تركياروسيا

ملفات متشابكة… ماذا حمل لقاء “أردوغان” و”بوتين” في سوتشي؟

أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة إلى مدينة سوتشي الروسية في 4 سبتمبر 2023، يرافقه وفد كبير ضم وزراء: الدفاع، والخارجية، والطاقة، والمالية. عقد خلالها لقاءً كان مرتقبًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو اللقاء الذي يعد الأول لهما خلال عام 2023؛ إذ كانت آخر لقاءاتهما في أكتوبر من العام الماضي. ويوصف سياق هذا اللقاء بجو عام من توتر متزايد بسبب تعارض مصالحهما بخصوص بعض الملفات المُلحة، وتتصدر هذه الملفات صفقة الحبوب -التي أوقفت روسيا تمديدها في يوليو الماضي- والتي تعمل تركيا على إحيائها مرة أخرى؛ ثم ملف العلاقات السورية التركية الذي كانت روسيا تلعب فيه دور وساطة رئيس ولكنه لم يسفر عن نتائج مثمرة لتعنت الطرفين، وأخيرًا الموقف التركي من الحرب الأوكرانية خاصة وأنها تسعى إلى العودة إلى ساحة الوساطة في الحرب.

وفي مواجهة هذه التصدعات بين البلدين والتي تتالت على مدى الأشهر القليلة الماضية، سعى الرئيس التركي إلى تحسين علاقته مع نظيره الروسي ليُظهر للغرب تركيا كحليف لا غنى عنه بالنسبة لهم في وساطته مع موسكو. ومن ناحية أخرى، يهتم الرئيس الروسي بعدم خسارة تركيا كشريك لمصالح مهمة في وقت حرب حرج، ولتأكيد أهمية روسيا في هذه الأجواء المحتدمة كطرف مهم في استقرار النظام العالمي. إذ يبحث الرئيسان “أردوغان” و”بوتين” عن وسائل ضغط لتحقيق أكبر قدر من المكاسب. 

لقاء في سوتشي بدلًا من أنقرة: انعكاس لتوتر العلاقات

جاء اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسي والتركي ليثير عددًا من التساؤلات بشأن توقيت ومكان انعقاده؛ إذ كان من المقرر أن يُعقد في تركيا خلال أغسطس الماضي وفقًا لما أعلنه الرئيس التركي إبان لقائه مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 7 يوليو الماضي؛ لمناقشة عدة موضوعات في مقدمتها اتفاقية الحبوب. لكن لم تتم الزيارة حتى عُقِدَ هذا اللقاء في مدينة سوتشي الروسية تلبية لدعوة الرئيس الروسي، الأمر الذي يمكن تفسيره على النحو التالي:

● تزامُن الموعد السابق المقرر للاجتماع في أغسطس الماضي مع تطورات التمرد الفاشل لزعيم مجموعة فاجنر السابق يفجيني بريجوزين في 24 يونيو، ما حدا ببوتين إلى عدم مغادرة روسيا خلال هذا التوقيت.

● اهتزاز ثقة موسكو بأنقرة التي تعود للعديد من الأسباب: أولها، اللامبالاة التي تعامل بها “أردوغان” في ملف علاقته بالأسد رغم جهود الوساطة الروسية، وشعور موسكو بأن أنقرة تسعى إلى تغيير توجهات سياستها الخارجية عقب الانتخابات الأخيرة. وثانيها، إعلان الرئيس التركي استعداده لدعم عضوية أوكرانيا في الناتو  والموافقة على انضمام السويد. وثالثها، انتهاك التفاهمات التركية الروسية وبالأخص اتفاقية “تبادل الأسرى” -المبرمة بين كل من روسيا وأوكرانيا وتركيا في سبتمبر 2022- حيث سمح أردوغان بعودة خمسة من قادة كتيبة “آزوف” الأوكرانية والمصنفة كمنظمة إرهابية لدى روسيا.

● لذلك، يمكن القول إن تغير وجهة الزيارة وتلبية الرئيس التركي للدعوة في سوتشي كان انعكاسًا لتفاقم غضب روسيا من ناحية، ومن ناحية أخرى انعكاس لزيادة عدم ثقة “بوتين” في “أردوغان”. لكن انعقادها يدلل على مصالح الدولتين؛ فالرئيس الروسي يسعى إلى إظهار نفسه في وضع المسيطر على الأحداث وأن روسيا حاضرة بنشاط على الساحة السياسية، فيما يسعى الرئيس التركي إلى تحقيق قصة نجاح دولية من خلال استعادة اتفاقية تصدير الحبوب مع روسيا، التي مكنت أوكرانيا من شحن حبوبها إلى الأسواق العالمية عبر البحر الأسود؛ نظرًا إلى ميله إلى التعامل مع أهم القوى السياسية وممارسة الضغط للحصول على مكسب بشكل أو بآخر.

صفقة الحبوب : عائدة أم راكدة؟

تبلور استياء روسيا الفترة الماضية في انسحابها من صفقة الحبوب، وعدم الاستجابة لدعوة “أردوغان” فيما يتعلق بالاجتماع وجهًا لوجه، ومداهمتها لسفينة شحن تركية متجهة إلى أوكرانيا في أغسطس الماضي؛ فجاء استياؤها أيضًا عاكسًا لتغير توجه “أردوغان” مع إعادة تواصله مع الغرب مرة أخرى على مستويات متعددة بعد إعادة انتخابه رئيسًا في نهاية مايو الماضي، ومحاولًا إثبات مكانة تركيا بين القوى الغربية.

وعلى إثر ذلك، كان أهم ملف على جدول أعمال لقاء “بوتين” و”أردوغان” في سوتشي هو ملف صفقة الحبوب التي يسعى الرئيس التركي من خلال استعادتها إلى تحقيق قصة نجاح دولية ستجعله محط انتباه عندما يحضر الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت لاحق من الشهر الجاري. ويُستدل على اهتمامه بهذا الملف بشكل خاص من خلال ملاحظة سفر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى موسكو هذا الأسبوع؛ لإجراء محادثات مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، لوضع تفاصيل هذه الزيارة واستكشاف صفقة الحبوب الجديدة. ويضاف إلى ذلك، أمل أنقرة في أن يسهم إحياء الاتفاق في انطلاق لمفاوضات سلام أوسع بين كييف وموسكو قائمةً بدور الوساطة الذي تطمح في الاستمرار فيه.

وكنتيجة لهذه الزيارة، جاء الرئيس التركي مصرحًا بإمكانية عودة الصفقة من جديد، قائلًا بعد اجتماعه مع نظيره الروسي، أنه “يعتقد إمكانية الوصول خلال فترة قصيرة إلى حل يلبي التطلعات بشأن اتفاقية الحبوب، وأنهم أعدوا حزمة مقترحات جديدة من شأنها إحراز تقدم كبير.” وعلى الصعيد الآخر، جاءت تصريحات نظيره الروسي موضحًا “استعداده لإحياء اتفاقية الحبوب شرط تلبية مطالبه ومنها ألا تُستخدم لأغراض عسكرية، وتشديده على هذه الشروط عاكسًا ما اعتبره في تصريحات سابقة “أنه لم يتم الالتزام ببنود الاتفاقية لناحية السماح لروسيا بتصدير الأسمدة والمنتجات الزراعية، معتبرًا أن دول الغرب التي تفرض عقوبات على روسيا منذ بدء الحرب، سعت إلى استغلال الاتفاقية لأغراض “الابتزاز السياسي””.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في اجتماعه مع نظيره التركي في وقت سابق من الأسبوع مؤكدة رغبة روسيا في وضع شروطها وتلبية طلباتها، قائلًا إن بلاده لن تكتفي بـ “وعود” بالنسبة إلى صادراتها الزراعية، بل تريد “ضمانات مع نتيجة ملموسة” تدخل حيز التنفيذ سريعًا. وأنه في حال كهذه، سيستأنف تنفيذ الاتفاق برمته اعتبارًا من الغد”. وصرّح كذلك بشكل جلي على انعدام  ثقة روسيا بالغرب والتي تتساوي إلى حد ما الآن في ظل التوترات مع اهتزاز ثقتها بأنقرة، فأتى لافروف “متهما الغرب بـ “التدخل” في موضوع صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والأسمدة، علمًا أنها منتج عالمي رئيس مثل أوكرانيا.” في نفس أسبوع الزيارة، اقترحت روسيا صفقة بديلة “ترسل بموجبها مليون طن من الحبوب إلى تركيا بسعر مخفض، بدعم مالي من قطر، لتتم معالجتها في تركيا وإرسالها إلى البلدان الأكثر احتياجًا.” 

إذا ما أخذنا في الحسبان كل التصريحات السابقة والصفقة البديلة على الطاولة، فإن أفق التحليل قد تتجه إلى أنه بالرغم من عدم استعداد “بوتين” في ظل سياق الحرب بتقويض العلاقات مع تركيا والتخلي عنها تمامًا، فإنه من المتوقع  أن تواجه تركيا مشقة في محاولة اقناع أوكرانيا وداعميها من الغرب بقبول هذه الصفقة والتي تنطوي في مضمونها بالنسبة للغرب إرسال الحبوب المسروقة من الأراضي الأوكرانية المُحتلة من قِبل روسيا.

تعزيز الشراكة الاقتصادية

حظي ملف الاقتصاد خلال الزيارة باهتمام خاص من كلا الطرفين؛ نظرًا لتمتع أنقرة وموسكو بعلاقات اقتصادية تقدر قيمتها بمليارات الدولارات. وخلال العام الماضي، ارتفع معدل التبادل التجاري  بين البلدين  بنسبة 86% على أساس سنوي. وتشترك الدولتان في هدف مواجهة الهيمنة الدولارية على الاقتصاد العالمي؛ إذ تراجعت حصة الدولار واليورو في التبادل التجاري بينهما مع وجود توجه باستخدام العملات الوطنية.  

وقد حفزت الحرب الأوكرانية وما تلاها من عقوبات متصاعدة على الاقتصاد الروسي المستثمرين الروس لضخ المزيد من الاستثمارات في تركيا. وفي عام 2022 وحده، أسس الروس أكثر من 1300 شركة في تركيا بنسبة زيادة تبلغ 670% على أساس سنوي. وإلى جانب ذلك، زار تركيا أكثر من 5 ملايين سائح روسي خلال العام الماضي.

ويشكل ملف الطاقة موضوعًا مهمًا في العلاقات التركية الروسية؛ إذ تمثل تركيا حاليًا المنفذ الرئيس لصادرات الغاز الروسية للالتفاف على العقوبات الغربية، وعلى إثره تسعى أنقرة إلى أن تصبح مركزًا لتداول الطاقة الروسية إلى أوروبا، فيناقش البلدان إنشاء مركز لتجارة الغاز الطبيعي. وقد صرح بوتين خلال لقائه بنظيره التركي بأنه “يأمل إكمال المفاوضات في المستقبل القريب جدًا حيث سيجعل مركز الغاز في تركيا وضع الطاقة في المنطقة أكثر استقرارًا وتوازنًا”. وعلاوة على ذلك، يُمثل قطاع الطاقة النووية مجالًا آخر للتعاون؛ إذ نوقشت مسألة  بناء محطة نووية ثانية في مدينة “سينوب” التركية، حيث شهد شهر أبريل الماضي تحميل الوقود النووي في محطة “أكويو” أول محطة نووية في تركيا والمقرر أن تنطلق في 2024، وتوفر 1800 ميجاوات، ويعمل بها 25 ألف موظف وعامل.

ختامًا، رغم أن لقاء “بوتين” و”أردوغان” كان مرتقبًا منذ فترة طويلة، فإنه قد أخذ الطابع الدبلوماسي التقليدي الهادف إلى تحريك الملفات المشتركة ومناقشتها، ولم يُسفر عن اتخاذ إجراءات تنفيذية إزاءها. سواء فيما يتعلق بصفقة الحبوب أو على صعيد الأزمتين السورية والأوكرانية التي اقتصر الحديث بشأنهما على التصريحات الدبلوماسية المتكررة الساعية إلى كسر الجمود الراهن. ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة بحث تلك الملفات على المستويات الدبلوماسية الأقل للوصول إلى تفاهمات تفصيلية بشأنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى