
الحرب الأوكرانية وطرد إيران لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية
أثار قرار إيران بطرد ثلث مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من البلاد غضبًا أوروبيًا وأمريكيًا مشتركًا وواسعًا؛ نظرًا لأن هذا القرار يزيد من حجم المخاوف الغربية بشأن مسار تقدم البرنامج النووي الإيراني، خاصة وأن الذين رحلوا عن إيران هم المفتشين الأكثر خبرة على الإطلاق بين نظرائهم الدوليين، مما يعني الكثير بالنسبة للدول الأجنبية التي كانت تعتمد في جزء كبير من “اطمئنانها” فيما يتعلق بمستوى التقدم النووي في إيران على هؤلاء المفتشين الدوليين.
ولعل ما أثار القلق بشكل أكبر لدى الدول الغربية هو أن القرار، الذي تم تطبيقه في 16 سبتمبر 2023، جاء بعد أشهر من إعلان تقارير إيرانية واستخباراتية غربية عن بدء إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% ومن ثم 84%، ما يعني في طياته ضرورة كبرى لاستمرارية نشاط هؤلاء المفتشين الدوليين. بالإضافة إلى أن الخطوة جاءت بعد زيارة مهمة لمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، إلى طهران في مارس 2023 وتوصله لتفاهمات واسعة مع الحكومة الإيرانية فيما يخص الأنشطة النووية، كان أهمها على الإطلاق مراقبة هذه الأنشطة والتي تتم بالتالي عن طريق الكاميرات والمفتشين القائمين على الأرض. ما يشير إذًا إلى التراجع خطوات للوراء بشأن التعاون بين الطرفين.
ومع ذلك، يبقى هنالك تساؤل بارز بشأن السبب الذي دفع إيران إلى اتخاذ هذا القرار في الوقت الذي بدت فيه انفراجة مؤقتة في العلاقات بين إيران والدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، مع إتمام صفقة تبادل السجناء بين طهران وواشنطن بشكل كامل بعد سنوات من المفاوضات غير المباشرة وأشهر من الترتيبات المعنية، وما أشير إليه بالتزامن مع ذلك من إمكانية استئناف المفاوضات النووية في فيينا أو نيويورك مرة أخرى.
إيران تتهم الدول الأوروبية بـ “استغلال الوكالة الدولية لأغراض سياسية”
بررت إيران إخراجها 8 مفتشين دوليين، يحملون الجنسيتين الألمانية والفرنسية فقط، باستنادها إلى “الحقوق السيادية الإيرانية المنصوص عليها في المادة 9 من اتفاقية الضمانات الشاملة” بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإلى أن “الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) والولايات المتحدة، رغم تعامل إيران الإيجابي والبنّاء مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنها تعمل على تعكير أجواء التعاون بين طهران والوكالة وتستغل مجلس حكام الوكالة لخدمة أهدافها السياسية”، على حد قول المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في تصريحات له يوم 17 سبتمبر الجاري.
ويشير كنعاني في ذلك إلى اتهام الدول الأوروبية الثلاث، والولايات المتحدة، لإيران في بيان صدر قبل أيام قليلة من طرد طهران المفتشين بـ “عرقلة التخطيط والسلوك الطبيعيين عمدًا لأنشطة المراقبة (في المفاعلات النووية)، في وقت تواجه فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية مسائل خطيرة تخص المواد والأنشطة النووية غير المعلنة في إيران والتي لم يتم التوصل لحل لها حتى الآن، حيث فشلت إيران في معالجة الأمر لأكثر من 4 سنوات”، ما يعني أن القرار الإيراني كان ردًا على هذه الإدانات.
البرنامج الصاروخي الإيراني وقرار طرد مفتشي وكالة الطاقة الذرية
على الرغم من أن إيران أبدت انزعاجها من هذه الإدانات الغربية لها في الوكالة الدولية، إلا أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لاتخاذ إيران قرار إخراج ثلث مفتشي الوكالة الدولية للطاقة. فقد حدث قبل ذلك مرات كُثُر وأن أدانت الدول الغربية والوكالة الدولية للطاقة ومجلس حكامها إيران بشأن المسألة النووية، إلا أن طهران لم تُقْدِم على خطوة بهذه الجرأة من قبل خلال السنوات القليلة الماضية.
بل حتى عندما هددت إيران في يناير 2021 بإخراج مفتشي الوكالة الدولية ما لم تُرفع العقوبات الدولية بحلول 21 فبراير من العام نفسه، فإنها لم تُقدم على هذا العمل على الرغم من الاكتفاء آنذاك بعدم تجديد بعض العقوبات وليس رفع البعض الآخر. ويشير هذا إلى أن هناك سببًا آخر قويًا قد دفع إيران إلى اتخاذ هذه الخطوة.
وفي الواقع، يكمن هذا السبب في الإعلان الألماني الفرنسي البريطاني يوم 15 سبتمبر الجاري، أي قبل يوم واحد من طرد إيران المفتشين الدوليين، عن استمرار العقوبات المفروضة على إيران والمتعلقة بالصواريخ الباليستية والانتشار النووي، والتي من المفترض أن تنتهي في 18 أكتوبر 2023 بموجب بنود الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى الذي تم التوصل إليه في سويسرا عام 2015.
فقد أعلن متحدثًا دبلوماسيًا أوروبيًا باسم هذه الدول الثلاث المعروفة باسم “دول الترويكا” مؤخرًا في بيان عن أنه “في رد مباشر على عدم امتثال إيران المتواصل والشديد لالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة (اتفاق 2015 النووي) منذ عام 2019، فإن حكومات فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تعتزم الإبقاء على التدابير المتعلقة بالانتشار النووي على إيران، وكذلك حظر الأسلحة والصواريخ بعد يوم الانتقال في خطة العمل الشاملة المشتركة في 18 أكتوبر 2023”.
وفي الواقع، فإن هذا القرار من جانب الترويكا الأوروبية يمثل “كابوسًا” لدى إيران وأجهزتها العسكرية والأمنية؛ ذلك لأن الحكومة الإيرانية كانت تنتظر ذلك التاريخ من أجل إحداث نقلة نوعية في طرازات أسلحة قواتها العسكرية سواء لدى الحرس الثوري أو الجيش. ولطالما أبرزت وسائل الإعلام والصحف الإيرانية “طموح اليوم التالي” الإيراني من بعد رفع العقوبات الصاروخية.
ولعل مزايا رفع هذه العقوبات لا تقتصر فقط على هذا الأمر، بل إنها سوف تمكن إيران من بيع وشراء الأسلحة علنًا وبكميات كبيرة، خاصة في الوقت الذي أصبحت فيه الطائرات المسيرة الإيرانية مهيأة للبيع في الخارج، ما قد يرفع بالتالي من مستوى التوترات بين إيران والترويكا الأوروبية لاحقًا.
وعليه، كانت إيران تستعد ليوم مثل هذا من قبل وكان مسؤولوها يبحثون في كيفية الرد على هذا القرار. وعلى سبيل المثال، نشرت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية في نسختها الفارسية يوم 29 يونيو 2023 تقريرًا في هذا الصدد حمل عنوان “التهديد الأوروبي بشأن مواصلة العقوبات الصاروخية للهروب من آلية الزناد” رأى التقرير أن رفض الترويكا إزالة العقوبات الصاروخية “سيعني أن هذه الدول لا تنوي تفعيل آلية سناب باك، وتنوي فقط إبقاء عقوباتها على البرنامج الصاروخي الإيراني”، حسب تعبير “فارس”.
وأضاف التقرير الإيراني أن “أي تحرك من جانب الدول الأوروبية فيما يتعلق بإبقاء العقوبات الصاروخية سيكون بمثابة انتهاك للقرار رقم 2231، وسيعني مواصلة سياسة الدول الغربية في مواصلة الضغوط على إيران عن طريق الاتفاق النووي لعام 2015”.
وأشار التقرير الصادر عن وكالة الأنباء المقربة من الحرس الثوري إلى نقطة مهمة في طياته تتحدث عن النهج الإيراني المستقبلي في التعامل مع هذا القرار، وذلك حينما قال إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكدت دومًا على أنه لم يتم تصميم أي من صواريخها لحمل رأس حربية (نووية)، وبناءً على ذلك، فإن هذه الأنشطة الصاروخية لإيران لن تكون مخالفة للقرار رقم 2231″، حسب تعبير الوكالة الإيرانية المقربة من الحرس الثوري.
الحرب الأوكرانية وطرد مفتشي الوكالة الدولية من إيران
اتصالًا بما سبق، يكمن السبب الرئيس لدى الدول الأوروبية فيما يخص سعيها لإبقاء العقوبات الصاروخية على إيران كما هي بعد تاريخ 18 أكتوبر 2023، في رغبتها عدم إرسال إيران مستقبلًا المزيد من الطائرات المسيرة إلى روسيا لاستخدامها في الحرب داخل أوكرانيا؛ ذلك لأن رفع العقوبات المعنية سوف يسهل نقل هذه المسيرات.
وإلى جانب ذلك، فإن رفع العقوبات عن البرنامج الصاروخي الإيراني قد يؤثر تأثيرًا ملحوظًا على مسار الحرب الروسية الأوكرانية في أوروبا؛ لأن الدول الغربية تتوقع أن تستفيد طهران من مزايا رفع العقوبات عن برنامجها الصاروخي عن طريق إرسال صواريخ باليستية إلى موسكو لاستعمالها في الحرب ضد أوكرانيا، وهو ما دفعها للحديث عن استمرار هذه العقوبات وعدم رفعها.
ختامًا، تجدر الإشارة إلى أن هذه التطورات ستعني إضافة المزيد من الضبابية على مستقبل المفاوضات النووية بين إيران والقوى الكبرى في فيينا، والتي كانت قد توقفت قبل عام كامل، علاوة على أنها قد تدفع إيران إلى التخلص نهائيًا من أي التزام يخص الاتفاق النووي لعام 2015.
باحث بالمرصد المصري



