
منذ نهاية العام الماضي، تقوم إيران بجهود وساطة بين تركيا وسوريا لاستعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين بعد أكثر من عقد على انقطاعها بينهما؛ في ظل مناداة حكومة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، برحيل الرئيس السوري بشار الأسد وحكومته عن السلطة منذ عام 2011. وترى إيران أن استعادة هذه العلاقات، تحت شروط بعينها، سوف يفيد سوريا وإيران معًا بشكل كبير.
حيث إن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق يتضمن في طياته انسحابًا تركيًا من مناطق الشمال الغربي السوري، وتعزيز العلاقات التجارية الرسمية بين البلدين مما يدعم الاقتصاد السوري، وهو أمر يخدم المصالح الإيرانية أيضًا في سوريا، إلى جانب أن ذلك الانسحاب سيعطي النفوذ الإيراني في سوريا مجالًا ومساحة أوسع، خاصة في الشمال الذي يرغب الحرس الثوري الإيراني منذ سنوات في إيجاد موطئ قدم ثابتة له فيه.
وعلاوة على ذلك، فإن استئناف مثل هذه العلاقات يعزز من الاستقرار الأمني والسياسي في سوريا ولحكومة الأسد، وبالتالي يعزز من مكاسب إيران في سوريا ما بعد هزيمة التنظيمات الإرهابية، وهي مشاريع إيرانية سياسية واقتصادية وعسكرية كبرى ترمي طهران إلى تحقيقها هناك منذ سنوات قليلة.
ومن هذا المنطلق، أعاد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قبل أيام طرح مقترح بلاده الرامي لاستعادة العلاقات بين تركيا وسوريا بشرط انسحاب القوات العسكرية التركية المتمركزة شمال البلاد في المناطقة الكردية. ومع ذلك، فقد أعلن وزير الدفاع التركي، يشار جولر، يوم 22 سبتمبر الجاري عن رفض بلاده مقترح طهران حول سحب أنقرة قواتها من سوريا، مشددًا على أن تركيا “لن تسحب قواتها من سوريا إلا بعد تهيئة بيئة آمنة”.
وأضاف جولر، في تصريحات صحفية له، “نحن لا نتعدى على أراضي أحد، وقد أوضح الرئيس رجب طيب أردوغان هذا في كل اجتماع، نحن لسنا بحاجة إلى أرض غيرنا”. ولفت الوزير التركي إلى أن “تركيا بحاجة إلى خلق بيئة وظروف آمنة في الأراضي السورية التي لها حضور بها”، موضحًا أن بلاده “ستغادر بكل سرور” سوريا عندما يتم تشكيل حكومة تشمل جميع الأشخاص القائمين هناك، على حد تعبيره.
دوافع الرفض التركي لصيغة المقترح الإيراني لتطبيع العلاقات مع سوريا
تكمن عدة أسباب، وراء رفض أنقرة لصيغة المقترح الإيراني الرامي لانسحاب قواتها من سوريا، في الوقت الذي تتمتع إيران فيه بحضور سياسي وعسكري قوي هناك، ويمكن حصر هذه الأسباب فيما يلي:
1- مخاوف أمنية حدودية:
تتوجس تركيا خيفة من أن انسحابها من الشمال السوري، قد يسبب لها في المستقبل تهديدات أمنية قادمة من الجنوب، ممثلة في استهداف الجماعات الإرهابية لمدن تركية ليس فقط في الجنوب بل وفي العمق التركي، وذلك على غرار بعض العمليات التي نفذتها مثل هذه الجماعات خلال السنوات السابقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قام تنظيم “داعش” الإرهابي بعدد من العمليات الإرهابية في مدن الجنوب التركي وفي مناطق أخرى بالعمق خلال السنوات السابقة، كان من بينها هجوم وقع في منطقة “سروج” القريبة من الحدود السورية في 20 يوليو 2015 تسبب في مقتل 34 شخصًا وإصابة حوالي 100 آخرين، كما قام “داعش” بعملية أخرى سابقة في الأول من مايو 2015، أمام مقر قيادة الشرطة في مدينة “غازي عنتاب” جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود السورية، أدى إلى مقتل 3 شرطيين أتراك.
2- الاستمرار في تقييد أنشطة الجماعات الكردية المسلحة:
لعل الدافع الأبرز وراء التمركز التركي في الشمال السوري، يكمن في سعي أنقرة لكبح جماح أنشطة الجماعات الكردية المسلحة المناوئة للحكومة التركية والنشطة على الأراضي السورية في هذه المناطق. حيث تقيم هناك جماعات “حزب العمال الكردستاني” وقوات “قسد” اللتين تتهمهما الحكومة التركية بتنفيذ عمليات ضد البلاد. ويمثل هذا الكبح هدفًا ثمينًا وغاليًا لتركيا وللرئيس أردوغان.
وقد دفعت أنشطة حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا بوجه خاص والقوات الكردية بوجه عام في تلك المنطقة، الجيش التركي للقيام بعدد من العمليات العسكرية التي تراوحت ما بين المحدودة والواسعة للسيطرة على أنشطة هذه الجماعات الكردية في الشمال السوري، سعيًا لعدم تهديدها الأمن التركي من الجنوب خاصة في ظل تعاون أكراد العراق مع نظرائهم في سوريا وكذلك في إيران، ما قد يقوي من موقف أكراد سوريا مستقبلًا، وظهور حالة من الفراغ في حال انسحبت تركيا من المناطق الشمالية.
وفي هذا الصدد، كان الجيش التركي قد شن في نوفمبر 2022 قصفًا جويًا ومدفعيًا على نقاط تمركز قوات “قسد” الكردية في شمال سوريا، وهو ما جاء بعد اتهامات تركية لجماعات كردية بالوقوف خلف انفجار دامٍ في إسطنبول حدث قبلها بقليل.
وترغب أنقرة إجمالًا في تأمين حدودها الجنوبية بعمق 30 كيلومترًا في الأراضي السورية، حسب تصريحات أدلى بها الرئيس التركي أردوغان في يونيو 2022، حينما قال إن “تركيا سوف تبدأ مرحلة جديدة لتأمين عمق 30 كيلومترًا لحدودها مع سوريا في الجنوب”، ووعد آنذاك بالعمل على ذلك “خطوة خطوة في مناطق أخرى”.
ولعل الجماعات الإيرانية الوكيلة في سوريا ليست ببعيدة عن هذا الهدف التركي؛ حيث إن الأتراك لطالما أشاروا في مخاوفهم للأمريكيين بأن المسألة في الشمال السوري لم تعد تقتصر على الجماعات الكردية، بل بات الأمر يشمل بعض الجماعات الوكيلة لإيران. حيث أشارت تقارير تركية في وقت سابق إلى أن مسألة “انتشار الحرس الثوري الإيراني على مناطق الحدود الجنوبية بين سوريا وتركيا”، وأن “الحرس الثوري الإيراني يريد مدّ هذا الانتشار العسكري الاستخباراتي المباشر أو المؤيد له على طول الحدود الجنوبية لتركيا”.
3- الحفاظ على مكتسبات العمل العسكري داخل سوريا على غرار إيران:
إن ما يعزز قرار الرفض التركي للمقترح الإيراني بالانسحاب من الشمال السوري، ميل أنقرة الشديد إلى الحفاظ على حضور عسكري لها في سوريا بشكل عام وذلك على غرار الحضور الإيراني والروسي والأمريكي، خاصة وأن تركيا دولة جارة لسوريا وسوف يساهم حضورها هناك في تحقيق الهدفين السالف الإشارة إليهما، بالإضافة إلى أن تركيا ترى أن حقيقة تواجدها العسكري على الأراضي السورية يُعد مكتسبًا ناتجًا عن سنوات العمل العسكري في تلك الأراضي بغض النظر عن السبب.
وعلى أي حال، فإن أنقرة بوصفها لاعبًا إقليميًا تميل إلى الحفاظ على نشاطها وحضورها العسكري في سوريا الجارة الإقليمية، مما يمكنها في أي وقت من الضغط على سوريا أو المساومة والانخراط في أية مفاوضات دولية يمكن أن تخص الأزمة السورية ومستقبلها.
4- المساومة والضغط المستقبلي على حكومة الأسد:
إن بقاء القوات العسكرية التركية على الأراضي السورية، يضمن لأنقرة أن تكون جزءًا في المستقبل من أي خارطة طريق دولية أو إقليمية تخص سوريا. وتحتاج تركيا كذلك إلى توظيف هذا النفوذ في عدد من الملفات الأخرى المشتركة مع سوريا بشكل خاص، مثل ملف اللاجئين السوريين في تركيا الذين ترغب الحكومة التركية في إعادة بعضهم إلى وطنهم الأم. لذا، فإن هذا الحضور العسكري التركي يضع بين أيدي الأتراك، ورقة ضغط أو مساومة حين التعامل مع الحكومة السورية في أي وقت.
ختامًا، قد تقبل تركيا في المستقبل بانسحاب عسكري من الأراضي السورية شريطة التنسيق مع روسيا وإيران، على أن يضمنا أمن حدودها الجنوبية مع سوريا سواء مما يهددها من الجماعات الإرهابية أو الكردية في الشمال السوري، وهو أمر “قد” يتحقق إذا ما تمتعت سوريا خلال الفترة المقبلة باستقرار أمني حقيقي، يمكن معه استبعاد مخاطر تكرار عمليات إرهابية في تركيا على غرار العمليات السابقة، ويمكن معه أيضًا ضمان ألا تكرر أنقرة عملية عسكرية واسعة أخرى في الشمال السوري.
وقد أشار وزير الدفاع التركي جولر إلى مثل هذا الأمر، عندما قال في تصريحاته الأخيرة إن بلاده يمكن أن تنسحب من سوريا “بكل سرور”، إذا ما نشأت بيئة آمنة في الأراضي السورية قبل الانسحاب من خلال “اعتماد الدستور الذي أصبحت دمشق ملزمة الآن بإعداده”، وإجراء انتخابات وتشكيل حكومة جديدة تشمل الجميع.
باحث بالمرصد المصري