كثيرًا من الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام والاسترسال مع الأحلام.
قائمة المراجع:
- https://marsad.ecss.com.eg/78136/
- https://marsad.ecss.com.eg/77320/
- https://acpss.ahram.org.eg/News/17166.aspx
- https://acpss.ahram.org.eg/News/16346.aspx
- https://www.diwanalarab.com/%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9
- https://www.drabdelmoaty.com/2022/08/Egyptian-culture.html