من السويداء إلى دير الزور.. ماذا تعني التطورات الأخيرة في سوريا؟
شهدت الساحة السورية في الأسابيع الأخيرة عددًا من التطورات المهمة، وهي التطورات التي اتخذت بشكل عام طابعًا “تصعيديًا” على أكثر من مستوى، سواءً على الصعيد الأمني وهو ما تجسد في انفجار الأوضاع الأمنية في دير الزور على خلفية حل “مجلس دير الزور العسكري” واعتقال قياديين فيه من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، فضلًا عن تصاعد المواجهة بين “قسد” والقوات التركية في بعض مناطق الشمال السوري، أو على المستوى السياسي وهو ما تجسد في الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء، وهي الاحتجاجات المستمرة منذ أول أغسطس الماضي، في مشهد وصفته بعض الدوائر بـ “عودة أجواء 2011 إلى سوريا”. وتحمل هذه التطورات المهمة العديد من التساؤلات حول دلالاتها واحتمالية ارتباطها ببعض التحركات الخارجية من القوى الفاعلة في المشهد السوري في الفترات الأخيرة.
ماذا يحدث في السويداء؟
كان مشهد الاحتجاجات في محافظة السويداء جنوب شرق العاصمة دمشق هو التطور الداخلي الأبرز على المستوى السياسي في سوريا منذ مطلع أغسطس الماضي وحتى اليوم، الجدير بالذكر أن نفس المحافظة شهدت في يوليو 2022 احتجاجات ضد المجموعات الميليشياوية النشطة في المحافظة، فضلًا عن ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية. لكن احتجاجات أغسطس 2023، اتسمت بمجموعة من السمات التي جعلتها مختلفة عن أي حراك احتجاجي سابق في المدينة، وذلك على النحو التالي:
1- كان الدافع الرئيس وراء انفجار الاحتجاجات الشعبية في السويداء في البداية اقتصاديًا، حيث طالب المحتجون بتحسين الأوضاع الاقتصادية، ردًا على رفع أسعار المحروقات وبعض السلع الأخرى، ولكن هذه الاحتجاجات سرعان ما أخذت الطابع السياسي، عندما طالب المحتجون بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وتطبيق القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في ديسمبر 2015 والخاص بضرورة التسوية السياسية للأزمة. الجدير بالذكر أن هناك بعض المشاهد التي أكدت على اكتساب الاحتجاجات طابعًا سياسيًا ومنها ما يتعلق بالشعارات المرفوعة فيها مثل: “الحرية للمعتقلين” و”يسقط بشار الأسد”، ومنها ما يتعلق بما حدث من إغلاق المحتجين في 28 أغسطس الماضي لمقر حزب البعث الحاكم في المحافظة.
2- مثل تاريخ الرابع والعشرين من أغسطس الماضي نقطة تحول مهمة في مسار الاحتجاجات التي تشهدها محافظة السويداء، وذلك مع توجه وفد من عشائر الجنوب إلى ساحة السير في مدينة السويداء، وانضمامه إلى المحتجين معلنًا تضامنه مع الانتفاضة الشعبية، وأن “البدو والدروز يدًا بيد”، وهو ما أكسب الحراك الاحتجاجي طابعًا وطنيًا يتجاوز فكرة “الفئوية أو الطائفية”، خصوصًا وأن بعض الطوائف العلوية أيضًا قد انضمت إلى الاحتجاجات، وهي الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد.
3- أيدت المرجعيات الدينية الرئيسة في المدينة والمتمثلة في: حكمت الهاجري ويوسف جربوع وحمود الحناوي، من حيث المبدأ مطالب المحتجين، مع اختلاف مستوى التصعيد في خطاباتهم ومواقفهم من النظام. والملاحظ أن كافة هذه المرجعيات الدينية كانت موالية بشكل كبير للرئيس بشار الأسد، ما يعكس أن تأييدهم للاحتجاجات المناهضة له في السويداء يمثل متغيرًا مهمًا، ويكسب الاحتجاجات موضع قوة.
4- أدت المظاهرات في منطقة السويداء على ما يبدو إلى صعود “عدوى الاحتجاجات” بمعنى انتقال هذه التحركات الاحتجاجية إلى بعض المناطق الأخرى، فقد انتشرت الاحتجاجات في درعا والسويداء والقنيطرة بجنوبي سوريا ومدينتا اللاذقية وجبلة على الساحل السوري وصولًا إلى بعض المناطق في حلب ودمشق.
ويمكن القول إن هناك جملة من الأسباب الموضوعية التي دفعت باتجاه تصاعد الاحتجاجات وتجددها في الداخل السوري، وهي الأسباب التي تبدأ من إخفاق النظام السوري حتى اللحظة في إحراز تقدم على مستوى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وفي المقابل تبني إجراءات تزيد من معاناة السوريين مثل رفع الدعم عن المحروقات، بالإضافة إلى عدم حلحلة ملف الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
عملية أمنية لـ “قسد” في دير الزور
لم يكن المشهد السياسي وحده هو الذي شهد تطورات ومتغيرات مهمة في الداخل السوري؛ إذ يجد المتابع للمشهد السوري أن الملف الأمني كان هو الآخر قد شهد تطورات مهمة، كان أبرزها في منطقة دير الزور شرق نهر الفرات، وذلك مع إعلان قوات سوريا الديمقراطية عن عملية أمنية تحت مسمى “تعزيز الأمن”، امتدت من 27 أغسطس الماضي وحتى 10 سبتمبر الجاري، وقد ارتبطت أهمية هذه العملية الأمنية، بجملة من الاعتبارات، وذلك على النحو التالي:
1- عزل القائد العسكري لمجلس دير الزور: ارتبط الإعلان عن العملية الأمنية الأخيرة من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بشكل رئيس بما حدث من اعتقال قوات “قسد” للقائد العسكري لمجلس دير الزور أحمد الخبيل “أبو خولة”، في 21 أغسطس الماضي، فضلًا عن أربعة آخرين من قادة المجلس، وقد أصدرت “قسد” في 30 أغسطس بيانًا أعلنت فيه عن عزل “الخبيل” من منصبه، “بسبب ارتكابه العديد من الجرائم والتجاوزات” وفق نص البيان، الأمر الذي أدى إلى اندلاع مواجهات بين قوات “قسد” ومجموعات عشائرية موالية لمجلس دير الزور وقائده المعزول.
وقد سعت “قسد” إلى احتواء هذه المواجهات مع المجموعات العشائرية عبر بعض الآليات الرئيسية بدءًا من توكيل بعض وجهاء العشائر في دير الزور لخفض التصعيد والتوسط في الأزمة، بمشاركة ممثلين عن التحالف الدولي لمواجهة داعش، ووصولًا إلى إطلاق العملية الأمنية الأخيرة.
2- سعي “قسد” إلى إحكام قبضتها على مجلس دير الزور: لا يمكن فصل العملية الأخيرة والمواجهات بين “قسد” وبعض العشائر الموالية لمجلس دير الزور عما كشفت عنه بعض التحركات الأخيرة من سعي المجلس إلى تعزيز استقلاليته ضمن الهياكل المكونة لقوات سوريا الديمقراطية، والتحول بشكل مباشر إلى شريك محلي لإدارة منطقة دير الزور بشكل مستقل، وزيادة معدلات ومستوى التواصل مع التحالف الدولي؛ استغلالًا للتوجهات الأخيرة للولايات المتحدة والخاصة بدعم مشاركة المكون العربي في الإدارة المدنية والعسكرية ضمن الإدارة الذاتية. ويعني ذلك أن “قسد” تبنت العملية الأخيرة كإجراء استباقي لزيادة سيطرتها على مجلس دير الزور، وعزل القيادات التي ترغب في زيادة مساحة استقلالية المجلس.
3- احتواء بعض التهديدات الأمنية بالمدينة: على الرغم من أن الهدف الرئيس الواضح للعملية الأمنية الأخيرة لـ “قسد” كان يرتبط بالسعي إلى السيطرة على نطاق المواجهات مع المجموعات العشائرية الموالية لمجلس دير الزور العسكري، فإن العملية كذلك ارتبطت ببعض الاعتبارات الأمنية الأخرى، ومنها السعي إلى غلق الباب أمام توظيف عناصر تنظيم داعش للاضطرابات التي شهدتها المدينة من أجل تكثيف نشاطهم العملياتي، فضلًا عن احتمالية تبني التنظيم لعمليات تستهدف تحرير بعض عناصره المحتجزة في سجون “قسد”. أيضًا وفي ذات السياق، يبدو أن العملية الأمنية الأخيرة لـ “قسد” استهدفت “تعقب المجرمين الذين ارتكبوا المظالم بحق السكان وإنفاذ القانون، إضافة إلى ملاحقة المهربين الذين يتاجرون بلقمة عيش الأهالي”، وهو ما أكدته قوات سوريا الديمقراطية في بيان لها.
هل يوجد ارتباط بالتحركات الأمريكية؟
اكتسبت التطورات الأخيرة في سوريا أهمية بالغة؛ وذلك في ضوء تزامنها اللافت مع بعض التحركات الأمريكية المهمة في المشهد السوري، الأمر الذي دفع إلى تصاعد فرضية وجود ارتباط بين هذه التحركات الأمريكية، وبين بعض التطورات خصوصًا الأمنية، التي يشهدها الداخل السوري، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تعد مناطق شمال شرق سوريا نقاط تمركز وقواعد للتحالف الدولي لمواجهة داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن أن الولايات المتحدة قامت وفق العديد من التقارير الدولية في الأيام الماضية بالدفع بتعزيزات عسكرية عبر رتل عسكري قادم من إقليم كردستان بالعراق يضم نحو 30 شاحنة محملة بمواد لوجستية وعسكرية وكتل خرسانية. ورغم أن هذه التعزيزات تدخل إلى مناطق شمال شرقي سوريا بصفة شبه منتظمة لتلبية احتياجات القواعد العسكرية المنتشرة، فإن توقيت التعزيزات الأخيرة يأتي متزامنًا مع الاضطرابات في شمال شرقي سوريا.
2- أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت باتجاه تأزم الأوضاع الأمنية في دير الزور يتمثل في السياسات الخاطئة التي تتبناها الولايات المتحدة في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، فمن جانب كانت كافة الامتيازات والمنح الأمريكية تذهب إلى قوات سوريا الديمقراطية، بمعزل عن المكون العربي الذي هُمّش تمامًا سياسيًا وإداريًا، ومن جانب آخر تخطط الولايات المتحدة في الفترات الأخيرة لزيادة الرهان على المكون العربي، ودعم تمكينه سياسيًا وإداريًا، وهو الأمر الذي يدفع باتجاه حدوث صدام بين الجانبين الكردي والعربي.
وفي الختام، يمكن القول إن الساحة السورية تشهد في الفترة الراهنة تطورات داخلية وميدانية شديدة الأهمية، قد يترتب عليها متغيرات سياسية نوعية في الفترات المقبلة. لكن الملاحظ أن هذه التطورات لا ترتبط فقط ببعض الاعتبارات الموضوعية الداخلية؛ إذ إنها تشمل بعض الاعتبارات المرتبطة بالتحركات التي تتبناها بعض القوى الفاعلة في المشهد وعلى رأسها الولايات المتحدة.