آسيا

“سلام منتهي”.. ماذا نعرف عن عملية ناجورنو كاراباخ؟

أعلنت أذربيجان أمس الثلاثاء الموافق 19 سبتمبر الجاري، عن إطلاق عمليات لمكافحة الإرهاب في إقليم “ناجورنو كاراباخ” الانفصالي المتنازع عليه، بعدما وصفته بـ “الاستفزاز العسكري” من قبل الجماعات المسلحة الأرمينية غير الشرعية، في ضوء مقتل أربعة من ضباط الشرطة واثنين من المدنيين جراء انفجار ألغام منفصلة بالمنطقة الانفصالية، وهو الأمر الذي يقوض مفاوضات السلام التي تسعى إليها روسيا وتركيا منذ فترة. 

أكدت أذربيجان أنها ستنتقم لما حدث عبر “عملية عسكرية رسمية” أسمتها عملية “إقليم كاراباخ”، وأنها أبلغت بها روسيا وتركيا، وذلك في محاولة لإخضاع المنطقة الانفصالية بالقوة، واستعادة الهيكل الدستوري لجمهورية أذربيجان، من خلال العزم على نزع سلاح وتأمين انسحاب تشكيلات القوات المسلحة الأرمينية من أراضيها، وتحييد بنيتها التحتية العسكرية.

وعقب ذلك، سُمع دوي انفجارات في معقل الانفصاليين الأرمن في ستيباناكيرت عاصمة كاراباخ، وتم غلق المجال الجوي أمام أرمينيا، والعمل على تأمين الحماية للعائدين إلى المناطق المحررة عبر الممرات الإنسانية، والتأكد من إخراج التشكيلات المسلحة الأرمينية من أراضي أذربيجان، وسط تأكيدات بأن السكان المدنيين والبنية التحتية” لم يتعرضوا للهجوم، وأكدت وزارة الدفاع في باكو أن القوات الأذربيجانية استولت حتى الآن على أكثر من 60 موقعًا عسكريًا ودمرت ما يصل إلى 20 مركبة عسكرية بمعدات أخرى كالطائرات وأنظمة الصواريخ والطائرات بدون طيار، وأعلنت أنها ل  توقف الحرب ما لم “ترفع الجماعات المسلحة الأرمنية غير الشرعية العلم الأبيض، وتسلم جميع الأسلحة، وأن يُحل النظام –غير القانوني- نفسه”.

تاريخ الصراع

كانت كاراباخ في قلب الحروب منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وكان آخر تلك الحروب في عام 2020، إذ تجدد الصراع بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم “ناجورنو كاراباخ”، وهي المنطقة الجبلية غير الساحلية في جنوب القوقاز التي كانت –ومازالت- موضع نزاع إقليمي لم يتم حله منذ عام 1988 بين أذربيجان، التي تقع فيها والمعترف دوليًا أنها أرض من أراضيها، وبين أغلبيتها العرقية الأرمنية الذين يوكلون السلطات الأرمنية الانفصالية لإدارتها، إذ تعتبر أرمينيا نفسها الداعم المالي والعسكري الأساسي لها.

وباندلاع الصراع العنيف الذي راح ضحيته قرابة 3 آلاف جندي أذربيجاني و4 آلاف جندي أرمني في ستة أسابيع من القتال، سارعت جميع دول العالم إلى الدعوة إلى وقف الحرب واللجوء للحلول سلمية، وتم نشر قوات حفظ السلام الروسية لمراقبة وقف إطلاق النار الجديد الذي توسطت فيه موسكو، وكذلك لضمان المرور الآمن عبر ما يسمى “ممر لاتشين” – الذي يفصل ناجورنو كاراباخ عن أرمينيا، وهو طريق الوصول الوحيد المعترف به دوليًا لتوفير الإمدادات الغذائية والطبية الأساسية، ووافقت القوات الأرمينية –بمساعدة تركيا- على إعادة جميع الأراضي المحتلة خارج المنطقة الانفصالية السوفيتية السابقة إلى أذربيجان، وتم طرد حوالي 90 ألف شخص من العرق الأرمني.

وفي عام 2022، اندلع القتال بين القوات الأرمينية على طول الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، وقتل نحو 100 جندي أرمني و70 جنديًا أذربيجانيًا في الاشتباكات، وفي ديسمبر من نفس العام وحتى الآن، زعمت أرمينيا أن باكو تقيم حصارًا على ممر “لاتشين”، الطريق الوحيد بينها وبين المنطقة، وزعمت أذربيجان أن الأرمن كانوا يهربون الأسلحة ويقومون باستخراج الموارد بشكل غير قانوني، ما تسبب في النهاية بأزمة إنسانية داخل الإقليم نتج عنها نقص الغذاء والدواء والوقود.

ولم تنجح المحادثات إلى الآن في التوصل إلى اتفاق سلام دائم، إذ تشارك روسيا وفرنسا والولايات المتحدة في رئاسة مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي كانت تحاول إنهاء النزاع ولكن أصبح هذا الأمر موضع شك بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، ويسعى الاتحاد الأوروبي أيضًا إلى المساعدة في التوصل إلى حل سلمي للقضية.

مؤشرات ودلالات

ربما تنبأت أرمينيا بهذا الهجوم قبل حدوثه دون انتظار ذريعة أذربيجان بمقتل جنودها عقب انفجار الألغام، فخلال الأيام القليلة الماضية، تم تداول لقطات عبر وسائل التواصل الاجتماعي الأذربيجانية تظهر على ما يبدو تحركات متزايدة للقوات الأذربيجانية حول المنطقة الانفصالية وعلى طول الحدود مع أرمينيا، هذا بجانب تأكيدات من الجانب الأرمني بأن الشحنات العسكرية من إسرائيل إلى أذربيجان قد زادت في وقت واحد، ما يشير إلى أن هناك هجومًا وشيكًا من أذربيجان على وشك الحدوث.

وقبل ذلك بأيام، أشار رئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان” – الذي تعتبره روسيا مواليًا للغرب- إلى هذه التطورات، وتحديدًا إلى “خطاب الكراهية” المناهض للأرمن الذي اشتد بكثافة في الصحافة والمنابر الدعائية الأذربيجانية، بجانب استمرار التعدي العسكري والسياسي على الأراضي ذات السيادة لأرمينيا ومحاولات جرها إلى التصعيد العسكري من قبل الجانب الأذربيجاني، كما تحدث عن دعوات لانقلاب ضده، بينما ووصفت وزارة الخارجية الأذربيجانية تحذيرات باشينيان بأنها “جزء لا يتجزأ من التلاعب السياسي الكاذب الذي تمارسه أرمينيا”.

ومنذ فترة، يتحدث مسؤولون أرمينيون عن المخططات الأذربيجانية للتطهير العرقي في المنطقة باستخدام القوة إذا لزم الأمر، وإجبار السكان المحليين على النزوح الجماعي، وكشفوا عن استعداد أذربيجان لعمليات عسكرية، في الوقت الذي تحاول فيه أيضًا ممارسة لضغط النفسي على حكومتي وشعبي جمهوريتي منطقة ناجورنو كاراباخ وأرمينيا، وكذلك قياس رد فعل الأطراف الأرمنية والجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية.

نموذج مصغر لصراع إقليمي دولي

https://www.politico.eu/cdn-cgi/image/width=1024,quality=80,onerror=redirect,format=auto/wp-content/uploads/2023/09/19/GettyImages-1245812189-scaled.jpg

يعتقد الكثير أن الحرب بين أرمينيا وأذربيجان ما هي إلا حرب بالوكالة بين القوى العظمى، وربما هذا الهجوم يجعل البلدين المتحاربتين تعيدان التقدير الاستراتيجي للأطراف التي ستنخرط هذه المرة في الصراع، وإلى أي طرف ستنحاز كل قوى كبرى، وهنا نتحدث عن خمسة لاعبين أساسيين وهم روسيا والولايات المتحدة وأوروبا وتركيا وإيران.

فمن المعروف أن الولايات المتحدة مثلًا قد أصبحت لاعب رئيس في عمليات السلام الأرمينية-الأذربيجانية منذ حرب 2020، حيث أشرفت على عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا مع الاتحاد الأوروبي، أما روسيا، فقد أدارت كما ذكرنا مسارًا تفاوضيًا منفصلًا، حيث حافظت على وجود قوامه ألفي جندي لحفظ السلام في المنطقة الانفصالية منذ نهاية الحرب.

ولكن بتغير وتسارع الأحداث الدولية الأخيرة، شككت أرمينيا وقادتها في فعالية الدور الذي تقوم به روسيا في حفظ السلام، خاصة وأن موسكو قد رفضت مساعدتها ضد التوغلات الأذربيجانية، ولم تفعل شيئًا حيال هذا الهجوم الجديد، وإلى جانب النزاع، شعرت موسكو هي الأخرى بالإهانة من تقديم أرمينيا المساعدات الإنسانية لأوكرانيا.

وبالتالي لم تعد روسيا الشريك الاستراتيجي والعسكري التقليدي لأرمينيا، وربما يعود الأمر إلى بعض الأسباب من الجانب الروسي، كعدم رضا بوتين عن الحكومة الأرمنية ذات الميول الغربية، هذا بالإضافة إلى أن الحرب في أوكرانيا قللت بالفعل من قدرة روسيا على العمل في مسرح أرمينيا، هذا فضلًا عن إثارة أرمينيا الغضب الروسي عندما رفضت السماح بإجراء تدريبات على أراضيها من قبل كتلة منظمة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو، وقامت بدلًا من ذلك بإجراء تدريبات مشتركة هذا الشهر مع القوات الأمريكية، بالإضافة لتحركها نحو التصديق على اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، والتي وجهت الاتهام للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكل هذا بالإضافة إلى تفضيل بوتين تجنب التوتر مع الزعيم التركي الذي يدعم أذربيجان ضد أرمينيا كما سنذكر لاحقًا.

ولهذا، قد يتبدل دور الشريك لتحظى به الولايات المتحدة الأمريكية، فأرمينيا تستند على الدور الأمريكي في هذا الصراع، وبالفعل بذل البيت الأبيض ووزارة الخارجية الكثير من الجهود لسد الفجوة بين الطرفين دبلوماسيًا، ولكن يبدو أن الاهتمام الأساسي لواشنطن هو العامل الجيوسياسية وليس العامل الإنساني، مما يعني انتزاع أرمينيا من بين يدي موسكو دون النظر إلى محنة ناجورنو كاراباخ نفسها، ولهذا قد يؤدي القتال في كاراباخ إلى تغيير التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز، وستسعى حينها روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في مواجهة نشاط أكبر من الدول الأخرى التي لها مصلحة في التواجد في المشهد السياسي الملتهب.

وهنا تظهر أدوار متعددة لدول أخرى تنخرط بشكل غير مباشر في الصراع، فكما ذكرنا أن محادثات وقف إطلاق النار عام 2020 حدثت بوساطة روسية تركية، ومن هنا تظهر تركيا كمحور أساسي في الصراع، ولكن يبدو أن أنقرة تحسم موقفها جيدًا من أطراف النزاع، وتتخذ صف القيادة الأذربيجانية قلبًا وقالبًا، فهي وإن لم تنخرط مباشرة في الصراع حتى لا تجد نفسها في مواجهة الولايات المتحدة، فهي لا شك ستعمل على إيصال كل ما تحتاجه من أسلحة وطائرات مسيرة لتحرير إقليم كاراباخ بشكل تام، ولكنها ستعمل بكل جهد على حل الأمر بطريقة دبلوماسية حتى لا يتطور الأمر.

وعن إيران، فقد كانت منذ فترة طويلة القوة الوحيدة التي ادعت بشكل لا لبس فيه أن حدود المنطقة لا يمكن تغييرها، ولكن يبدو أنه بعد زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة إلى طهران، تم الحصول على بعض الضمانات لتحقيق هذه الغاية لصالح أذربيجان، وهو الأمر الذي سيضع إيران في مأزق.

أما أوروبا، فقد انقسمت حول هذه المسألة، ولكنها على كلٍ تحاول التوصل إلى اتفاق سلام، ولكن سوء الفهم المزمن للديناميكيات الإقليمية والفشل في الالتزام بأي موقف مبدئي كان سببًا في تأزم الموقف، وهذا ليس نتيجة لاعتماد أوروبا على الغاز الأذربيجاني وفقط، لكن يمكن الإشارة إلى عدم رغبة أوروبا في المشاركة بشكل هادف، وهو الأمر الذي من شأنه أن يفقدها العديد من المؤيدين في أرمينيا.

ردود الأفعال الدولية

عبرت الولايات المتحدة عن قلقها إزاء التصعيد الأذربيجاني، وانتقد كبير الدبلوماسيين الأمريكيين “أنتوني بلينكن” أذربيجان بسبب أعمالها العسكرية في ناجورنو كاراباخ، ودعا باكو إلى الوقف الفوري لاستخدام القوة، مؤكدًا أن هذه التصرفات تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني المتردي بالفعل في القطاع وتقوض احتمالات السلام.

أما روسيا، فقد انضمت إلى حد كبير إلى القوى الغربية في دعم الدعوات للتهدئة وطلبت من جميع الأطراف وقف القتال، وأكد المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” أن روسيا على اتصال بكل من أذربيجان وأرمينيا وحثت على إجراء محادثات، مشددًا على أن موسكو تعتبر ضمان سلامة المدنيين أهم قضية.

وعن الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا، فقد أدانوا بالإجماع العمل العسكري الأذربيجاني، ودعوا فورًا للعودة إلى المحادثات بشأن مستقبل كاراباخ مع أرمينيا، وجاء ذلك بالتزامن مع اجتماع زعماء العالم في نيويورك لحضور الجمعية العامة السنوية، ولكن الخارجية الأذربيجانية رفضت جميع الدعوات للسلام.

وفي نجاح للجهود الروسية، أعلنت أذربيجان اليوم الأربعاء عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في ناجورنو كاراباخ عبر وساطة قيادة فرقة حفظ السلام الروسية المتمركزة هناك، وبدء محادثات مع الانفصاليين الأرمن غدًا الخميس في مدينة يفلاخ حول إعادة دمج المنطقة المتنازع عليها مع أرمينيا، وأكد الرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف” في خطاب إلى الأمة اليوم الأربعاء استعادة بلاده السيادة في ناجورنو كاراباخ، وأن الانفصاليين الأرمن بدئوا بالانسحاب وتسليم أسلحتهم بموجب اتفاق لوقف النار تم التوصل إليه بعد عملية عسكرية شنّتها باكو، وهو الأمر الذي أكده بيان صادر عن الأرمن الانفصاليين.

ختامًا، تشير التطورات الأخيرة في ناجورنو كارباخ إلى استمرار التنافس الجيوسياسي في المنطقة، وعلى الرغم من إعلان اليوم عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار إلا أن الوقائع السابقة تشير إلى أنه لن يكون وقفًا دائمًا وأن هذا الاتفاق سيتم اختراقه على المدى المنظور، وهو ما سينعكس بالتبعية على المفاوضات المقرر انطلاقها غدًا الخميس وإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام ولو بشكل مؤقت في تلك المنطقة التي تشهد صراعًا داميًا منذ سنوات. 

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى