تجدد أزمة “ناجورنو كاراباخ” والسياقات الجيوسياسية في المنطقة
تتجدد أزمة “ناجورنو كاراباخ” بين أذربيجان وأرمينيا بشكل مستمر لعدة عوامل سياسية، وأمنية، وجيوسياسية. وعلى الرغم من أن الحرب تشتعل رقعتها في منطقة “ناجورنو كاراباخ” الانفصالية إلا أن حسابات اللعبة تتجه صوب منطقة جنوب أرمينيا على الحدود مع إيران. ويهدف التقرير التالي إلى تحليل طبيعة الأزمة، والحسابات الجيوسياسية المصاحبة لها، وتأثيراتها اللاحقة.
أولًا: طبيعة الأزمة
1- كيف اندلعت الأزمة؟
منذ 12 ديسمبر 2022، شرعت أذربيجان في تشديد الحصار على منطقة ناجورنو كاراباخ التي يقطن بها 120 ألف مواطن أرمني انفصالي نظرًا لتبعية الأرض إلى الجمهورية الأذرية، فيما استمرت الأمم المتحدة في توجيه النداء إلى الحكومة الأذرية لرفع الحصار ورفع التقييدات الأمنية على حركة النقل في ممر “لاتشين” الذي يربط منطقة ناجورنو بدولة أرمينيا. ولكن لم تستجب “باكو” (العاصمة الأذرية) لتلك النداءات، لا سيما وأنها استقبلت صمتًا روسيًا فريدًا نظرًا لتاريخ العلاقات الروسية الأرمنية.
في أغسطس وسبتمبر 2023، عقدت الحكومة الأرمينية (التي تميل في موقفها إلى الولايات المتحدة) عدة تدريبات عسكرية مع الولايات المتحدة، مما أغضب موسكو (الحليف التقليدي لأرمينيا) لا سيما بعد اتخاذ أرمينيا عدة خطوات استفزازية ضد روسيا، مثل دراسة فرص الموافقة على لائحة اتهام ضد بوتين، وإرسال مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا منذ بدء الحرب.
وفي 15 سبتمبر 2023، استنفر الجيش الأرمني تحركات عسكرية للتحرك صوب منطقة ناجورنو كاراباخ لإنقاذ رعاياها وفك الحصار المشتد عليها. وفي الأيام الأخيرة، بعثت باكو إشارات تحذيرية في اللحظات الأخيرة قبل التحرك العسكري لاستهداف الحركات الانفصالية المسلحة الأرمينية في ناجورنو؛ وبالفعل استسلم المسلحون أمام الضربات الأذرية الكثيفة.
2- الموقف من الاتفاق الموقع في 2020
وقع الطرفان الأذري والأرمني اتفاق وقف إطلاق النار في 2020، وتضمن شروطًا واضحة لإدارة علاقة الطرفين بالمنطقة “ناجورنو كاراباخ”. وينص البند (8) على أن “تكفل جمهورية أذربيجان سلامة حركة المرور على طول ممر لاتشين للمواطنين والمركبات والسلع في كلا الاتجاهين”. ولكن نص البند (12) “سيتم بناء اتصالات جديدة في مجال النقل تربط جمهورية نخجيفان المتمتعة بالحكم الذاتي بمناطق أذربيجان”.
لذلك يُمكن وصف الأزمة الحالية بعنوان “ممر مقابل ممر”، أي التزام أذربيجان بتأمين ممر لاتشين بوحدات مراقبة تنسيقية بين أذربيجان وأرمينيا ووحدات حفظ السلام خاصة الوحدات الروسية، مقابل تقدم المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا حول إنشاء ممر جديد يربط أذربيجان بإقليم “نخجيفان” يسمى “ممر زانجيزور”. (كما هو موضح في الخريطة أدناه)
لكن في واقع الأمر، لا زالت أرمينيا تماطل في المفاوضات بشأن إنشاء الممر المشار إليه، الذي يسمح لتركيا بالأساس بالاتصال الجغرافي بالدول المتحدثة بالتركية والمحسوبة على “القومية الطورانية العثمانية القديمة” مثل أذربيجان وتركمنستان. وهو ما سبّب استياء لدى أذربيجان التي ترغب كذلك بالاتصال الجغرافي بمحافظة “نخجيفان” التابعة لسيادتها.
ويعود سبب مماطلة أرمينيا في ملف إنشاء الممر “زانجيزور” إلى الموقف الإيراني الرافض لتغييرات جيوسياسية في المنطقة أو إعادة ترسيم الحدود البرية في تلك المنطقة، لا سيما وأن الممر سيقطع الاتصال الجغرافي بين إيران وأرمينيا، وبين إيران وروسيا، وهو ما سيضطر إيران لعقد تقارب الضرورة مع تركيا وليس تقاربا مبنيًا على توازن القوى، إذا ما أرادت اتصالًا جغرافيًا مع أوروبا، لا سيما وأن هناك عداءً تاريخيًا بين أذربيجان وإيران.
ثانيًا: أهمية ممر زانجيزور
على عكس ما يتم ترويجه في التصريحات الرسمية لأذربيجان وما يتم تصويره في الاتفاقات الرسمية الموقعة بين أذربيجان وأرمينيا، فإن ممر زانجيزور ليس مجرد ممر إنساني أو ذي طبيعة جغرافية لربط دولتين أو أكثر؛ وإنما هو ممر استراتيجي يخلق أبعاد جيو-سياسية، وجيو-اقتصادية عميقة الأثر في المنطقة.
وعند النظر إلى خريطة مشروعات البنية التحتية الأذرية، في مجال الطاقة، والسكك الحديدية، والممرات التجارية، فإن إنشاء ذلك الممر سيمنح تركيا -الداعي الأول لإنشاء الممر- وصولًا إلى أسواق دول آسيا الوسطى المتحدثة باللغة التركية، بداية من أذربيجان وصولًا إلى بحر قزوين ودول كازاخستان وتركمنستان وغيرها من الدول، وتبين الأشكال التالية أن حجم سوق الغاز الطبيعي والطاقة في آسيا سيكون واعدًا وبالتحديد في عام 2028 بعد الانتهاء من دراسات الجدوى.
ولكن نظرًا إلى العوامل الأمنية المحيطة بالمنطقة، فكانت أفغانستان وصعود حركة طالبان وتزايد ظاهرة الإرهاب في تلك المنطقة هو العامل الأبرز في التقديرات المتشائمة حيال الملف، لذلك يعد خط الأنابيب الواصل عرضًا بالأراضي التركمانستانية هو الخط الأكثر جدوى؛ لا سيما في حال اتصل بالأراضي الأذرية على الضفة الغربية لبحر قزوين. بالإضافة إلى أن العوامل السياسية المرتبطة برغبة الولايات المتحدة في الوصول إلى آسيا الوسطى دون المرور بالأراضي الروسية، جعل خط الأنابيب المحتمل بين تركمنستان وأذربيجان هو الأجدر بالتحقق؛ لجدواه الاقتصادية، والأمنية، والسياسية.
وعند النظر إلى شبكة السكك الحديدية في آسيا الوسطى، يتبين أن هناك بنية تحتية قوية بين دول آسيا الوسطى في مجال الربط السككي، تؤهلها لأن تكون سوقًا اقتصادية واعدة، لا سيما في مجال النفط (الذي يحتل 55% من الصادرات التركمانية إلى أذربيجان)، والمعادن، والحبوب الغذائية مثل القمح.
كما يتبين أن شبكة السكك الحديدية تنتهي في ميناء “ترکمانباشی” ميناء جمهورية ترکمنستان الوحيد على بحر قزوين ويربطها خط نقل بحري دائم بمدينة باكو عاصمة جمهورية أذربيجان، وهو ما يستدعي التقدير بأنه من المحتمل أن تُجرى اتفاقات تجارية ونقل بحري موسعة بين أذربيجان وتركمنستان لربط الأولى بسوق دول آسيا الوسطى.
وتشير الخريطة التالية إلى أن أذربيجان بصدد تطوير خط سكك حديدية يربط ميناء باكو المطل على بحر قزوين، بموازاة حدودها الجنوبية وصولًا إلى أقصى جنوب الحدود الأرمينية، تمهيدا لخطة إقامة وصلة سككية مع محافظة “ناخيجفيان” مع الحدود التركية.
وهو ما يدفع بالتقدير أن الجهود الأذرية طوال السنوات الأخيرة تستند على خطة إقامة ممر يقطع الحدود الأرمينية جنوبًا لإقامة ممر ملاحي تجاري وطاقوي بين أذربيجان وتركيا. وهو ما يرسم أهمية بالغة لـ “ممر زانجيزور” المشار إليه ضمنًا في اتفاقيات وقف إطلاق النار في 2020 بين أذربيجان وأرمينيا.
ثالثا: التحديات
بالنظر إلى خريطة الدول المتضررة في حال تحقق المشروع المشار إليه وإقامة “ممر زانجيزور”، يتضح أن روسيا وإيران هم أكثر الدول تضررًا من مشروع الربط، خاصة إذا كان في مجال نقل الطاقة، والتجارة. وبناء على ذلك يمكن تقدير التحديات على النحو التالي:
1- الموقف الروسي
يسهم مشروع “زانجيزور” في تعظيم النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطى على حساب النفوذ الروسي التقليدي في المنطقة، التي تشير إليها النظريات الجيوسياسية الأمريكية بـ “قلب العالم”. وهو ما دفع روسيا خاصة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى ترجيح كفة تقاربها مع أذربيجان على حساب أرمينيا، وذلك لتوفيق وجهات النظر بين أذربيجان وإيران وربطها بمصالح اقتصادية مشتركة مثل مشروع بناء سكة حديد استرا-رشت الذي يربط إيران وأذربيجان.
كما يُفسر سبب اقتراح بوتين على تركيا أن تكون مركزًا إقليميًا للغاز إلى أوروبا، بواسطة نقل الغاز الروسي إلى تركيا. ويأتي الإعلان الروسي على تركيا كبديل عن مشروع نقل الطاقة (غاز وبترول) من آسيا الوسطى إلى تركيا عبر أذربيجان.
وهو ما يقلل احتمالات موافقة روسيا على مشروع “زانجيزور” إلا في حالة اقتصاره على نقل الأفراد فقط، ولا يرتقي إلى نقل البضائع والطاقة. لا سيما أنه في حالة بناء خط أنابيب للغاز الطبيعي فسيعظم فرص عدم احتياج أوروبا إلى الغاز الروسي وتعويضه من دول آسيا الوسطى.
2- الموقف الأرمني والإيراني
تحتمي أرمينيا بالموقف الإيراني الرافض لأي تعديل في ترسيم الحدود أو تغيير جيوسياسي في الحدود الأرمينية، خاصة أن “زانجيزور” سيقطع الاتصال الإيراني-الأرمني، وذلك في حال توافرت الظروف لنقل الطاقة الإيرانية إلى أوروبا. لذلك اقترحت الحكومة الأرمينية على أذربيجان تعديل المشروع عبر إنشاء ممر يمر في الأراضي الأرمنية؛ لضمان مراقبته والإشراف عليه وإرضاء للموقف الإيراني -حسب الصورة الموضحة أدناه- واقترحت أرمينيا أن يكون الممر داخل أراضيها (باللون الأسود).
كذلك انعكس الموقف الإيراني عبر إجراء مناورات كبيرة الحجم، وعميقة الدلالة على حدودها مع أرمينيا وأذربيجان؛ كرسالة ضمنية على رفضها لما وصفته سابقا بـ “تعديل جيوسياسي في المنطقة”.
رابعًا: الخلاصة
يأتي تجدد التصعيد العسكري في ناجورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا؛ لعاملين: الأول، وهو عامل الأرض، ويشار هنا إلى ممر “زانجيزور” الذي تطمح تركيا بإقامته للوصول إلى أذربيجان ومنه إلى آسيا الوسطى، والذي سيعد مشروعًا ذا جدوى اقتصادية واعدة وسياسية نافذة.
العامل الثاني، عامل السياسة، ويشار هنا إلى الأوزان النسبية التي تتجدد بين الأطراف الفاعلة في الأزمة أي: أذربيجان، أرمينيا، روسيا، إيران، تركيا. بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والنظرة الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة آسيا الوسطى بهدف تطويق الصين. لا سيما أن تركيا تعلن استياءها من المشروع الأمريكي “الهندي الأوروبي” الذي أعلن عنه مؤخرًا في مجموعة العشرين، وترغب في فتح مسارات جيوسياسية جديدة لها تحتفظ لها بمكانتها في المنطقة، وبالتالي تنجح أنقرة في دفع الولايات المتحدة على حتمية التفاهم بينها وبين أردوغان.