
اختتام قمة العشرين بنيودلهي .. توافق بين الدول الأعضاء ومخرجات برجماتية
انعقدت القمة السنوية لمجموعة العشرين في نسختها الثامنة عشرة في العاصمة الهندية نيودلهي يومي التاسع والعاشر من شهر سبتمبر الجاري برئاسة الهند، بحضور رؤساء دول المجموعة وعدد من الرؤساء المدعوين، وعلى الرغم من التباينات الداخلية والعلاقات الثنائية المتوترة بين العديد من الدول الأعضاء، إلا أن فعاليات القمة كانت مثمرة وشهدت العديد من جلسات التفاوض بشأن قضايا متعددة لاقت توافقًا ملحوظًا بينهم. وعليه، توصلت دول المجموعة إلى بعض القرارات الإيجابية التي من شأنها أن تحقق منافع مشتركة تعود على الدول برمتها.
انعقدت هذه القمة في غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، وحضر نيابة عنهما وزير الخارجية سيرغي لافروف، ورئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ نيابة. واختار بوتين الغياب عن هذه القمة لتجنب ردود الأفعال السياسية المحتملة وأي تهديد محتمل بالاعتقال بموجب مذكرة المحكمة الجنائية الدولية، وفي ضوء ذلك، أكد الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا الذي تحتضن بلاده النسخة القادمة من القمة، أنه لا توجد أي خطط لاعتقال الرئيس الروسي إذا ما قرر حضور القمة المقبلة المقرر عقدها في ريو دي جانيرو البرازيلية العام المقبل.
مخرجات برجماتية
إعلان دلهي: أسفرت القمة عن الاتفاق بشأن الإعلان المشترك لمجموعة العشرين، هذا وعلى الرغم من الاختلافات التي كانت ولا زالت قائمة ومتنامية بين الدول الأعضاء بشكل كان يرجح أنه من الصعب التوصل إلى اتفاق مشترك بينهم وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، إذ سلط الإعلان الضوء على الجانب الإنساني والمعاناة التي نتجت عن هذه الحرب، داعيًا الدول للامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو الأسلحة النووية أو استخدامها سعيًا للاستيلاء على الأراضي التي لا تحق لها أو استغلالها سياسيًا، بما يزعزع السلامة الإقليمية وسيادة الدول. والعمل على التوصل إلى حل السلمي للأزمة انطلاقًا من هدف القمة الذي يندرج تحت شعار “أرض واحدة، عائلة واحدة، مستقبل واحد” الذي يروج لعصر سلمي لا عصر حرب. إضافة إلى ذلك، دعا الإعلان إلى تمسك الدول جميعها بمبادئ القانون الدولي والنظام متعدد الأطراف الذي من شأنه أن يقوم بحماية الأمن والاستقرار، إضافة إلى السلوك بحسب مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. كذلك اتفقت الدول على مواصلة الجهود لاستقصاء التأثير السلبي للحرب على الاقتصاد العالمي، والعمل المشترك والموحد لمعالجة هذا التأثير، مرحبين بذلك بجميع المبادرات المماثلة وذات الصلة على أن تكون بناءة وداعمة لمبدأ النهج السلمي والودي في الفصل في النزاعات.
انضمام الاتحاد الأفريقي: افتتح رئيس الوزراء الهند ناريندرا مودي هذه القمة بدعوة الاتحاد الأفريقي إلى عضوية دائمة في المجموعة، منهيًا بذلك “عجز الثقة العالمي” وساعيًا لجعل الاتحاد الأفريقي أكثر تمثيلًا عالميًا. هذا ما أظهرت الدول الأعضاء الإجماع عليه نظرًا لسعي الجهة الشرقية، من ناحية، وعلى رأسها الصين والهند وروسيا لكسب الدول الأفريقية لتمتعها بالإمكانات والموارد التي من شأنها أن تدفع بالاقتصاد العالمي وتعززه، بالإضافة إلى كونها تمثل قوة كبيرة قادرة أن تزيح النظام أحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، داعمة بذلك مبدأ “عالم متعدد الأقطاب”، وذلك في حال تحالف الدول الأفريقية مع القوة الشرقية. ومن ناحية أخرى، يسعى الغرب لمواجهة نفوذ الجهة الشرقية المتنامي والمتسارع في القارة للحفاظ على هيمنته العالمية قائمة غير ممسوس بها.
تحالف الوقود الحيوي: استطاعت القمة إطلاق التحالف العالمي للوقود الحيوي بقيادة الهند، لخدمة مقاصد التنمية المستدامة ودعم أهداف خفض صافي الانبعاثات للصفر وذلك لتعزيز استخدام الوقود النظيف. ويمكن لهذه المبادرة التي تضم الولايات المتحدة والبرازيل والإمارات العربية المتحدة أن تولد فرص بقيمة 500 مليار دولار أمريكي في السنوات الثلاث المقبلة لدول المجموعة. وعليه، تعد هذه المبادرة مكسبًا اقتصاديًا وبيئيًا للمجموعة وللعالم برمته، وكذلك يقوم بتعزيز مكانة المجموعة كونها المنتدى العالمي الرئيس للتعاون الاقتصادي الدولي.
دلالات متوقعة
على الرغم من أن جميع المؤشرات كانت توحي بعدم إمكانية بل واستحالة التوصل لأي اتفاق مشترك بين الدول الأعضاء، في ضوء تزايد الصراعات الثنائية والانقسامات الداخلية بينهم، إلا أنه كان من المفاجئ نجاحهم في تحقيق التوازن في وجهات النظر وأفكارهم وتوجهاتهم الجيوسياسية والاقتصادية. ليس هذا وحسب، بل أشادت روسيا والولايات المتحدة بإعلان القمة متفقين على أن الجميع اتفقوا ككيان واحد من أجل السلام والحل السلمي للنزاعات، بعد أن كانوا على نهج غير متوافق في شتى الملفات العالمية وعلى رأسها الملف الروسي الأوكراني. من المرجح أن هذا الإعلان كان مرضيًا للطرفين لأنه لم يدن الأولى بشكل مباشر ولكنه يدعم وقف الحرب واتباع نهجًا سلميًا في تسوية الحسابات الذي ترغب فيه الثانية. وهذا ما يحسب للهند التي كانت قد انخرطت في مفاوضات طويلة مع الصين وروسيا حتى استطاعت الوصول لهذه التسوية فقط عشية انعقاد القمة.
يأتي إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن الأعضاء الدائمين لمجموعة العشرين مكسبًا هائلًا لكلا الطرفين. فمن ناحية، هناك توجهًا عالميًا إزاء القارة الأفريقية بشكل ملحوظ، تحاول فيه الجهة الشرقية بناء موطئ قدم لها في القارة السمراء بينما يسعى الغرب لانتزاعها منها. فضلًا عن المكاسب الاقتصادية التي تعود على المجموعة من ضم ثقل ديموغرافي واقتصادي عالمي ونامي كبير، بالإضافة إلى الموارد والإمكانات الهائلة التي تتمتع بها القارة مما يجعلها مطمعًا لكثير من الدول الصناعية الكبرى. ومن ناحية أخرى، تكتسب القارة الأفريقية بهذا نفوذًا وصوتًا مسموعًا على الساحة العالمية، وإدراجها في عملية صنع القرار فيما يخص القضايا الدولية الشائكة، بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية التي قد تحظى بها من استثمارات وتصديرات هائلة، قد تنتج عن هذا الاهتمام الذي تبديه الدول المتقدمة بشأنها.
وعلى أساس الموارد التي تتمتع بها القارة الأفريقية والتي قد تسهم بشكل كبير في التحول الأخضر وتحقيق التنمية المستدامة، وهو التوجه العالمي الأول حاليًا. أتى تحالف الوقود الحيوي الذي تم إطلاقه خلال هذه القمة كمبادرة ليس فقط لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في إطار خطط انتقال الطاقة العالمية عن طريق وجود بديل للوقود الأحفوري، بل أيضًا ليصبح مصدرًا لمكاسب كبيرة إيكولوجية واقتصادية وسياسية تعود على العالم برمته. وعليه، يساعد هذا التحالف بنشر إنتاج الوقود الحيوي السائل في العديد من البلدان بعد أن اقتصر إنتاجه على عدد قليل منها على الرغم من وجود الإمكانات الضخمة لإنتاجه في أجزاء واسعة من العالم. مما يشكل مجال محتمل لتعزيز العلاقات بين بعض الدول المتعارضة سياسيًا، والتي من شأنها وأن تنضم لهذا التحالف مع مرور الوقت.
خلال هذه القمة استطاعت الهند تعزيز موقفها العالمي وحظيت بالدعم، خاصة بعدما عزمت على التركيز على تلبية احتياجات الجنوب العالمي ودعم نهج العولمة الذي يركز على احتياجات المواطنين. ويظهر هذا التوجه الذي تظهر فيه ليس فقط كمؤيد لدول الجنوب العالمي وعلى رأسها الدول الأفريقية بل كصوت للجنوب على الساحة العالمية، حيث قامت بتهيئة هذا التوجه من خلال عقد قمة افتراضية تحت عنوان “صوت الجنوب العالمي” في يناير 2023 التي شاركت فيها أكثر من 120 دولة. ونجحت الهند في ضمان عدم إلقاء التوترات السياسية بظلالها على القمة ومحاولة إقناع أطراف الأزمة للوصول إلى حل وسط، واستطاعت من خلال فترة رئاستها إبراز صعودها ووصولها كقوة جيوسياسية واقتصادية رائدة، حيث كانت هذه القضية مصدر قلق عالمي بشأن القمة.
بجانب جهود الهند في محاولة التوصل إلى إعلان مشترك، كانت الولايات المتحدة حريصة على الوصول إلى مثل هذا الاتفاق في نهاية القمة، خاصة بعد تهديد روسيا بعدم موافقتها على تبني إعلان القمة ما لم يعكس موقفها من الأزمات العالمية وخاصة في أوكرانيا. ومن الممكن أن تكون الخطوة الأمريكية وسيلة لإظهار الالتزام بالدبلوماسية ومواجهة التحديات العالمية المشتركة، مما قد يساعد في تحسين علاقاتها مع دول الشرق التي تقوم بدورها بتمهيد الطريق للمفاوضات في المستقبل حول بعض الملفات الشائكة؛ إذ لا تريد واشنطن الإضرار بعلاقاتها مع المعسكر الشرقي الذي تجمعها مع دوله علاقات اقتصادية وثيقة. وعليه، قد تستطيع الولايات المتحدة من خلال الإعلان المشترك، وتجنبها نقاط التوتر والخلاف مع كل من روسيا والصين به الإشارة إلى عزمها على الانخراط في شراكات تجارية واستثمارية واقتصادية ذات المنافع المتبادلة.
ختامًا، مثّلت القمة الثامنة عشرة لمجموعة العشرين بالهند نجاحًا ملحوظًا على الساحة الدولية بعد أن كانت موضع قلق لانعقادها بعد توسيع “بريكس” ومع ازدياد النزاعات والصراعات بين الجبهتين الشرقية والغربية فيما يتعلق بملفات متعددة في الفترة الأخيرة، أدت إلى تصاعدات مقلقة بين الجهتين. فعلى خلاف التوقعات، كان التوافق بين دول المجموعة حاضرًا ليعكس جهود الهند لتهدئة الأوضاع وصولًا إلى صياغة بيان مشترك متوازن.