تغير المناخليبيا

عاصفة “دانيال” في ليبيا.. كارثة مركبة

توفي في ليبيا الآلاف من الأشخاص وفُقد آلاف آخرون جراء الفيضانات الكارثية التي تسببت فيها العاصفة “دانيال” التي ضربت البلاد يوم 10 سبتمبر 2023، والتي كانت أسوأ كارثة طبيعية تضرب ليبيا خلال الـ40 سنة الماضية. وأثارت العاصفة المفاجئة تساؤلات حتمية حول دور تغير المناخ في هذه الكارثة، خاصة وأنه مع ارتفاع مياه الفيضانات، انهار سدان في مدينة درنة التي جرفتها السيول؛ مما تسبب في تدمير ما يزيد على ربع المدينة وتأثر مدن أخرى عدة في شمال شرق ليبيا أيضًا.

لم تكن تلك الكارثة الأولى من نوعها على مستوى العالم؛ إذ عانت باكستان العام الماضي 2022 من فيضانات غير مسبوقة أدت إلى خسائر بشرية ومادية ضخمة لا تزال تعاني منها. وأرجع العلماء سبب تلك الكوارث إلى تدهور الوضع العالمي المتعلق بظواهر التغيرات المناخية والمرتبط بزيادة الانبعاثات الكربونية.

ما هي عاصفة “دانيال”؟

تُعَدُ عاصفة “دانيال” -المعروفة أيضًا بإعصار “دانيال”- أكثر الأعاصير الاستوائية في البحر الأبيض المتوسط فتكًا وتكاليفًا على الإطلاق، وأيضًا أشد الأعاصير فتكًا عالميًا منذ إعصار “نارجيس” في عام 2008. وكانت كذلك أكثر حدث جوي فتكًا في عام 2023 حتى الآن. تشكلت العاصفة كنظام ضغط منخفض حوالي 4 سبتمبر 2023، وأثرت على اليونان وبلغاريا وتركيا مع فيضانات واسعة النطاق. ثم اتحركت نحو ساحل ليبيا، حيث تسببت في فيضانات كارثية تاريخية. ورغم أن الكارثة ناتجة عن اختلاف الضغط الجوي كأعاصير عدة، فإنها تعد عاصفة؛ لأن الضرر الأكبر منها يرجع إلى معدلات سقوط الأمطار الضخم وغير المتوقع وليس بسبب اختلاف الضغط الجوي.

في اليونان، عُدّت العاصفة الأسوأ في التاريخ المسجل، حيث تسببت الأمطار الغزيرة في فيضانات تسببت في أضرار تقدر بأكثر من ملياري يورو. أما ليبيا، فقد تعرضت لأشد الأضرار، حيث تسببت الأمطار الغزيرة في فشل سدان قرب مدينة درنة. وقد أدى ذلك إلى وفاة الآلاف من الأشخاص، وتفاوتت الأرقام الدقيقة لعدد المفقودين بين 10.000 و 100.000 شخص، على الرغم من اختلاف المصادر. وقد أرجع كثيرون أسباب هذه الخسائر وضعف ليبيا في مواجهة مثل هذه الكوارث إلى آثار السنوات العشر الماضية في ليبيا من الحرب والأزمة السياسية بما أدى إلى تدمير البنية التحتية الحيوية، وتردي حالة أجزاء أخرى من البنى التحتية قبل وقوع العاصفة.

آثار التغيرات المناخية

شهد عام 2023 كوارث مناخية غير مسبوقة عالميًا؛ إذ سُجلت حرائق الغابات وموجات الحر والتطرفات الجوية القياسية في جميع أنحاء الكوكب. وارتفعت درجات الحرارة في منطقة البحر الأبيض المتوسط بشكل خاص، حيث كانت درجات الحرارة المتوسطة غير عادية وعُدّ شهر يوليو الماضي الشهر الأكثر حرارة في التاريخ.

يشير العلماء إلى أن العواصف الاستوائية في البحر الأبيض المتوسط نادرة نسبيًا، حيث تحدث مرة إلى ثلاث مرات في السنة، ولكن تأثيرها يمكن أن يكون كارثيًا بسبب الفيضانات وارتفاع المد البحري والرياح العاتية. من المرجح علمياً أن هذا الحر غير الطبيعي أدى إلى تعزيز عاصفة “دانيال”، مما زاد من شدة الأمطار التي تسببت فيها. حيث لا تؤدي ظاهرة الاحتباس الحراري فقط إلى تعزيز هذه العواصف من حيث شدة الأمطار، بل يجعلها أكثر ضراوة أيضًا. ويُعتقد أن تغير المناخ يزيد من شدة العواصف الاستوائية الأقوى، كذلك يعزز شدة الأمطار المرتبطة بهذه العواصف.

وقد تسببت الفيضانات في منطقة “تيسالي” اليونانية، يوم 5 سبتمبر، في مقتل شخص واحد على الأقل. في نفس اليوم، تلقت قرية “زاجورا” كمية غير اعتيادية من الأمطار تعادل 55 مرة أكثر من المعدل السنوي للأمطار في البلاد لنفس الشهر. وسجلت قرية “بورتاريا” أيضًا رقمًا قياسيًا جديدًا في كمية الأمطار، لم تتمكن محطة الرصد الجوي من قياسه بسبب تعطلها. واجتاح نهر “كرافسيدوناس”، يوم 6 سبتمبر، ضفاف مدينة فولوس الساحلية ليدمر جسرًا ومركزًا للرعاية الصحية، ويجرف السيارات والحافلات والأشجار والحطام على طول مساره.

بعدها أُغلق الطريق السريع الرئيس بين العاصمة “أثينا” و”ثيسالونيكي”، وُعلّقت خدمات القطارات بين المدينتين يوم 7 سبتمبر، بالتوازي مع جهود الإغاثة. حيث تم إنقاذ أكثر من 800 شخص في ظل انهيار المباني والجسور وغمر القرى في منطقة “تيسالي”. وحتى بعد انتهاء الأمطار في 8 سبتمبر، استمر ارتفاع منسوب المياه في نهر “بينيوس” ليصل إلى مستوى قياسي يعادل 9.5 أمتار، مقارنة بالمستوى الطبيعي البالغ 4 أمتار في المتوسط.

قام علماء الأرصاد الجوية بتصنيف العاصفة على أنها الأسوأ في اليونان منذ بدء تسجيل السجلات في عام 1930؛ إذ دمرت الفيضانات في “تيسالي” -التي توفر حوالي 15% من الإنتاج الزراعي في اليونان- المحاصيل لبقية العام، وتسببت في أضرار جسيمة على المدى الطويل حيث سيجعل الطبقة الكثيفة من الطين التربة غير خصبة وسيستغرق حتى خمس سنوات لاستعادة وظائفها بالكامل. ولم تتوقف العاصفة عن حصد الضحايا والتدمير فقط في اليونان، بل امتدت بعدها لتضرب دولًا أخرى مجاورة مثل تركيا وبلغاريا، إلا أن الدمار الأكبر حدث بعد انتقالها إلى الأراضي الليبية.

ليبيا.. بين التغيرات المناخية وضعف البنية التحتية

تأكد مقتل الآلاف في مدينة درنة بعد انهيار سدين، مما أدى إلى تدفق حوالي 30 مليون متر مكعب من المياه وتسبب في الدمار الكارثي في المنطقة عندما فاض وادي درنة عن ضفتيه بارتفاع 50 مترًا على كل جانب ليجرف الأحياء السكنية ويدمر أربعة جسور أيضًا. وصرح المسؤولون الليبيون بأن 25٪ من المدينة قد اختفى بعد أن جُرفت أجزاء كبيرة من المدينة إلى البحر. وصرح عمدة درنة عبد المنعم الغيثي بأن الحصيلة النهائية للقتلى في المدينة يمكن أن تتراوح بين 18.000 و 20.000 شخص.

بالإضافة إلى درنة، حدثت فيضانات أخرى في مدن: بتاح، وطبرق، والبيادة، وتاكنس، ومصراتة، بالإضافة إلى منطقة جبل الأخضر بأكملها. وهو ما أدى إلى تدمير ما لا يقل عن 150 منزلًا في جميع أنحاء البلاد وفقًا للهلال الأحمر الليبي، الذي فقد أيضًا ثلاثة متطوعين أثناء محاولاتهم للإغاثة.

ولكن مدينة درنة كانت الأكثر تضررًا من الكارثة، خاصة بعدما أصبحت المستشفيات في المدينة غير قادرة على العمل ، مما أدى إلى وضع الجثث في الشوارع والساحة الرئيسة للمدينة. ويرجع السبب وراء زيادة حجم الكارثة في مدينة درنة إلى إهمال عمليات تطوير البنية التحتية بسبب الحرب وتأثيراتها السياسية والاقتصادية. فقد بُني السدان المنهاران (درنة – منصور) في سبعينيات القرن الماضي؛ بهدف ري الأراضي الزراعية وتوفير المياه للمجتمعات المجاورة. ويعد السدان من السدود الترابية المملوءة بالطين، وهما بارتفاع 75 مترًا و45 مترًا على التوالي.

كان لدى سد درنة سعة تخزين للمياه تبلغ 18 مليون متر مكعب، بينما كان لدى سد منصور الأصغر سعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب. وصرح نائب عمدة درنة أن السدين لم تُجر أي عمليات صيانة لهما منذ عام 2002، ولم يكن السدان مصممين لتحمل مثل هذه الكميات الفجائية من المياه. وبعد انهيار السدين، نجت ثلاثة فقط من الأحياء العشر في المدينة من الفيضانات، في حين أصبحت خمسة من أصل سبعة طرق دخول إلى درنة غير متاحة. وانقسمت المدينة إلى قسمين بفعل انهيار الجسور على وادي درنة.

في الختام، لا يزال من غير الممكن تقدير حجم الخسائر النهائية للعاصفة “دانيال” في ليبيا. ومن المتوقع أن تستمر عمليات الإغاثة في الأيام المقبلة، قبل أن تبدأ عمليات إعادة التعمير. ولكن المشكلة تكمن في إمكانية تكرار مثل هذا النوع من الكوارث البيئية المرتبطة بالتغيرات المناخية وتهاون الدول الصناعية الكبرى في الالتزام بحلول تجابه هذه الظاهرة بشكل حاسم خلال العقود الأخيرة. وتبقى دول نامية عديدة معرضة لمثل هذا النوع من الأزمات ما لم تطور بنيتها التحتية كي تحمي مواطنيها.

د. عمر الحسيني

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى