ليبيا

الخسائر الاقتصادية لإعصار دانيال في المنطقة الشرقية في ليبيا

باتت قضية التغير المناخي إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا في عالمنا الحالي، حيث أصبحت الكوارث الطبيعية أكثر انتشارًا ولا تفرق بين دول كانت هي سبب المشكلة أو لا؛ فليبيا لم تشارك بنسبة كبيرة في الانبعاثات الكربونية، ولكن أصابها إعصار “دانيال” الذي تسبب في خسائر كارثية ممتدة على الممتلكات والأرواح، بالإضافة إلى الخسائر الاجتماعية، فما هو حجم الخسائر الاقتصادية التي خلفها الإعصار في ليبيا؟

إعصار مدمر

ضرب إعصار “دانيال” -أو عاصفة “دانيال” حسب التوصيف العلمي الأدق- المدن الساحلية الليبية وخاصة درنة وبنغازي وإجدابيا والبيضاء، وخلّف حجم دمار هائل خاصة في مدينة درنة، بعد أن تسبب الإعصار في انهيار سدين بها بسبب الفيضانات، وهو ما أدى إلى إعلان هذه المدن مناطق منكوبة، وهو ما يعني أن عجلة الحياة الطبيعية والاقتصادية بالبلاد توقفت تمامًا؛ فعادة لا تصنف الحكومة المناطق على أنها منكوبة إلا إذا تجاوز حجم أضرارها نسبة 58%. لكن لماذا كل ذلك الدمار؟

يعود ذلك الحجم الهائل للدمار إلى الطبيعة الجغرافية لمنطقة شرق ليبيا، وخاصة مدينة درنة التي تقع شمال شرق ليبيا على منطقة البحر الأبيض المتوسط، ومن الجنوب تحدها سلسلة جبلية وهو ما يجعلها منطقة منحدرة، ويفصلها وادي من منطقة الجبل إلى البحر الأبيض المتوسط يسمي بوادي درنة، ويوجد على مجرى الوادي سدان أحدهما يقع في جنوب المدينة والأخر في مدخل المدينة. ومن ثم فعندما ضربت العاصفة “دانيال” ليبيا تجمعت كمية كبيرة من المياه منحدرة من الجبل الأخضر وحتى السد، تبلغ تلك المسافة حوالي 50 كيلو مترًا، الأمر الذي شكل ضغطًا هائلًا على السدود وتسبب في انهيارها ليجرف الطوفان الأحياء الواقعة بين الوادي والبحر.

وقد سبق أن أشارت البحوث الجيولوجية والجغرافية إلى أن مدينة درنة هي إحدى المدن الليبية المعرضة لخطر السيول عبر الوديان الجافة. ودعا الباحثون في ذلك الوقت إلى إجراء الصيانة المنتظمة للسدود لضمان الأمن والسلامة في المنطقة، لكن الأوضاع الأمنية التي تعانيها البلاد والانقسامات السياسية التي تعيشها ليبيا منذ أكثر من عقد فرضت ترتيبًا مختلفا للأولويات فوقعت كارثه درنة.

وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية حتى الآن لم تعلن عن حجم الخسائر الاقتصادية التي خلفها الإعصار في ليبيا وبالتحديد “درنة”، لكن ذلك الإعصار “دانيال” كبد البلاد كثيرًا من الأضرار في الأرواح والبنية التحتية، وتسبب في توقف مظاهر النشاط الاقتصادي اليومي مع إعلان السلطات حالة الطوارئ القصوى وإغلاق المدارس والمتاجر وفرض حظر تجوال، وتعطلت المرافق الاقتصادية بالتزامن مع خسائر كبيرة في البنية التحتية، والتي كانت أكثر فداحة في بعض المناطق مثل درنة والبيضاء وغيرها.

خسائر فادحة

تسببت عاصفة “دانيال” في حدوث خسائر كارثية في الشرق الليبي، حيث أدت الفيضانات التي ولدتها العاصفة إلى تدمير السدود وجرف أحياء بأكملها في مدن ساحلية متعددة، فقد أدى انهيار السدود في درنة إلى تفاقم الأزمة بشكل كبير، خاصة أن هذه السدود كانت تحتجز كميات كبيرة من المياه، إضافة إلى الكميات الكبيرة من الأمطار التي تساقطت بسبب الإعصار.

وقد كشفت “دانيال” ضعف البنية التحتية للبلاد، وسط شكاوى المواطنين من سوء الخدمات اليومية على غرار قطاعات الكهرباء والطاقة والنقل، والمياه والصحة والتعليم، بالإضافة إلى اختفاء 25٪ من مدينة “درنة” وخسائر لحوالي 58% من المدينة وفقًا للتقديرات الأولية، وغرق الكثير من المناطق السكنية، وانهيار بعض المباني، بالإضافة إلى انجرافات البنية التحتية، وخسائر كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة.

وبنظرة أعمق لمساحة مدينة درنة فهي تبلغ حوالي 20 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها حوالي 200 ألف نسمة، فيما تشير مصادر أخرى أن عدد سكانها حوالي 90 ألف نسمة وبالتأكيد يعبر هذا الاختلاف الكبير لأبسط البيانات المتباينة عن سكان المدينة عن حجم المشكلة السياسية التي عانتها ليبيا وبالأخص مدينة درنة التي سبق السيطرة عليها من جانب مسلحين واعلانها إمارة تابعه لداعش قبل أن يتم تحريرها في عام 2015.

عند احتساب الآثار الاقتصادية التي تسببها الكوارث الطبيعية عادة ما يتم النظر إلى مجموعة من الأبعاد، أولها الخسائر المباشرة والتي تتمثل في الدمار في البنية التحتية، ثم الخسائر غير المباشرة والتي تتمثل في توقف الاعمال، والخسائر البشرية والتي تتمثل في حالات الوفاة والمشاكل الصحية التي تترتب على مثل تلك الكوارث، والتعويضات التأمينية لشركات التامين؛ إذ تسهم هذه الطريقة في تحديد الأعباء المالية التي كلفتها الكوارث الطبيعية، والخسائر في الإنتاجية، والآثار الاقتصادية بشكل عام لمثل تلك الكوارث.

أولًا: الخسائر المباشرة

كان قطاع البناء والبنية التحتية في مقدمة الدمار، حيث انهارت آلاف المنازل والمنشآت، ثم تلا ذلك القطاع الزراعي والثروة الحيوانية من خلال تجريف مساحات شاسعة من الأراضي. كذلك كان لممتلكات المواطنين من سيارات ومتاجر وغيرها نصيب كبير من المأساة، وما يزال جاريًا حتى الآن تقييم قيمة الخسائر الاقتصادية، حيث من الصعب التقييم في ظل ذلك الدمار. 

لكن يمكننا تقدير حجم تلك الخسائر؛ فبافتراض أن من يعيشون في درنة حوالي 200 ألف مواطن ليبي، وحيث أن نصيب المواطن الليبي من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 يبلغ 6357 دولارًا أمريكيًا، وعليه فإن اجمالي دخل المواطنين حوالي 1.3 مليار دولار، وحيث أن هناك أضرار لحوالي 58% من المدينة فإن إجمالي الخسائر حوالي 737 مليون دولار وفقًا لدخل المواطنين الليبيين في عام 2021.

من المؤكد أن تلك أرقام تقديرية، لكنها احتُسبت وفقًا لمنطقية أن الناتج المحلي الإجمالي هو إجمالي ما يتم استهلاكه من سلع وخدمات من جانب الحكومة والمواطنين، بالإضافة إلى الاستثمار وصافي معاملات البلاد مع العالم الخارجي. وحيث إن الناتج المحلي الإجمالي للدول يُحتسب بشكل تراكمي، فيمكن أن يكون مؤشرًا تقريبيًا على حجم المدينة من الناحية الاقتصادية، لأنه عادة ما تكون هناك نسبة وتناسب بين التعداد السكاني والبني التحتية للمدن، وعليه فإن المدينة الأكثر ازدحامًا بالسكان ستكون الأعلى من حيث تكاليف البنية التحتية والمدن الأقل شغلًا للسكان ستكون أقل تكلفة من الناحية الاقتصادية.

وحيث إن تكاليف إعادة اعمار تلك المدينة يمكن أن تدخل ضمن حسابات الخسائر الاقتصادية لتلك المدن فإن إجمالي الخسائر الاقتصادية لمدينة درنة حوالي 1.5 مليار دولار في أقل تقدير، تلك البيانات تتوافق إلى حد كبير مع تصريحات المسؤولين الليبيين؛ إذ أشير إلى أن تكلفة إعادة اعمار الطرق في درنة حوالي 67 مليون دولار وهو ما يعني أن مجموع تكاليف الطرق التي تم تدميرها والتي سيتم إعادة بنائها حوالي 134 مليون دولار امريكي، وهو البند الأقل عند النظر إلى مجموع الأضرار أو تكلفة إعادة الإعمار.

ثانيًا: الخسائر غير المباشرة

يمكن تفسير الخسائر غير المباشرة بأنها الخسائر المترتبة على توقف الأعمال بالمدينة. ويعد الموقع الجغرافي لمدينة درنة في امتداد السهل الأخضر الخصب سببًا في كونها مقرًا لنشاط الزراعة والمراعي الخضراء والتجارة، وتعد اهم منطقة تجارية بدرنة هي سوق الظلام الذي يعد قمة المركز التجاري للمدينة ويضم عددًا كبيرًا من محال بيع الذهب والساعات والأقمشة والملابس والأحذية.

توقفت تلك التجارة نتيجة لعاصفة “دانيال” والتي قضت على تلك المباني العتيقة. هذا فضلًا عن تنقل أكثر من 36 ألف شخص من المدن المتضررة، وفقا لبيانات منظّمة الهجرة التابعة للأمم المتّحدة، بجانب تعرض نحو 15 ألف مسكن في درنة فقط للضّرر الجزئي والكلّي، منها 4 آلاف منزل دمّر بالكامل، والباقي تضرر جزئيًا، كما تم خسارة ما يزيد على 30 ألف رأس من الأغنام والمواشي، وتعرّضت 10 مناطق زراعيّة في مناطق الشرق لخسائر بنسبة 30%. 

وبالرغم من أن فاتورة الخسائر الاقتصادية التي سببها الإعصار في ليبيا تحتاج إلى المزيد من الوقت لدراسة الدمار الاقتصادي، أشارت تقارير أولية إلى أن البلاد قد تحتاج إلى ما يقرب من نصف مليار دولار بشكل عاجل لمساعدة الأسر في المناطق المتضررة، بينما أقر رسميًا البرلمان الليبي ميزانية طوارئ بقيمة تعادل ملياري دولار للمناطق المنكوبة، وخصصت السلطات الليبية مبلغ 446 مليون دولار لصالح صندوق إعمار مدينتي بنغازي ودرنة. ودعا بعض الاقتصاديين في البلاد إلى سرعة إنشاء صندوق إعادة إعمار للمناطق المتضررة، خصوصًا أن بناء المدينة هذه المرة مختلف؛ لأن العاصفة غيرت ملامح المدينة بالكامل. 

ويمكن القول إن حجم الخسائر بمدينة درنة حوالي 1.5 مليار دولار كما سبق الإشارة، وأن تكاليف إعادة الإعمار في كل الأحوال لن تقل عن 800 – 1000 مليون دولار أمريكي، ومع الأخذ في الحسبان حجم التعويضات التي ستُصرف للأهالي المتضررين من تلك العاصفة والتي ستكون بين 500 – 700 مليون دولار، فإن الرقم المعلن من البرلمان الرسمي الليبي والبالغ ملياري دولار يقترب من الحسابات سالفة الذكر إلى حد كبير.

ختامًا، تشهد ليبيا حاليًا مأساة حقيقية تسببت فيها ظاهرة التغير المناخي التي أدت إلى إعصار مدمرة لم يترك شيئًا دون تدميره، زادت من حدته هشاشة البنية التحتية وسوء التخطيط، بالإضافة إلى انهيار السدود مع الأمطار الغزيرة، مما أدى إلى فيضانات قتلت الآلاف من المواطنين، ودمرت آلاف السيارات والمنازل، وألحقت أضرارًا هائلة في البنية التحتية، وجعلت الوضع كارثيًا حيث توقف النشاط الاقتصادي في البلاد.

محمد صبرى

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى