آسياالاقتصاد الدولي

التباطؤ الاقتصادي الصيني.. الأسباب والتداعيات

كان من المفترض أن يكون هذا هو العام الذي ينتعش فيه الاقتصاد الصيني، بعد أن تحرر من قيود كوفيد-19 الأكثر صرامة في العالم للمساعدة في تعزيز النمو العالمي. وبدلًا من ذلك، فهي تواجه مجموعة من المشاكل منها تباطؤ الإنفاق الاستهلاكي، وسوق العقارات المهتزة، وضعف الصادرات وسط حملة أمريكية لـ “الحد من المخاطر”، ومستويات قياسية من البطالة بين الشباب، وارتفاع ديون الحكومات المحلية. وقد أصبح تأثير هذه الضغوط محسوسًا في مختلف أنحاء العالم على المستويات كافة، بدءًا من أسعار السلع الأساسية وحتى أسواق الأسهم.

سقوط الجائحة

لقد سقط اقتصاد الصين رسميًا في هوة الانكماش للمرة الأولى منذ عامين، وانخفض مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) بنسبة -0.30٪ على أساس سنوي في يوليو. وظل مؤشر تضخم المنتجين (PPI) سلبيًا للغاية عند -4.40٪، وتلاشت كل الضجة التي أحاطت بإعادة فتح الصين “التضخمية” والتي حدثت قبل أكثر من 8 أشهر مع بدء العديد من الخبراء في إدراك الاختلالات الهيكلية في ثاني أكبر اقتصاد في العالم مع انجرافه نحو الانكماش. والواقع أنه باستخدام معامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي (وهو مقياس للأسعار على مستوى الاقتصاد بالكامل) دخلت الصين بالفعل في مرحلة الانكماش خلال الفترة الماضية.

هناك ثلاثة أسباب دفعت الصين لذلك الانكماش: الأول هو سوء التعامل مع جائحة كوفيد-19 وخاصة منذ مارس 2022 عندما بدأت شنغهاي إغلاقها. وعلى الرغم من أن عمليات الإغلاق كانت بشكل جزئي في أماكن أخرى، لا تزال تأثيراتها مزعجة ومرهقة للغاية. وأدى التخلي المفاجئ عن سياسة صفر كوفيد دون أي استعداد إلى تعزيز هذه المخاوف. 

أما السبب الثاني فهو الهجوم الحاد على القطاع الخاص، وخاصة شركات التكنولوجيا المعتمدة على الإنترنت، والتأكيد على “الرخاء المشترك”، وهو ما يدفع رجال الأعمال إلى الخوف من أن نجاحهم لا يمكن أن يدوم طويلا. والثالث هو التنافس المتنامي مع الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، فتثير هذه التوترات صراعًا أمريكيًا صينيًا، وتزيد الشكوك حول إمكانية استدامة إمكانيات الصين ونفاذها إلى التكنولوجيا الحديثة والأسواق المالية ورأس المال في المستقبل (الاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي)؛ وتقليل جدوى السفر المنتظم والتعامل مع الغرب، ويوضح الشكل التالي معدلات النمو في الصين:

كان من المتوقع أن يعاني الاقتصاد الصيني هذا العام بعد ثلاث سنوات من سياسة القضاء على كوفيد-19. وكان من المتوقع كذلك أن يكون التعافي مدفوعًا بانتعاش الاستهلاك، بقيادة عودة الأنشطة الاقتصادية إلى طبيعتها وتحسن سوق العمل، واستقرار القطاع العقاري. وانتعش الاقتصاد في الربع الأول كما كان متوقعًا إلى حد كبير، وفي حالة العقارات والصادرات، كان أفضل قليلا من المتوقع. 

ومع ذلك، مع دخول الربع الثاني تعثر انتعاش العقارات، مع بدء مبيعات العقارات في الانخفاض بشكل أكبر. بالإضافة إلى ذلك، عندما واجهت الحكومات المحلية تحديات تمويلية، قامت بتشديد الإنفاق المالي، الأمر الذي أدى إلى تقييد النمو. وعلى هذه الخلفية، بدأ القطاع الصناعي في التخلص من المخزون وتباطأ انتعاش الاستهلاك في الربع الثاني. ونتيجة لذلك، تراجع النمو الاقتصادي الإجمالي في الربع الثاني.

تداعيات محتملة

من المتوقع تخفيف السياسة المالية مع المزيد من الدعم الائتماني للاستثمار في البنية التحتية وتيسير متواضع للسياسات العقارية. ومن المتوقع أن يتعافى النمو على أساس ربع سنوي من 4% إلى 4.5% في الربعين الثالث والرابع، وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي ليصل إلى نحو 5% هذا العام (هدف الحكومة لعام 2023)، مقارنة بنحو 3% بالكاد في عام 2022. 

ويمكن أيضًا ألا يتعافى الاقتصاد في النصف الثاني، وقد ينخفض النمو إلى مستوى أقل بكثير من 5% هذا العام إذا لم يستقر القطاع العقاري، إما لأن السياسة العقارية لم يتم تخفيفها بشكل كبير، أو ثبت أن السياسات المتبعة غير كافية لوقف الانخفاض في النمو. وفي هذه الحالة، فإن الانحدار العميق في قطاع العقارات سوف يستمر في خفض الدخل والثقة في قطاعي الشركات والأسر، فضلًا عن الأسعار. يوضح الشكل التالي ارتفاع معدل الادخار في الصين:

تُرجمت هذه المخاوف إلى زيادة في المدخرات وانخفاض الاستثمار والاستهلاك. بالرغم من أن الوعكة التي يعاني منها قطاع العقارات تضغط على قدرة الأفراد في الاستثمار والاستهلاك، فإن الانخفاض الأوسع في الثقة لا يرتبط بشكل كبير بانفجار الفقاعة العقارية، بل يرتبط أكثر بأن البلاد تسير على نطاق واسع في الاتجاه الخاطئ، فإذا كان الأمر كذلك، فعلى الرغم من أن السلطات تحتاج إلى معالجة الديون والديموغرافيا (كثافة وعدد السكان) فإن التحدي الحقيقي يتمثل في إعادة غرس الشعور بالهدف الإيجابي المشترك تجاه الصين والذي يقبله الجمهور، والحد من التوترات مع الغرب، وإظهار الكفاءة الأساسية في الحكم، لن تؤدي مثل هذه التغييرات بالضرورة إلى ازدهار اقتصادي، ولكنها ستعمل على إعادة بناء الشعور بالتفاؤل الذي من شأنه أن يولد قبولًا شعبيًا أكبر وربما السعادة مهما كانت النتيجة الاقتصادية التي قد تنشأ.

هل سيساعد خفض أسعار الفائدة؟ خفضت البنوك الصينية الكبرى يوم الجمعة أسعار الفائدة على مجموعة من الودائع باليوان؛ لتخفيف الضغط على هوامش أرباحها وإفساح المجال أمامها لخفض تكاليف الإقراض للمقترضين، بما في ذلك عن طريق خفض أسعار الرهن العقاري، وبينما يأمل صناع السياسة أن يؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى تعزيز الاستهلاك، يحذر الاقتصاديون من أن تخفيضات أسعار الفائدة على الودائع المصاحبة لها يمكن أن تؤدي إلى تحويل الأموال من المستهلكين الذين يدخرون إلى أولئك الذين يقترضون.

وقد خفض بنك الشعب الصيني (PBoC) سعر الفائدة الرئيسي على القروض لأجل عام واحد (LPR) بمقدار 10 نقاط أساس إلى مستوى قياسي منخفض عند 3.45% بينما أبقى سعر الفائدة ثابتًا بشكل غير متوقع على مدى 5 سنوات، وهو مرجع للقروض العقارية، عند 4.2%. وجاء قرار يوم 4 سبتمبر بعد تخفيض مفاجئ في أسعار الفائدة على القروض قصيرة الأجل وسعر الفائدة على المدى المتوسط من قبل البنك المركزي، حيث يسعى إلى تحقيق التوازن بين مساعدة الاقتصاد الصيني المتعثر ووقف المزيد من الضعف في اليوان.

وتعهد بنك الشعب الصيني مرارًا وتكرارًا بإطلاق المزيد من السيولة للاقتصاد، وسط تباطؤ النشاط التجاري، وتزايد التوقعات الانكماشية، وضعف الأداء التجاري. ذكر رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ مؤخرًا أن تحقيق الأهداف الاقتصادية السنوية للصين ليس اختياريًا، وشدد على الحاجة إلى توسيع الطلب المحلي، ودعم الشركات الخاصة، وجذب الاستثمار الأجنبي، يوضح الشكل التالي أسعار الفائدة خلال السنة:

وعلاوة على ذلك، فإن تحويلات الموارد من القطاع الحكومي إلى الأسر من الممكن أن تكون لها تأثير أكثر وضوحًا على المدى الطويل، وقد يؤدي خفض أسعار الفائدة أيضًا إلى خلق مخاطر انخفاض قيمة اليوان وتدفقات رأس المال إلى الخارج، وهو ما ستحرص الصين على تجنبه. وقال البنك المركزي الصيني يوم 8 سبتمبر إنه سيخفض حجم النقد الأجنبي الذي يتعين على المؤسسات المالية الاحتفاظ به كاحتياطيات للمرة الأولى هذا العام لمواجهة الضغوط على اليوان.

ختامًا، يمكن للحكومة الصينية للخروج من هذه الأزمة أن تبدأ في العمل على التدابير التي من شأنها تعزيز حصة استهلاك الأسر في الناتج المحلي الإجمالي، وتشمل الخيارات قسائم المستهلكين الممولة من الحكومة، وتخفيضات ضريبية كبيرة، وتشجيع نمو أسرع للأجور، وبناء شبكة أمان اجتماعي مع معاشات تقاعدية أعلى، وإعانات البطالة، وخدمات عامة أفضل ومتاحة على نطاق أوسع.

محمد صبرى

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى