العالم

كيف يستفيد الجنوب العالمي من صراع القوى الكبرى؟

عاد إلى الأصداء السياسية مجددًا مصطلح “الجنوب العالمي” وتحديدًا عقب الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن هذه المرة يعود بشكل مختلف يحمل في طياته ملامح جديدة، فبعد سياسة التبعية والإملاءات المفروضة من القوى العظمى للدول التابعة للجنوب العالمي، نشهد الآن وجودًا قويًا ومتميزًا يصل إلى درجة الاستقلال الدبلوماسي والاستراتيجي واتخاذ الطريق الوسطي لتسريع صعوده كقوة ناشئة في السياسة العالمية، مما جعل القوى الكبرى تعيد التفكير في استراتيجية التعامل معه لاستعادة العلاقات بين الشمال والجنوب.

ما المقصود بالجنوب العالمي؟

الجنوب العالمي أو “South Global”، هو مصطلح ظهر عام 1969 على يد الناشط السياسي الأمريكي “كارل أوجلسبيي”، ولكن المصطلح لم يكتسب زخمًا حقيقيًا إلا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتوابعه في الكتلة الشرقية عام 1991 الذي كان علامة على نهاية العالم الثاني، واستخدم هذا المصطلح في الدراسات التي ركزت على حقبة الاستعمار وما بعده من النضال للتحرر من الحكم الأوروبي المنتمي للعالم الأول.

ويشار بهذا المصطلح تحديدًا إلى ما يسمى بـ “العالم الثالث”، والذي يشكل سكانه نحو 85% من سكان العالم، ويضم بداخله بلدانًا نامية مختلفة تنتشر في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وتتميز بلدان الجنوب العالمي بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، فضلًا عن الاختلافات الكبيرة على مستويات المعايير المعيشية ومتوسط العمر وإتاحة الموارد والديون، مما يعني ظروف أقسى من الدول الواقعة في الشمال العالمي. 

وظلت أهداف ورغبات بلدان الجنوب العالمي في مرتبة هامشية حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تشكل من قلب تلك الدول مفهوم “عدم الانحياز” عام 1961 الذي انطلق تحديدًا من الهند، بجانب “مجموعة الـ 77 في الأمم المتحدة” التي تأسست عام 1964، وهي المجموعة التي تضم في عضويتها اليوم 134 دولة، وتعتبر أكبر منظمة حكومية دولية للدول النامية في الأمم المتحدة، من أجل تعزيز قدرة تلك الدول التفاوضية المشتركة، وسعت تلك التجمعات إلى تعزيز المصالح الجماعية للبلدان الأكثر فقرًا والتي تحررت من الاستعمار في عالم تهيمن عليه القوى الإمبراطورية السابقة، كما وعدت بولادة قوة حيوية جديدة في السياسة العالمية، إما من خلال رؤى للتضامن تقوم على دعم الاقتصاد الموجه، ورفض فض الأسلحة النووية، والحفاظ على الثقة مع الأمم المتحدة للحفاظ على السلام وحل عدم المساواة في النظام الدولي.

لكن لم يسفر هذا التجمع عن نتائج حقيقية وملموسة بالكامل، وتبددت محفزات هذه الدول بعد انتهاء الحرب الباردة في ظل عقود من هيمنة القوى الأمريكية أحادية القطب، ليتم تهميش الجنوب العالمي مجددًا، الذي اندلعت صراعات بين دوله كالهند والصين، بجانب الانقلابات العسكرية في ولايات تمتد من تشيلي إلى أوغندا، وصولًا إلى بدء الهند وباكستان في تطوير الأسلحة النووية.

وتمحور الأمر تدريجيًا إلى أن وصل عدم الانحياز إلى “الانحياز المتعدد”، أو بمعنى آخر هو التخلي عن المثالية وتبني منهج الواقعية، وذلك عبر تحالف بعض دول العالم الجنوبي في قضايا ذات مصالح مشتركة مع القوى الكبرى، وتختلف في مسألة أخرى لها فيها مصالح مختلفة أو متناقضة، الأمر الذي أحدث سيولة وتشابكًا وتداخلًا في أنماط التحالفات الدولية في كثير من القضايا، وأثبت أن التنسيق بين تلك الدول يسير في مسارات أو تكتلات متقاطعة متداخلة وليس تكتل واحد يعبر عن مجموع مصالح أعضائه.

وبالتالي، صعد الجنوب العالمي مجددًا كقوة لا يستهان بها لا تعتمد على المجتمع الدولي أو القوى الكبرى، وبصعوده يمكن رؤية انعكاس التحول من الغرب إلى الشرق، فقد شهد الحجم الاقتصادي لهذه البلدان والديناميكية الدبلوماسية والنفوذ السياسي والخطاب الدولي تغيرات جذرية، ولم تعد مواقفها ووجهات نظرها غير ذات صلة، الأمر الذي أثبت المزيد من الاستقلالية الاستراتيجية، ويجب الإشارة إلى نقطة مهمة أنه عندما نذكر دول الجنوب العالمي حاليًا، نذكر دولًا مثل تركيا (حليفة في حلف شمال الأطلسي) ودول مصدرة للنفط في منطقة الخليج مثل السعودية، بالإضافة إلى دول كانت فقيرة سابقًا مثل تشيلي وسنغافورة التي أصبحت أكثر ازدهارًا.

“مسار تصادمي”.. تعامل القوى الكبرى مع الجنوب العالمي

يشهد العالم الآن تحولات متباينة تهدف لتأسيس نظام عالمي جديد، وهو نظام لم تستقر بعد قواعده بشكل كلي ولكنه ساهم في بروز مفهوم “الجنوب العالمي”، وما يحمله في طياته من تحالفات وتفاعلات من شأنها إنهاء ما كان يعرف بثنائية الشرق والغرب خلال الحرب الباردة، والتي قامت على ثنائية قطبية استراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا، كما سينهي هذا النظام أيضًا نظرية الغرب والآخرين التي جاءت عقب انتهاء الحرب الباردة، ليصبح الحديث اليوم عن جنوب عالمي مقابل شمال عالمي، وهذا ليس بالطبع بالمفهوم الجغرافي، بل بالمفهوم التنموي والسياسي والاقتصادي الشامل، والمؤكد أن الشرق والغرب يتنافسان على استمالة دول الجنوب العالمي التي لا تلتزم بتحالفات أو أيديولوجيات معهم.

– الولايات المتحدة والغرب

على مدار عقود، كانت الولايات المتحدة تميل إلى معاملة شركائها في الجنوب العالمي بسياسة الضغط المؤدي إلى اتباع القيادة الأمريكية للعالم، وذلك باعتبارهم بيادق في سياسات القوى العظمى استنادًا إلى فكرة أنها المركز والشريك الوحيد المناسب والمستفيد من تلك الدول، وهو الأمر الذي أدى إلى تراكمات محملّة بالغضب من هذه السياسة.

وباندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، قسمت الحرب العالم وكشفت عن انفصال مهم بين الغرب والجنوب العالمي، فلم تنحاز العديد من دول الجنوب العالمي إلى أحد الجانبين أو تستسلم لضغوط الولايات المتحدة للانضمام إلى معسكر إدانة روسيا ومعاقبتها، واتخذت بعض الدول مواقف داعمة لروسيا كجنوب أفريقيا وإيران وأوغندا ومالي وبوركينا فاسو وبوليفيا، الأمر الذي مثل بداية انفصال الجنوب العالمي عن سيطرة القوى الكبرى، وإعادة تموضعه ومكانته الدولية، والسعي إلى الثقة الاستراتيجية بالنفس والاستقلال الذاتي.

وبالبحث حول الأسباب الرئيسة لضعف نفوذ الغرب على الجنوب العالمي، تجدر بنا الإشارة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في يوليو الماضي في العاصمة الرواندية كيجالي، الذي أعرب خلاله عدد كبير من الممثلين عن دول الجنوب العالمي عن شكواهم ضد الدول الغربية، وأوضحوا كيف كشف الوضع الحالي عن افتقار دول الجنوب العالمي المشاركة في عملية صنع القرار الدولي، وتم تقسيم وجهات نظر الاقتصادات الناشئة والنامية إلى:

  • الاعتقاد بأن النظام الدولي الحالي، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، لا يعكس وجهات نظر الجنوب العالمي بالقدر الكافي، ولهذا، علت الأصوات وتصاعدت من أجل معالجة أوجه القصور في المؤسسات الدولية التي تشكل موقعًا للحوكمة العالمية، والسماح بالمشاركة الفاعلة لدول الجنوب العالمي في إبداء رأيها كصوت لا يستهان به وكعامل رئيس في الجغرافيا السياسية، بدءًا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (حيث إن ثلاثة من أعضائه الخمسة الدائمين هم دول غربية) وصولًا إلى صندوق النقد الدولي، حيث بات من غير المجدي ولا المقبول أن تستخدم أقلية من الدول القوية هيمنتها داخل النظام العالمي لتعزيز مصالحها ووضع أجندة للقواعد الاقتصادية أو الحلول الأمنية، التي تكون لها تداعيات سلبية تقع إلى حد كبير على دول جنوب الكرة الأرضية، وسط تأكيدات بأن الأعضاء الدائمين يجب أن يشملوا دولًا من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي مناطق ذات كثافة سكانية كبيرة.
  • تهديد استقرار بلدان الجنوب العالمي بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء نتيجة للعقوبات المفروضة على روسيا، على الرغم من أن أغلبهم يعارضون الغزو الروسي لأوكرانيا-  ما بين 47 إلى 53 دولة اختارت الامتناع عن التصويت في عمليات التصويت الثلاثة التي عقدت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة روسيا لعدم الاقتناع بالسياسة الغربية-، إلا أنهم يريدون من الولايات المتحدة والدول الأوروبية مضاعفة جهود وقف إطلاق النار، لأن بعض الدول في الجنوب العالمي ببساطة لا تستطيع تحمل تكاليف قطع العلاقات الاقتصادية مع موسكو.
  • ازدواجية المعايير” التي يتبعها الغرب، تم خلالها الاستشهاد بالصراعات الداخلية في سوريا وفلسطين لسنوات دون تدخل غربي مثلما يفعل الغرب الآن في أوكرانيا، هذا بجانب غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 دون قرار واحد من مجلس الأمن، على الرغم من كون هذا الغزو انتهاكًا للقانون الدولي، فضلًا عن التدخلات الغربية العسكرية في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي وغرب أفريقيا.
  • الاستياء من الحكم الاستعماري السابق للغرب، هناك اعتراف مشترك بين بعض دول الجنوب العالمي بأن الحدود الوطنية التعسفية والهياكل الصناعية المشوهة التي تفرضها القوى الاستعمارية تعيق نموها، ولهذا تطالب الدول النامية بالسيطرة على مواردها، من خلال الإصرار على وجود مصانع في بلدانه، فغانا على سبيل المثال تستعد بعد انضمامها إلى ناميبيا وزيمبابوي لحظر صادرات الليثيوم الضروري للسيارات الكهربائية، كما منعت إندونيسيا تصدير خامات النيكل، هذا بجانب ترحيب الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وإندونيسيا بالاستثمارات في مصانع بطاريات السيارات الكهربائية من الصين بدلًا من الولايات المتحدة.
  • النظام الاقتصادي الغربي الجديد: وهنا تجدر الإشارة إلى إعلان الغرب وتحديدًا دول مجموعة السبع التحول الاستراتيجي داخل المجموعة، الذي يدعو إلى الانتقال من الاعتماد الاقتصادي المتبادل إلى الأمن الاقتصادي، ويقترن هذا التحول بتغيير كبير في الطريقة التي تعتزم بها مجموعة السبع التعامل مع الاقتصادات الناشئة، مثل منافستها الصين وغيرها من الشركاء في آسيا الذين قد يصبحون قريبا منافسين اقتصاديين في مجال التكنولوجيات الحيوية، ولكن بالرغم من هذه الثقة، إلا أن الجهود التي تبذلها أوروبا في هذا السياق قد لا تكون كافية،  فالاستثمارات المتوقعة حتى الآن أقل كثيرًا من أن تتمكن من عكس اعتماد أوروبا (على الصين غالبا) في القطاعات الحيوية.

ولكن هذا لا يعني أن التعاون بين الولايات المتحدة والغرب ودول الجنوب العالمي سوف يتضاءل بالضرورة، ففي ظل الحرص على تعزيز المصالح، أصبحت العديد من دول الجنوب العالمي أكثر ثراءً وذكاءً مما كانت عليه في القرن العشرين، وقد تعلمت كيفية اللعب على كلا الجانبين لتحقيق فوائد لنفسها، فالتجربة قد أثبتت أن المنافسة المحدودة بين القوى العظمى لها فوائدها، لكن الحرب الباردة من شأنها أن تعرض مصالحهم للخطر وتعكر مجتمعاتهم، وهذا الأمر قد ساهم في تقييد تصرفات القوى العظمى واستفزازها للاستجابة لمطالب الجنوب العالمي.

ونجد أن بعض هذه الدول قد شكلت اتفاقيات محدودة مع الولايات المتحدة، أو في الواقع مع قوى عظمى أخرى، وعلى سبيل المثال، التقارب الأمني ​​بين نيودلهي وواشنطن يهدف إلى تحقيق التوازن مع بكين والاستفادة من فرص “دعم الأصدقاء”، ولكن حتى هذا الوفاق له حدود: فمن غير المرجح أن تساهم الهند بما يتجاوز الدعم اللوجستي وربما المؤقت في حالة نشوب حرب على بحر الصين الجنوبي، وبالتأكيد تتبع الهند بوصلتها الخاصة عندما يتعلق الأمر بروسيا، خاصة فيما يتعلق باستيراد الأسلحة وتطوير وإنتاج صاروخ “براهموس”.

وكذلك البرازيل التي تتعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة بشأن تغير المناخ حتى مع احتفاظها بعلاقات دافئة مع منافسي واشنطن القويين الصين وروسيا، في ظل أحدث تصريحات لرئيسها “لولا دا سيلفا” الذي أكد أنه لن يعتقل بوتين حال رغبته المشاركة في قمة العشرية المقرر انعقادها عام 2024 في بلاده. 

– روسيا والصين والهند

من المعروف أن روسيا ومن بعدها الصين والدول الأخرى في الجنوب العالمي، يسعون خلال تكتيكات دبلوماسية طويلة المدى إلى تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب للتخلص من هيمنة الغرب على النظام العالمي الحالي، عبر دعم الدول النامية ومساعدتها ماليًا واقتصاديًا لتخليصها من النفوذ الغربي، الذي يستخدم تلك الأدوات في بسط نفوذه على الدول الفقيرة، فنجد مثلًا أن إدارة بوتين قد تبنت في أواخر مارس الماضي سياسة خارجية تزعم أن الولايات المتحدة وأوروبا تفرضان “استعمارًا جديدًا” على الاقتصادات الناشئة والنامية، وأن روسيا ستساعد في صد هذا الاستعمار من خلال توسيع العلاقات بينها وبين الجنوب العالمي، وتقويض المصالح الأمريكية.

أما على الصعيد الاقتصادي، فبإنكار دول الجنوب العالمي نظام العقوبات الذي تم تبنيه ضد روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا، شاهدنا زيادة التعاون مع موسكو، والتجارة الثنائية المتنامية بالعملات المحلية، الأمر الذي أدى إلى تقويض فعالية العقوبات إلى حد كبير، ومن الممكن أن يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآخرون وشركاؤها المقربون، مثل الفلبين وسنغافورة وتايلاند، على الحد من سياسة الولايات المتحدة في خضم أي أزمة مع الصين.

وبالنسبة للصين، فقد كان تدهور العلاقات الصينية الأمريكية وتقييد قدرة الشركات الصينية على الوصول إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية، من الأسباب التي دفعت قادة الصين إلى إعادة تشكيل نهجهم في التعامل مع الشؤون الخارجية والبحث في أماكن أخرى عن مصادر النمو الاقتصادي، ونتيجة لذلك، قامت بكين بتسريع هجومها الدبلوماسي في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وأظهرت في الآونة الأخيرة استعدادًا أكبر للانخراط في الوساطة في الصراع الروسي الأوكراني وحتى الصراع الإقليمي، كما فعلت بين الخصمين الدبلوماسيين على المدى الطويل إيران والمملكة العربية السعودية، كذلك تستخدم الصين وضعها كدولة نامية للاستفادة من الأحكام والمعاملات الخاصة في المعاهدات والمنظمات الدولية التي تهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة.

تحديات تواجه تعاون الجنوب العالمي 

بالطبع لن يكون سهلًا أمام الجنوب العالمي مواجهة هيمنة القوى الكبرى دون وجود عقبات داخلية، والتي يأتي في مقدمتها صعود القوى المتوسطة بداخله، ولهذا يمكن أن يفقد الجنوب العالمي أهميته ككيان جيوسياسي إذا قام أعضاؤه بالتنافس المباشر بينهم، هذا بجانب أمر مهم أصبح حديث العالم وهو ما يتعلق بالتغييرات المناخية والتي قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات، حيث يمكن أن تظهر انقسامات بين الدول ذات الأثر الكبير في انبعاثات الكربون، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا، والدول الفقيرة ذات الأثر الضئيل في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهو ما يمكن أن يؤثر سلبًا على تضامن الجنوب العالمي.

ولكن ماذا عن التنافس الصيني الروسي الخفي؟، إن استقلال الصين الجديد في آسيا الوسطى واعتماد موسكو المتزايد على بكين بعد الحرب في أوكرانيا يقدمان رؤى جديدة حول العلاقة بين الصين وروسيا، فعلى الرغم من أن البلدين متحدان من خلال رغبتهما المشتركة في تحدي النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، إلا أن هناك تنافسًا بين البلدين يتناقض مع هذا الاتحاد، ويبدو أن العلاقة تميل على نحو متزايد لصالح الصين، وقد تؤدي هذه العلاقة غير المستقرة إلى وجود صيني أقوى في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، بما يقلص الدور الروسي في المنطقة.

ولعل أبرز دليل على وجود تنافس غير ظاهر بين القوتين هو الحياد السلبي الذي تتبعه به الصين عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ إنها لم تتخذ صف روسيا حتى لا تظهر كقوة دولية عالمية تتطلع للقيام بأدوار مغايرة للأدوار الأمريكية بتحقيق السلام سواء بالشرق الأوسط أو آسيا أو مناطق النزاع المختلفة، وأيضًا خشية المغامرة بعلاقاتها الاقتصادية مع أوروبا من أجل بوتين، في ظل بقاء الاتحاد الأوروبي كشريك أول وأهم للصين، خاصة وأن عقوبات الغرب على روسيا فتحت المجال أمام الشركات الصينية للتوغل داخل الأسواق الأوروبية وملء الفراغ الروسي الفسيح، فضلًا عن الاستفادة الصينية من مصادر الطاقة الروسية بأسعار تفضيلية، وحتى الآن، تحافظ الصين على العلاقات الغربية- وإن لم ترد- من خلال رفض إرسال المساعدات العسكرية لموسكو، ولكنها قد تزودها ببعض التكنولوجيات وبعض المواد والمصادر المرتبطة بالصناعات العسكرية كالرقائق الإلكترونية.

وهذا ما يقودنا إلى التنافس الأمني، حيث تهدد الصين التكنولوجيا العسكرية الروسية بتقليل اعتماد بكين على صادرات السلاح الروسية، بسبب إطلاق بكين مشروعًا طويل الأمد للاستفادة من تقدمها في مجالات تقنيات الصواريخ والأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي، وهو ما يثير قلقا أمريكيا وروسيّا على السواء، وبينما تخشى واشنطن انقلابًا جذريًا في ميزان القوة العسكرية عالميًا، تخشى موسكو أيضًا أن تتأثر صادرات سلاحها إلى الصين، والتي يمكن أن تستهدف دول آسيا الوسطى التي تشتري سلاحها، وخصوصا أن الورقة العسكرية آخر ما تبقى لروسيا من نفوذ في تلك المنطقة.

تواجد الجنوب العالمي في كبرى المنظمات الدولية

كما ذكرنا سابقًا في تعريفنا للجنوب العالمي، فإن كون الدولة ذات دخل منخفض أو متوسط ​​ليس سوى مؤشر واحد على أن الدولة جزء من الجنوب العالمي، هذا بجانب العوامل الأخرى كوجود ماضٍ استعماري، أو عدم كونها قوة عظمى أو حليفًا أساسيًا لقوة عظمى، ولهذا، فكرت كبرى تلك الدول في التكاتف معًا من أجل “اللحاق” بالدول الغنية كضرورة مُلحة من أجل الحصول على الاستقلال الاستراتيجي، والحصول على حصة أكبر من السلطة السياسة في النظام الدولي، وخاصة بين القوى المتوسطة في الجنوب العالمي، مثل البرازيل، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وهنا تجدر الإشارة إلى المؤسسات مثل مجموعة العشرين، ومجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون باعتبارها رمزًا لعودة الجنوب العالمي، بعد هيمنة الغرب على معظمها في السنوات الأخيرة، هذا بجانب عدد من المبادرات التي تقودها الصين كمبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي الصيني ومبادرة الحضارة العالمية الصينية.

  • “بريكس”: 

قدم التجمع الذي أقيم بجنوب أفريقيا في الفترة بين 22 إلى 24 أغسطس دليلًا مهمًا حول الاتجاه الذي يتجه إليه العالم، فقد تقدم عددًا كبيرًا من دول الجنوب العالمي بطلبات للحصول على العضوية، وأعلن التجمع الأخير عن توسيع التحالف إلى ما هو أبعد من الأعضاء الأصليين، البرازيل، والصين، والهند، وروسيا، وجنوب أفريقيا، وتأسيس “بنك التنمية الجديد”، من أجل مكافحة هيمنة الدولار وزيادة فارق الناتج المحلي لصالح الجنوب، مع العلم أن الناتج المحلي الإجمالي من حيث القوة الشرائية لدول “البريكس”  يفوق نظيره في مجموعة الدول السبع الكبرى في شمال الكرة الأرضية.

ومن المؤكد أنه لولا نجاح الدول ذات الثقل في “بريكس”، الصين وروسيا، في بسط نفوذها فوق مساحات واسعة من القارة السمراء على سبيل المثال، وتنامي قدراتها على تقديم بدائل اقتصادية وأمنية وعسكرية، بل وتوفير مظلة سياسية لقادة أفريقيا الجدد، في ضوء ما شهدناه من الانقلابات العسكرية المدعومة شعبيًا على نطاق واسع، والتي لا تتدخل بها واشنطن إطلاقًا وتبقى حذرة في تصريحاتها حولها، ما يجعلنا نؤكد أن ما يجري في غرب أفريقيا وساحلها هو علامة على تشكيل ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تستفيد منه روسيا والصين لتطوير منظومة بديلة للعلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية.

ولكن الغرب يحاول بتعمد التقليل من أثر بريكس بالاستغراق في تعداد التناقضات بداخل التحالف، بين التفاوت في الثقافات والرؤى والتباينات على صعيد الموقف من الغرب، وصولاُ إلى الأزمات الداخلية بين أعضاء التحالف- قبل وبعد التوسع- وعلى سبيل المثال، صراع الصين الحدودي مع الهند، والتنافس الخفي مع روسيا كما ذكرنا في السابق، وأزمات الخليج وإيران، وسد النهضة بين مصر وإثيوبيا، والعلاقات المتوترة بين أمريكا اللاتينية وواشنطن،  ولكن ما ينظر إليه على أنه نقاط ضعف لدى “بريكس”، قد يكون من عناصر قوتها، فالاختلاف سيولد حيوية سياسية قادرة على الاستفادة من كل المسارات لتقوية الجبهة الداخلية دون إجبار على قالب من العلاقات وتخطيط المصالح كما تفعل التجمعات الغربية.

  • مجموعة العشرين:

وهو اجتماع أكبر عشرين اقتصادًا على مستوى العالم للاستجابة للأزمات المالية العالمية، ويمثل 85% من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وتضم هذه المجموعة العديد من دول الجنوب العالمي، ولسنوات عدة، مارس أعضاء المجموعة الغربيين التأثير الأكبر على ترك أولويات العالم النامي خارج الحسابات، لتجد تلك الدول نفسها مثقلة بالديون وتأثيرات المناخ التي لا يد لها بها، غير قادرة حتى إيصال صوتها داخل البنك الدولي وصندوق النقد، وغيرها من المؤسسات التي تحدد شروط شريان الحياة الاقتصادي.

ولكن الآن، وعقب اجتماع الزعماء في الهند في أعقاب رئاسة إندونيسيا وقبل رئاسة البرازيل، تستعد مجموعة العشرين للدخول في عصر غير مسبوق من النفوذ، بل وأيضًا العدالة الاقتصادية وتحديدًا في الجنوب العالمي، خاصة مع تمتع تلك المجموعة بنفوذ قوي في الأمم المتحدة ومع بنوك التنمية متعددة الأطراف التي تقرض البلدان المدينة، مع العلم أن الهند ألقت بدعمها وراء اقتراح بمنح الاتحاد الأفريقي العضوية الكاملة والدائمة في مجموعة العشرين، وهي الخطوة التي طال انتظارها، فضم الاتحاد الأفريقي بدعوة الهند، ومن قبله محاولة الاستقطاب الأمريكية والروسية من شأنه أن يضيف منظورًا قيمًا لواحدة من أكثر مناطق العالم ديناميكية وأسرعها نموًا، ومن شأنه تحقيق معادلة ربحية لجميع الأطراف. وعليه، لن يكون من مصلحة الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى أن ترى تصويت الجنوب العالمي ككتلة متماسكة في المنظمات الدولية، وخاصة تحت قيادة الصين، ولهذا من المرجح أن تستثمر الولايات المتحدة بشكل أكبر في مجموعات مثل مجموعة السبع، والرباعية، وحلف شمال الأطلسي، كأدوات للتأثير على القيادة العالمية والسعي لتفكيك التكتلات التي تمثل خطرًا على التكتل الغربي، هذا بجانب مواصلة التعامل مع الجنوب العالمي ومعالجة المخاوف والتحديات، من خلال مجموعة متنوعة من استراتيجيات المساعدة الاقتصادية والأمنية والطاقة والدبلوماسية والسياسية والأجنبية.

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى