
تمكنت إيران خلال السنوات الماضية، التي أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 2003، من إزاحة عدد من الجماعات المسلحة المناوئة لنظام الحكم السياسي بها والتي كانت تتخذ من الأراضي العراقية مسكنًا لها. وقد تركزت هذه الجماعات في قسمين رئيسين، هما: جماعة “مجاهدي خلق”، والجماعات الكردية الأخرى المسلحة المتمركزة على الحدود.
أما “مجاهدي خلق”، فقد انتقلت عناصرها البالغة حوالي 2000 شخص في عام 2016 من “معسكر ليبرتي” في العراق إلى معسكر “أشرف 3” في ألبانيا الواقع على الطريق الواصل بين العاصمة تيرانا ومدينة دورس الساحلية الواقعة على البحر الأدرياتيكي. وكان معسكر “ليبرتي” بالأساس الخيار البديل لهذه الجماعة بعد اضطرارها في عام 2013 لترك معسكر “أشرف” في محافظة ديالى العراقية والذي كان يقع على بعد 80 كيلومترًا من الحدود الإيرانية.
وكان التعاون السياسي والعلاقات الجيدة بين الحكومة العراقية ونظيرتها الإيرانية أحد أهم مرتكزات تحييد أعمال هذه الجماعات في العراق. ومع رحيل عناصر “مجاهدي خلق” المناهضة للنظام السياسي في إيران عن العراق في 2016، لم تتبق من مخاطر رئيسة أمام الحكومة الإيرانية تنطلق من الأراضي العراقية سوى الجماعات الكردية المسلحة التي تتمركز أيضًا في شمال العراق على الحدود مع إيران.
وقد حاولت إيران استخدام طرق عدة خلال السنوات الماضية لتحييد أعمال هذه الجماعات الكردية، إما عن طريق توجيه ضربات جوية مركزة ومتعددة ضد مواقع هذه الجماعات في أرييل وغيرها من مناطق الشمال العراقي، مثل التي جرت في شهر نوفمبر 2022، أو عن طريق التفاهم والتفاوض مع الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان لاحتوائهم.
وكان من بين وسائل النهج الإيراني المستخدم للتعامل مع أنشطة الجماعات الكردية في شمال العراق ذلك الاتفاق الذي أعلن عنه المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في 28 أغسطس 2023 والرامي إلى نزع أسلحة الجماعات “الكردية-الإيرانية” المعارضة والمتمركزة في شمال العراق ونقل أعضائها إلى مناطق أخرى على الأغلب الأعم داخل العراق. على أن يتم ذلك في مدة أقصاها يوم 19 سبتمبر 2023.
توقيت الاتفاق الإيراني العراقي
لم يكن هذا الاتفاق الإيراني العراقي اتفاقًا منفصلًا، وإنما جاء مكملًا للوثيقة الأمنية المشتركة التي وقعها الطرفان في 19 مارس 2023، والتي هدفت إلى “حماية الحدود المشتركة بين البلدين، ومراقبة الحدود المشتركة، وتسليم المطلوبين”. هذا إلى جانب تعهد السلطات العراقية بعدم السماح للجماعات المسلحة باستخدام أراضيها في إقليم كردستان الشمالي بغية تنفيذ عمليات عسكرية أو أمنية في الداخل الإيراني.
وعلى الرغم من ذلك، فإن توقيت الإعلان عن الاتفاق الأخير يحمل في طياته أهدافًا بعينها. فبعد أيام قليلة، ستحل في منتصف سبتمبر الجاري الذكرى الأولى في إيران لمقتل الفتاة الكردية الإيرانية “مهسا أميني” على يد وحدة “شرطة الأخلاق” التابعة للشرطة الوطنية الإيرانية. ولهذه الذكرى أهمية خاصة تأتي في سياق ما يُشاع لدى الدوائر السياسية الخاصة في إيران خلال الأسابيع الماضية من أن هناك من يستعدون لـ “التحريض على إعادة إشعال التظاهرات التي أعقبت مقتل “أميني” مرة أخرى في إيران”.
ولعل هذه الأنباء قد لاقت صدى واسعًا لدى مختلف السياسيين والعسكريين الإيرانيين، والذين كان من أبرزهم قائد الحرس الثوري، حسين سلامي، الذي حذّر في الأول من أغسطس الماضي من إمكانية “بدء موجة جديدة” من المظاهرات المماثلة للعام الماضي في إيران، حيث وصف هذه الدعوات بأنها “إحياء للفتنة”. وقد أثارت هذه المخاوف قلاقل المسؤولين الأمنيين والعسكريين والاستخباراتيين الإيرانيين الذين أعلنوا خلال اجتماع لهم في مدينة مشهد شمال شرقي إيران في شهر يونيو 2023 عن توصلهم لـ “دراسة سبل الوصول إلى استراتيجية موحدة” فيما بينهم إذا ما اندلعت هذه الموجة الاحتجاجية من جديد.
وعلى أي حال، فإن الرابط ما بين هذه الاتفاقية الحدودية الإيرانية العراقية واحتمالية عودة التظاهرات مرة أخرى في إيران خلال شهر سبتمبر الجاري يتمثل في الاتهامات الإيرانية المتعددة التي طالت المجموعات الكردية في الشمال العراقي العام الماضي بالتزامن مع جريان هذه الاحتجاجات، والتي تمحورت حول دعم لوجستي وعسكري من جانب الجماعات الكردية في كردستان العراق لنظرائهم في إيران وللاحتجاجات بوجه عام العام الماضي في إيران.
وهنا، لم يكن من قبيل الصدفة أن تشن إيران هجمات موسعة ضد مراكز للأكراد في شمال العراق في أوج جريان التظاهرات في نوفمبر الماضي. بل إن تقارير قد تحدثت آنذاك عن اتخاذ إجراءات أمنية موسعة في المناطق الكردية الحدودية في إيران في الوقت نفسه، خاصة في مدينة “مهاباد” بمحافظة أذربيجان الغربية شمال إيران على الحدود مع العراق وتركيا.
وعلى أي حال، أرادت طهران من وراء الاتفاق مع بغداد وأربيل استباق الأمور واحتواء ومنع أي دعم كردي محتمل للأكراد في إيران “إذا ما اندلعت المظاهرات مرة أخرى في إيران” خلال شهر سبتمبر الجاري أو حتى ما بعده، في ظل اعتقاد الكثيرين في الحكومة الإيرانية أن الأكراد كانوا محركًا أساسيًا لاستمرارية المظاهرات في إيران والتي جرت من سبتمبر 2022 وحتى الأشهر الأولى للعام الحالي.
وإذا كان تحييد أي دعم كردي لمظاهرات محتملة في إيران أحد أهداف الاتفاقية، إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران ترى في حضور جماعات كردية مسلحة على الحدود “عامل تهديد” مستمر لها على المستوى طويل المدى، من نواحٍ عدة سياسية وعسكرية وأمنية وقومية أيضًا بالنظر إلى القومية الكردية الكبيرة في إيران ونظيرتها في العراق.
فرص نجاح الاتفاق الأمني بين إيران والعراق
في اليوم نفسه الذي أُعلن فيه عن التوصل للاتفاق الأمني بين إيران والعراق، صرّح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، في مؤتمر صحفي بطهران قائلًا إن “مهلة تنفيذ هذا الاتفاق هي يوم 19 سبتمبر 2023، ولن يتم تمديد هذه المحلة تحت أي ظرف”. وأضاف كنعاني أن “الجمهورية الإسلامية تتوقع من الحكومة العراقية أن تنفّذ وتطبق هذه الاتفاقية بشكل كامل”. وحسبما نقلت وكالة أنباء “تسنيم” التابعة للحرس الثوري الإيراني، فقد أضاف كنعاني أن “ملف الأمن بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية حيوي للغاية، ونحن لن نتهاون في هذا الشأن، وإذا لم يجرِ تنفيذ هذا الاتفاق في نهاية المهلة المحددة، فإننا سنعمل طبقًا لما تمليه علينا مسؤوليتنا فيما يخص ضمان أمن الدولة”.
حزم “وتهديد” إيراني واضح: تكشف هذه التصريحات عن حزم إيراني واضح فيما يخص مسألة تنفيذ الاتفاق ونزع سلاح الجماعات الكردية المسلحة المناوئة لإيران في إقليم كردستان بشمال العراق، وأن الرد الإيراني سيكون عسكريًا إذا لم يتم اتخاذ خطوات في هذا الصدد. وهنا، نجد أن إيران وعبر اتفاقها مع بغداد وأربيل قد استخدمت سلاحي التهديد والتفاوض الودي لنزع أسلحة الجماعات المسلحة الحدودية. ولم تبد بغداد أو أربيل اعتراضات جدية حول هذا الأمر، وهو مؤشر على قبولهما تنفيذ الاتفاقية. ولعل تنفيذ الاتفاقية قد بدأ على الفور، حيث أشارت مصادر عدة من داخل العراق إلى أن الأخير قد بدأ في نقل الجماعات المسلحة الكردية وأسرهم من شمال شرقي العراق إلى غربه.
استعداد وقبول بغداد وأربيل تجنبًا لعواقب “حرب مفتوحة”: وعلى سبيل المثال، نقل الموقع الإخباري الألماني “دويتشه فيله” في نسخته الفارسية عن مسؤول حكومي عراقي، لم يذكر اسمه، قوله إن “الحكومة المركزية العراقية تقوم بمساعيها الآن لنقل هذه الجماعات في أسرع وقت، وهو أمر يجب أن يحظى بموافقة المسؤولين في حكومة إقليم كردستان في أربيل والسليمانية”. وعلى الرغم من أن هذا المصدر العراقي لم يحدد الوجهة التي سينقل إليها المسلحون الأكراد وأسرهم، إلا أنه أكد أن المكان سيكون أيضًا شمال العراق ولكن في غربه وليس شرقه. وأوضح هذا المصدر أن هذه الجماعات الكردية سوف “تعيش في معسكر وبدون أسلحة”.
ويبدو أن الحكومة المركزية في بغداد قد توصلت إلى اتفاق مع إقليم كردستان على عملية النقل هذه، وهو ما أكده هذا المسؤول العراق الذي أشار أيضًا إلى أن بغداد تحاول الانتهاء من هذه العملية قبل يوم 19 سبتمبر الجاري. وقد ذهبت إلى الأمر ذاته وكالة أنباء “فارس” الإيرانية التابعة للحرس الثوري في تقرير لها حمل عنوان “أنباء عن نزع سلاح الجماعات الانفصالية الكردية ونقلهم إلى غرب العراق” يوم 27 أغسطس 2023، حيث قالت إن مصادر سياسية ودبلوماسية عراقية قد أكدت أن الجماعات الكردية سوف “تنتقل خلال الأيام المقبلة إلى مناطق غرب العراق”.
وقالت الوكالة إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحكومة العراقية، والمسؤولين في إقليم كردستان قد توافقوا على هذا الأمر، وعليه، فإن جميع الأسلحة والعتاد العسكري الذي كان في يد المجموعات الكردية سوف تؤخَذ منهم، وسوف ينتقلون هم برفقة أسرهم إلى مناطق غرب العراق”.
ولعل قبول هذه الجماعات الكردية الانتقال إلى مناطق شمال غرب العراق ونزع أسلحتهم سيكون أمرًا منطقيًا؛ وذلك بسبب تبعات عدم تنفيذ هذه الاتفاقية والتي يُرجح أن تشمل تصعيدًا عسكريًا إيرانيًا في إقليم كردستان العراق سوف يكثف ويعزز من ضرباته على مواقع هذه المجموعات.
وهو سيناريو لا تريده الحكومة المركزية في بغداد ولا حكومة إقليم كردستان العراق أو حتى هذه الجماعات الكردية نفسها؛ ذلك لأن هذا السيناريو يعني حربًا مفتوحة في الإقليم الواقع شمال العراق، وسوف تؤثر حتمًا على المواطنين العاديين في الإقليم والحياة العامة هناك، ما سيضر بأي تأييد لهذه الجماعات في الداخل الكردي. بجانب أن نتائج مثل هذه الحرب المفتوحة لن ترضى عنها حكومة إقليم كردستان ما يدفعها دفعًا إلى الحوار مع هذه الجماعات والضغط بقوة عليها لمنع حدوث هذا السيناريو. ختامًا، يُعتقد أن بعض الأحزاب والجماعات الكردية قد لا ترضى عن هذا الاتفاق، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بنزع سلاحها بشكل كامل ونقلها إلى معسكر غربي العراق. وهو سيناريو شبيه بما حدث لجماعة “مجاهدي خلق” خلال الفترة التي أعقبت 2003 في العراق؛ فحينما لم تستطع هذه الجماعة ممارسة أنشطتها داخل العراق في إطار الأوضاع والنظام الجديد هناك انتقلت إلى الخارج في ألبانيا من أجل ممارسة أنشطتها. وقد اتهمتها الحكومة الإيرانية مرات عدة بالقيام بأعمال عنف وتفجير في الداخل الإيراني. ولهذا، قد يكون أمامنا احتمال أن تسلك بعض الجماعات الكردية نفس مسار جماعة “مجاهدي خلق” وأن تبحث لنفسها في المستقبل عن مكان آخر تستطيع من خلاله ممارسة أنشطتها التي كانت تقوم بها خلال السنوات الماضية.