تركياالعراقإيران

أبعاد دخول الممرات التجارية على خط التنافس التركي – الإيراني في العراق

عاد الحديث منذ مطلع الشهر الحالي عن مشاريع جيوسياسية تستهدف ربط العراق ببعض دول الجوار الإقليمي له، وعلى وجه الخصوص إيران وتركيا؛ ففي الوقت الذي أعلنت فيه إيران في 2 سبتمبر الجاري عن وضع حجر الأساس لإنشاء أول خط سكة حديد يربطها بالعراق وهو الخط المعروف بـ “البصرة-الشلامجة”، جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في 13 سبتمبر عن إجراء مباحثات مكثفة مع العراق وكل من الإمارات وقطر بخصوص المشروع المعروف بـ “طريق التنمية التركي – العراقي”، لتعكس هذه التحركات المكثفة والنوعية انتقال مسألة التنافس التركي – الإيراني في الساحة العراقية إلى حدود جديدة، تأخذ الطابع الجيواستراتيجي، وتعتمد على آلية الربط الجغرافي كمدخل لتعزيز النفوذ.

وضع حجر الأساس لمشروع “البصرة – شلامجة”

وضع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 2 سبتمبر الجاري وبصحبته النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر حجر الأساس لإنشاء أول خط للسكك الحديد يربط بلاده بشبكة السكك الحديد في إيران، وأكد “السوداني” في كلمة له أن الهدف سيكون “رفع قدرة العراق على التواصل مع دول الجوار، واستقبال المسافرين القادمين من إيران، وبلدان وسط آسيا”، مشيرًا إلى أن “المشروع ظل قيد المناقشة لسنوات، قبل التوصل إلى اتفاق في 2021”.

وعلى المستوى الفني، قال مسؤولون في شبكة السكك الحديدية العراقية في تصريحات لوكالات أنباء إن “مشروع ربط البصرة-الشلامجة” سيربط المدينة الساحلية الكبيرة في أقصى جنوب العراق بمنفذ الشلامجة الحدودي على مسافة أكثر من 36 كيلومترًا، بمدة إنجاز تقدر بما بين 18 الى 24 شهرًا، وأكد المسؤولون العراقيون أن “الربط السككي مع إيران يتم عبر السكك القديمة وليست الخاصة بطريق التنمية”، وأن “سكك طريق التنمية هي شبكة جديدة ولا ترتبط بدول الجوار إلا مع تركيا”.

ويمكن القول إن إيران حتى وإن أكدت من خلال تصريحات مسؤوليها الرسمية أن المشروع يستهدف بشكل رئيس نقل المسافرين من وإلى البلدين، فإن المؤكد أن هذا المشروع المهم سوف يحقق العديد من المكاسب الاستراتيجية لطهران، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- استراتيجية تفعيل الممرات الدولية: تسعى إيران على مدار الأشهر الماضية إلى توظيف موقعها الاستراتيجي وما يشتمل عليه هذا الموقع من ممرات دولية من أجل لعب دور “الترانزيت” على مستوى الربط بين منطقة شرق آسيا والقارة الأوروبية؛ إدراكًا من دوائر صنع القرار في إيران لطبيعة المكاسب خصوصًا الاقتصادية التي ستتحقق من جراء الاستفادة من هذه الممرات، إلى الحد الذي دفع محمد مخبر نائب الرئيس الإيراني إلى القول إن “استغلال ممرات النقل الدولي وتحول إيران إلى محطة ترانزيت يمكن أن يكون بديلًا مناسبًا للعائدات النفطية”، مشيرًا إلى وضع الحكومة الإيرانية خطة شاملة لتطوير قطاع النقل في البلاد. وفي هذا السياق، سوف يسهم مشروع “البصرة – شلامجة” عمليًا في الربط بين إيران والعراق وكذا سوريا، على المستوى الجغرافي، فضلًا عما سيترتب على ذلك من معاملات تجارية واقتصادية.

2- تجنب العقوبات الاقتصادية: يأتي خط السكة الحديد المعروف بـ “البصرة – شلامجة” بين إيران والعراق كجزء من مشروع استراتيجي كبير تقوم به إيران مع حلفائها والدول المجاورة، من أجل عزل الممرات الاقتصادية لبضائع تلك الدول -سواء كانت روسيا أو غيرها- عن الممرات التي يمكن أن تتعرض فيها للعقوبات الأمريكية. وعمليًا، فإن هذا الممر السككي يمر في إيران ثم العراق ولاحقًا سوريا، ليصل إلى ميناء اللاذقية الموجود شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن هنا يمكن أن تتجه البضائع إلى أوروبا وأفريقيا وغيرها من الدول والفرع الآخر يتجه إلى دمشق، وبهذا يتم حماية البضائع سواءً كانت عراقية أو إيرانية أو غيرها من التعرض للعقوبات الأمريكية، فضلًا عن أن المشروع ينمي العلاقات الاقتصادية الإيرانية والعراقية والسورية ويوفر تكاليف كبيرة في الممرات والجمارك.

3- الحفاظ على المصالح الاقتصادية في العراق: لا يمكن فصل المشروع الإيراني الجديد في العراق عن استراتيجية طهران الأعم تجاه العراق، وهي الاستراتيجية التي يحظى العامل الاقتصادي فيها بأهمية كبيرة، خصوصًا على مستوى الحرص الإيراني على تأمين الوصول إلى الأسواق العراقية، لا سيما وأن العراق يعد ثاني أكبر مستورد للسلع الإيرانية غير النفطية، وبالتالي يعد الخط السككي الجديد بين البلدين إحدى الآليات المهمة لضمان تحقيق هذا الهدف.

4- مواجهة الضغوط الأمريكية: يأتي الإعلان عن الخط السككي الجديد بين العراق وإيران في سياق تسعى فيه الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوط كبيرة على السلطات العراقية من أجل فك الارتباط بالجانب الإيراني، وهو ما تجسد بشكل واضح في بعض المظاهر الرئيسة، ومنها ممارسة الخزانة الأمريكية ضغوطًا على المصارف العراقية عبر حرمانها من آلية التحويلات البنكية العالمية المعروف باسم “سويفت” في محاولة لمنع تهريب الدولار إلى إيران، كذلك فقد فرض البنك الفيدرالي الأمريكي قيودًا صارمة على المعاملات الدولارية من قبل البنوك التجارية العراقية منذ نوفمبر 2022، وهو ما أدى إلى حظر أكثر من 80% من التحويلات اليومية بالدولار في العراق، ويرجع ذلك إلى أن البنوك العراقية لم تلتزم بتحويل الأموال باستخدام نظام “سويفت”، وهو ما فتح الباب أمام تهريب الدولار إلى إيران لسد احتياجاتها من العملة الأجنبية، كذلك أشار العديد من التقارير إلى أن الإدارة الأمريكية تضغط على العراق  من أجل دفع بغداد لإعادة توجيه قطاع الطاقة العراقي بعيدًا عن إيران، وهو ما يعني أن على حكومة بغداد أن تجد بدائل لواردات الغاز والكهرباء الإيرانية.

وفي ضوء ما سبق، يمكن قراءة إقدام إيران على تنفيذ مشروع الربط السككي مع العراق في إطار السعي لمواجهة هذه الضغوط الأمريكية، عبر آلية زيادة حجم وطبيعة الارتباط مع العراق؛ بمعنى أن مشروع الربط السككي مع العراق سوف يضمن زيادة الارتباط الجيوسياسي والجيواقتصادي بين العراق وإيران، خصوصًا وأنه يسهم في تعزيز صادرات إيران غير النفطية إلى العراق.

رغبة تركية في تنفيذ “طريق التنمية”

أعادت تركيا في الأيام الماضية طرح مشروع “طريق التنمية” كأحد المشروعات الاستراتيجية الرئيسة التي تسعى إلى تنفيذها في الفترات المقبلة، والتي تستهدف من جانب تعزيز وزنها الإقليمي ومن جانب آخر زيادة مساحة النفوذ التركي في العراق. وفي هذا السياق، أعرب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن أمله بالانتقال إلى مرحلة التنفيذ بمشروع طريق التنمية الحيوي مع العراق في غضون الأشهر القليلة المقبلة، ونقلت وكالة “الأناضول” الرسمية التركية تصريحات عن “فيدان” قال فيها: “نأمل الانتقال إلى مرحلة التنفيذ في غضون أشهر لمشروع طريق التنمية (التركي ـ العراقي) الذي يحمل أهمية كبيرة من أجل الرفاه والاستقرار في الشرق الأوسط”.

الجدير بالذكر أن مشروع “طريق التنمية” كان قد طُرح في مايو الماضي على هامش استضافة العراق مؤتمرًا لمناقشة المشروع الذي يُطلق عليه أيضًا “القناة الجافة”، وذلك بمشاركة ممثلين عن  السعودية والكويت والإمارات وقطر وسلطنة عُمان وإيران وتركيا وسوريا والأردن، بالإضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، ويستهدف المشروع ربط ميناء  الفاو الذي يقع بمدينة البصرة العراقية ويُطل على مياه الخليج العربي بالأراضي التركية. ويمكن بيان الأهمية والأبعاد الاستراتيجية بالنسبة للمشروع، خصوصًا بالنسبة للجانب التركي، وذلك على النحو التالي:

1- الربط بين الموانئ العراقية – التركية: تُشير المعلومات المتاحة حتى اللحظة عن مشروع “طريق التنمية” إلى أنه يتضمن خططًا للربط البري والسككي بين الجانبين؛ إذ إن المشروع يستهدف نقل البضائع من ميناء الفاو بالبصرة العراقية على الخليج العربي، إلى تركيا، مرورًا بعدد من المناطق العراقية ابتداءً من البصرة ثم ذي قار والقادسية وواسط ثم باتجاه العاصمة بغداد، ومنها إلى صلاح الدين وكركوك ونينوى، وصولًا إلى المثلث العراقي التركي السوري من جهة منطقة فيشخابور.

وفي هذا السياق تُشير الأرقام الرسمية العراقية إلى أن  تكلفة المشروع قد تبلغ قرابة 17 مليار دولار، بحيث تكون 10 مليارات منها لشراء قطارات كهربائية سريعة تنقل الحمولات في حوالي 16 ساعة، وسيُنفق المتبقي منها من أجل مد خطوط سكك الحديد بطول 1200 كيلومتر. وأُعلن أنه سيتم الانتهاء من المرحلة الأولى من المشروع بحلول عام 2028، على أن تُنجز المرحلة الثانية في 2038 والثالثة في 2050. 

2- تسهيل حركة التجارة بين آسيا وأوروبا: يعد المشروع إحدى الأدوات التي تدفع باتجاه تقليص المدى الزمني الذي تستغرقه حركة النقل التجاري بين آسيا وأوروبا. ووفقًا لبعض التقديرات، فإنه في الوقت الذي تستغرق فيه مدة شحن البضائع من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء روتردام الهولندي نحو 33 يومًا، فإن هذه المدة ستتقلص إلى 15 يومًا فقط عندما تنتقل البضائع من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء جوادر الباكستاني ثم إلى ميناء الفاو في جنوب العراق، ومنه عبر القناة الجافة العراقية إلى موانئ البحر المتوسط في تركيا.

3- حالة التنافس مع إيران في العراق: بعيدًا عن الأهداف الإقليمية للمشروع التركي “طريق التنمية”، إلا أن هذا المشروع يأتي في سياق تتصاعد فيه مساحة وطبيعة التنافس الجيوسياسي بين أنقرة وطهران في الساحة العراقية، فعلى الرغم من أن الدولتين تشتركان في بعض الأهداف الأمنية العامة في العراق كمنع  قيام دولة كردية مستقلة في الحدود المشتركة بينهما، وتشتركان في مكافحة الأحزاب الكردية المسلحة التي تنشط على حدودهما ومنها حزب العمال الكردستاني؛ فإن تركيا ترى أن تنامي مساحة النفوذ والهيمنة الإيرانية في العراق هو أمر يمثل تهديدًا لها، خصوصًا وأنه يمثل ضمانًا لنشاط بعض المجموعات المسلحة في العراق، فضلًا عن أنه يدفع باتجاه انحسار نفوذ بعض القوى الموالية لتركيا خصوصًا القوى التركمانية وبعض القوى السنية.

وفي هذا السياق، ترى بعض التقديرات أن مشروع “طريق التنمية” سوف يكون له انعكاسات سلبية على خط “عبادان” الإيراني، فضلًا عن أن المشروع سيمر بالعديد من المحافظات التي تسيطر عليها بعض الفصائل الشيعية المسلحة، الأمر الذي قد يدفع باتجاه زيادة نفوذ أنقرة والقوى الموالية لها في هذه المناطق، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث صدام متعدد الأوجه بين الجانبين.

لكن وعلى الرغم من الرغبة التركية الملحة في إنجاز هذا المشروع، فإن هناك جملة من الاعتبارات الموضوعية والواقعية التي تعيق تنفيذ هذا المشروع في المدى الزمني المخطط له، خصوصًا في ظل معاناة العراق من أزمة كبيرة على مستوى البنى التحتية، جنبًا إلى جنب مع تزايد معدلات الفساد، بالإضافة إلى رفض المشروع من قبل إيران، وبعض القوى الموالية لها في الداخل العراقي.

وفي الختام، يمكن القول إن كلا المشروعين سواءً الخاص بالربط السككي بين إيران والعراق “مشروع البصرة – شلامجة” أو مشروع طريق التنمية بين العراق وتركيا يستهدفان بشكل رئيس توظيف الموقع الجيواستراتيجي المهم للعراق، بما يدعم المشاريع الإقليمية لتركيا وإيران في مواجهة بعض المتغيرات الراهن. لكن اللافت أن مسار التحولات الراهنة التي تشهدها المنطقة يعكس وجود توجه متنامٍ نحو الاعتماد على الممرات التجارية كأحد أدوات زيادة الوزن الجيوسياسي للدول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى