الأمريكتان

أمريكا اللاتينية.. ساحة أخرى للتنافس الأمريكي الصيني

صوت برلمان أمريكا الوسطى ـوهو هيئة إقليمية تمثل جواتيمالا والسلفادور وهندوراس ونيكاراجوا وجمهورية الدومينيكان وبنما- في 21 أغسطس 2023 على طرد تايوان من منصب المراقب الدائم واستبدالها جمهورية الصين الشعبية بها. وتأتي هذه الخطوة وسط اتجاه متزايد لدول المنطقة لإسقاط علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان لصالح الصين. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية وحدها، قامت خمس دول في أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي بهذا التحول، مما يشير إلى تعزيز النفوذ الصيني في منطقة أمريكا اللاتينية بشكل متزايد وواضح. لكن مثل هذه الديناميكيات الإقليمية تأتي خلال فترة من المنافسة الجيوسياسية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، حيث يُنظر إلى التقدم الدبلوماسي والاقتصادي الذي حققته جمهورية الصين الشعبية في أمريكا اللاتينية بوصفه تهديدًا محتملًا لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. 

مؤشرات زيادة النفوذ الصيني

تتعدد المؤشرات الدالة على صعود حضور الصين في أمريكا اللاتينية ونجاحها في بعض الأحيان في التفوق على النفوذ الأمريكي الراسخ هناك منذ قرون؛ فعلى مدار العقود الأخيرة، نمت وتطورت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين بكين وبلدان أمريكا اللاتينية، ونجحت الصين في التفوق على واشنطن بوصفها أكبر شريك تجاري لأمريكا الجنوبية. 

وتُعد الصين حاليًا أهم سوق للصادرات إلى البرازيل وتشيلي وبيرو وكوبا وأوروجواي. وقفزت تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من 18 مليار دولار إلى 450 مليار دولار في عام 2022، في الوقت الذي ظلت فيه التجارة الأمريكية ثابتة. ومن المتوقع أن تصل تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية إلى 700 مليار دولار بحلول عام 2035.

وأصبحت أمريكا اللاتينية ثاني أكبر متلقٍّ لاستثمارات بكين المباشِرة بعد آسيا، ونما إجمالي الاستثمار الصيني في المنطقة من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى 315 مليار دولار في عام 2020. وتتركز هذه الاستثمارات في مشروعات البنية التحتية، والقطاعات الاستخراجية، مع إيلاء اهتمام خاص للنفط والمعادن الاستراتيجية مثل الليثيوم، إضافةً إلى توقيع بكين اتفاقات مع 24 دولة في مجال الاتصالات المتقدمة خاصة شبكات الجيلَين الرابع والخامس.

وكذلك يعد بنك التنمية الصيني المملوك للدولة وبنك التصدير والاستيراد الصيني من بين المقرضين الرائدين في المنطقة؛ فبين عامي 2005 و2020، أقرضا معًا نحو 137 مليار دولار لحكومات أمريكا اللاتينية. وأدى تبني الصين شروطًا متساهلة، وعدم تشددها بشأن معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى زيادة جاذبيتها لدى دول أمريكا اللاتينية، بكونها مصدرًا بديلًا للقروض والاستثمارات ومشتريات السلع الغربية.

أما من جانب الشراكة الأمنية، فتُعد الولايات المتحدة هي الشريك الأمني الرئيس لبلدان أمريكا اللاتينية، مع العديد من القواعد عبر دول مثل كولومبيا. ومع ذلك، حرصت الصين على تصدير الأسلحة، وكذلك توفير المستلزمات العسكرية في صورة منح لجيوش وأجهزة الشرطة في أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى تقديم الدورات التدريبية، والمنح الدراسية لعناصر من هذه القوات، بجانب قيام بكين بإنشاء محطة مراقبة فضائية في الأرجنتين بالقرب من مضيق ماجلان، وإرسالها بالونًا للمراقبة فوق الأجواء اللاتينية؛ الأمر الذي أثار مخاوف المسؤولين الأمريكيين من استخدام بكين البنية التحتية “ذات الاستخدام المزدوج” في أمريكا اللاتينية، جنبًا إلى جنب مع تفاعلاتها العسكرية المنتظمة، وهو ما يزيد احتمال أن تصبح المنطقة ساحة معركة لصراعهما، وربما تتيح الشراكة الأمنية الصاعدة لبكين إمكانية نشر قواتها في بعض بلدان أمريكا اللاتينية أو جمع المعلومات الاستخباراتية المهمة بشأن الأنشطة والعمليات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة هناك.

ومن اللافت أيضًا أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعد اهتمام العديد من دول المنطقة بالانفتاح السياسي على بكين، حيث ظهر ذلك مؤخرًا مع إعلان هندوراس أن بلادها ستُقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. وظهر هذا التوجه أيضًا مع إجراء الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا زيارة إلى الصين في أبريل الماضي، مما عكس التطور الحادث في العلاقات الصينية البرازيلية خلال السنوات الماضية.

أسباب اهتمام الصين بأمريكا اللاتينية

هناك عدد من الدوافع الاقتصادية المحركة للصين لتعزيز صلاتها ببلدان أمريكا اللاتينية، ويأتي في مقدمتها الحصول على المواد الخام (الزراعية والمعدنية)، التي تشتهر بها القارة اللاتينية، على نحو يمكنها من مواصلة نموها الاقتصادي. ذلك بالإضافة إلى أهمية أمريكا اللاتينية بصفتها سوقًا استهلاكية ضخمة للصادرات الصينية بعدد سكان بلغ نحو 658 مليون نسمة عام 2021.

يضاف إلى ذلك سعي بكين إلى توسيع نطاق مشروعها الطموح الخاص بمبادرة الحزام والطريق، ليشمل دول أمريكا اللاتينية التي تحتل مكانة محورية في حركة الملاحة الدولية لوقوعها بالقرب من العديد من ممرات الملاحة الدولية، بما في ذلك قناة بنما. ونجحت الصين بالفعل في إقناع 21 دولة في المنطقة بالانضمام إلى المبادرة.

بالإضافة إلى ذلك، تعمل الصين على الاستفادة من تراجع نفوذ واشنطن التقليدي في أمريكا اللاتينية لتعزيز حضورها وترسيخ مكانتها بوصفها قوة دولية وبديلًا للولايات المتحدة يحظى بقبول ومصداقية من قبل دول المنطقة. أشار الرئيس الصيني في خطاب ألقاه في القمة السابعة لمجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في يناير 2023 إلى أن “دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أعضاء مهمين في العالم النامي، وتضطلع بدور نشط في الحوكمة العالمية، وتقدم مساهمات مهمة فيها”. في الوقت ذاته، تستهدف بكين الرد على التحركات الأمريكية المتواصلة في شمال شرق آسيا، التي تعد مناطق نفوذ تقليدي للصين، وذلك من خلال إبراز قدرتها على تكثيف حضورها في مناطق النفوذ التقليدي لواشنطن.

وتعد الرغبة الصينية الملحة في عزل تايوان وتقليص عدد دول العالم التي تعترف بها دولة مستقلة في إطار التزامها بسياسة “صين واحدة”، محركًا قويًا أيضًا لبكين لتعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية والكاريبي، التي تضم حاليًا 7 دول من أصل 14 دولة تُواصِل الاعتراف بتايوان.

مستقبل السياسة الأمريكية الصينية في أمريكا اللاتينية

مع وجود العديد من الشخصيات والأحزاب اليسارية في السلطة في المنطقة، من المرجح أن تُولي حكوماتها اهتمامًا متزايدًا بتوثيق صلاتها بالصين لتوسيع هامش الحركة المتاح لديها. وخلال قمة الأمريكتين الأخيرة التي عقدت في يونيو 2022 بلوس أنجلوس للمرة الأولى، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، كانت هناك علامات واضحة على تضاؤل ​​قوة الولايات المتحدة بدرجة كبيرة، حيث لم تحضر ثلاث دول من أمريكا اللاتينية القمة، ما أدى إلى رد فعل من المكسيك الجارة الشمالية للولايات المتحدة بعدم حضور القمة، مستشهدةً بحقيقة أن واشنطن رفضت دعوة كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا –وهي ثلاث دول بقيادة حكومات يسارية مناهضة لواشنطن– لحضور القمة.

غالبًا ما يتم انتقاد سياسة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي؛ لافتقارها إلى استراتيجية تجارية واستثمارية شاملة للتعاون مع بلدان المنطقة. وقد تركت السياسة الأمريكية العدوانية بعض العلامات التي لا تُمحى في الذاكرة العامة في جميع أنحاء المنطقة، وسمحت خيبة الأمل والاستياء المتزايدين من الولايات المتحدة بسبب هذه التدخلات للصين بزيادة نفوذها عبر المنطقة. 

وإذا استمرت واشنطن في تبني استراتيجية يغلب عليها المقاربة الأمنية في التعامل مع مشكلات بلدان أمريكا اللاتينية، دون إيلاء الاهتمام اللازم بالمساعدة الاقتصادية والعلاقات التجارية أو دعم المجتمع المدني وتعزيز الديمقراطية؛ فمن المرجح أن ينظر العديد من دول أمريكا اللاتينية إلى واشنطن بوصفها شريكًا واحدًا من بين العديد من الشركاء، لا بوصفها الشريك الأكثر جاذبيةً بالضرورة، على الأقل فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية.

في حين أن الولايات المتحدة ستنجح في الحفاظ على هيمنتها العسكرية الإقليمية، فإن دعوات أمريكا اللاتينية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب سوف تغذيها الصين، لذلك من المُرجح رؤية تعاون دبلوماسي أوثق بين الصين ودول أمريكا اللاتينية في المنتديات المتعددة الأطراف، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة. في الوقت نفسه، من المرتقب أن تواصل الصين دفع أجندتها إلى الأمام من خلال عقد شركاتها المملوكة للدولة الصفقات التجارية والشراكات الاستثمارية مع بلدان أمريكا اللاتينية، بما يضمن تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.

ختامًا، يرجح أن يدفع الوضع الحالي في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الدولية سريعة التغير، وتحول اهتمام العديد من الدول لإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب بدلًا من هيمنة القوى العظمى؛ دول أمريكا اللاتينية إلى تجنب الانحياز لصالح قوة دولية دون الأخرى، وهو ما تستغله الصين بأفضل شكل ممكن في ظل محاولاتها بالتعاون مع روسيا لإقامة نظام دولي متعدد الأطراف. ومن المرجح أن تدعم دول أمريكا اللاتينية هذا الجهد في محاولة لتخفيف الضغوط الأمريكية المفروضة عليها، والحد من تدخلات واشنطن في شؤونها الداخلية. وبدون جهد أمريكي مستدام لتعزيز الشراكة مع بلدان أمريكا اللاتينية، سوف تواصل بكين تعزيز نفوذها في “الحديقة الخلفية للولايات المتحدة”.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى