
تسريع الانسحاب… ما هي مظاهر احتدام الأزمة بين فرنسا والنيجر؟
يبدو أن هناك توافقًا داخل النيجر للتخلص من كافة أشكال الوجود الفرنسي في البلاد، وهو ما اتضح جليًا في الآونة الأخير في ضوء تفاقم أزمة السفير الفرنسي في النيجر “سيلفان إيتي” الذي تم تجريده من الحصانات الدبلوماسية ومطالبته بمغادرة البلاد من جانب المجلس الوطني لحماية الوطن في النيجر (المجلس الانتقالي)، بالإضافة إلى خروج مظاهرات مناهضة للوجود الفرنسي، وقد تصاعد الموقف إلى محاولة اقتحام القاعدة العسكرية الفرنسية في النيجر.
ومن هذا المنطلق، تحاول هذه الورقة البحثية الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بمظاهر التصعيد بين النيجر وفرنسا، ومحاولة تفسير تنامى مشاعر الغضب حيال الحضور الفرنسي في النيجر، وتناول التداعيات المحتملة بشأن تصاعد التوتر بين البلدين.
مظاهر التصعيد
على الرغم من نيل النيجر استقلالها عن فرنسا عام 1960، لكن فرنسا حرصت على عدم قطع صلتها بالبلدان التي استعمرتها، وعملت على تطوير أشكال للتبعية، بما يضمن استمرار سيطرتها على المشهد. ونجد أن هذه الفكرة قد تحدث عنها الزعيم المناهض للاستعمار والرئيس الأول لغانا “كوامي نكروما”، عندما صاغ مصطلح “الاستعمار الجديد”، وذلك إبان فترة إنهاء الاستعمار، فهو يقول: “جوهر الاستعمار الجديد هو أن الدولة الخاضعة له من الناحية النظرية مستقلة وتتمتع بالسيادة، ولكن من الناحية الواقعية نجد أن نظامها الاقتصادي وبالتالي سياساتها تصاغ من الخارج”.
وعندما صاغ “نكروما” هذا المصطلح، فقد ركز بشكل حاسم على الجانب السياسي للاستعمار الجديد، واعتقد أنه أصبح آلية لسيطرة السياسة الغربية على الدول الأفريقية. وسط الضوء كذلك على التأثير الاقتصادي للقوى الخارجية من أجل السيطرة السياسية، وكيف أدى هذا بدوره إلى تقليص الحريات السياسية للدول الأفريقية.
نجد أن التطبيق الفعلي لما تحدث عنه “نكروما” موجودًا اليوم في النيجر التي شهدت واقعًا جديدًا في ضوء تولى النخبة العسكرية مقاليد السلطة في 26 يوليو 2023، بعدما أطاحت بالرئيس “محمد بازوم”.
بالطبع هذه المعطيات الجديدة لا تتماشى مع توجه فرنسا (المستعمر القديم للنيجر) التي رفضت الاعتراف بالمجلس الانتقالي، وطالبت بالإفراج عن “بازوم “وإعادته للسلطة، وأعلنت فرنسا دعمها للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في حال استخدام الخيار العسكري ضد النيجر في سبيل استعادة النظام الدستوري والسلطة المدنية. ولا شك أن التصرفات الفرنسية العدائية هي ما دفع المجلس العسكري في النيجر إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التي تفضي إلى إنهاء كافة سبل التعاون بين البلدين، ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي:
الصعيد الدبلوماسي: نجد أن وزارة الخارجية النيجرية قد أعلنت أن السفير الفرنسي “سيلفان إيتي” لم يعد يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، وأن بطاقته الدبلوماسية والتأشيرات الممنوحة له ولأفراد أسرته قد ألغيت، وصدرت تعليمات للشرطة في 31 أغسطس 2023 بترحيل السفير الفرنسي وعائلته من البلاد. إلا أن رد الفعل الفرنسي حيال هذا التصعيد قد اتسم بالتشدد وعدم تنفيذ رغبة المجلس العسكري في ترحيل السفير، وهو ما يمكن قراءاته من خلال تصريح الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذي وصف المجلس العسكري في النيجر “بالانقلابيين الذين لم يُنتخبوا ديمقراطيًا، وبالتالي لا يملكون الشرعية لطلب مغادرة السفير الفرنسي في النيجر لأن الرئيس محمد بازوم هو من تسلم أوراق اعتماده في البلاد”.
الصعيد العسكري: أعلن المجلس الانتقالي في النيجر في 3 أغسطس 2023 إلغاء الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع فرنسا، والمتعلقة بتمركز كتيبة فرنسية في إطار المعركة ضد الإرهاب. ويبلغ عدد هذه الكتيبة نحو 1500 جندي عملوا في مواجهة التنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيمي داعش والقاعدة.
الصعيد الاقتصادي: نجد أن المجلس العسكري قد أصدر قرارًا بوقف صادرات الذهب واليورانيوم إلى فرنسا التي تعتمد على مادة اليورانيوم التي تستوردها من النيجر على شكلها الخام لتشغيل 56 مفاعلا نوويًا تعد أهم مصدر الكهرباء في البلاد، وهي المادة التي تسهم فرنسا في استخراجها في النيجر عبر شركة “أورانو”.
والجدير بالذكر أن الإجراءات التصعيدية التي يتخذها المجلس العسكري في النيجر حيال فرنسا تلقى دعمًا من الشارع النيجري الذي يشهد حالة من السخط والاحتقان المتزايد حيال الحضور الفرنسي في البلاد، وهو ما يمكن قراءاته من خلال المظاهرات التي تطالب برحيل القوات الفرنسية والاحتشاد أمام القاعدة الفرنسية في ضواحي العاصمة نيامي.
خريطة تحالفات جديدة
يسهم تراجع النفوذ الفرنسي في النيجر على النحو المبين مسبقًا في تشكيل خارطة تحالفات دولية وإقليمية جديدة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
إنهاء الوجود الفرنسي: أعلن رئيس وزراء النيجر الذي عيّنه النظام العسكري في الرابع من سبتمبر الجاري عن أن هناك “محادثات جارية” من أجل انسحاب “سريع” للقوات الفرنسية المتمركزة في البلاد، وهو ما يعنى خسارة فرنسا للنيجر التي تمثل آخر معاقلها في غرب أفريقيا، ومن ثم فإن خسارتها تعد تهديدًا مباشرًا للمصالح الفرنسية.
ويدرك المجلس العسكري الحاكم في النيجر أن فرنسا غير قادرة على حشد الدعم الإقليمي والدولي لاستخدام الخيار العسكري ضد النيجر لاستعادة نظام “محمد بازوم”، ولذلك هناك ضغط رسمي وشعبي في النيجر لإخراج السفير الفرنسي، وإجبار فرنسا على سحب قواتها العسكرية الموجودة في البلاد. علاوة على ذلك، نجد أن الحجة التي تبرر بها فرنسا وجودها العسكري في النيجر وهي التعاون مع المؤسسات الأمنية الوطنية للقضاء على التهديدات الأمنية ووقف الهجمات الإرهابية لم تعد قابلة للتصديق في النيجر؛ في ضوء استمرار نشاط التنظيمات الإرهابية، وهو ما يعنى أن التعاون مع فرنسا في المجال الأمني لم يؤت ثماره.
تحول التحالفات نحو روسيا: في ضوء ما سبق ذكره، نجد أن إخفاق فرنسا في محاربة الإرهاب يمكن أن تستغله روسيا؛ لتعزيز علاقاتها مع النخبة العسكرية في النيجر. ونجد أن هناك ترحيبًا شعبيًا بالتعاون مع روسيا، لاسيما وأنها لم يكن لها تاريخ استعماري للدول الأفريقية مثل فرنسا. ولذلك نجد أنه من المرجح أن نجد عقد اتفاقيات ثنائية بين النيجر وروسيا لتعزيز التعاون العسكري والمساعدة في محاربة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وكذلك عقد شراكات لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين في قطاعي الزراعة والطاقة.
التعاون مع الأنظمة العسكرية المجاورة: وذلك نظرًا إلى تشابه الأنظمة الحاكمة في كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر من حيث صعود النخبة العسكرية والإمساك بزمام الأمور، وهو ما يفسر إعلان المجلس العسكري في النيجر السماح لجيشي بوركينا فاسو ومالي بالتدخل في النيجر في حال تعرضت لتدخل عسكري من جانب المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). ولذلك نجد أن مجلس وزراء بوركينافاسو وافق على مشروع قانون لإرسال قوات إلى النيجر، على اعتبار أن أمن النيجر يؤثر إلى حد كبير على أمن بوركينا فاسو.
وفى الختام، يمكن القول إن المجلس العسكري في النيجر قد نجح في توحيد الجبهة الداخلية من خلال توظيف الضغوط والتهديدات الخارجية وتحويلها إلى فرص تعزز من سلطته وترسخ أقدامه في الحكم، في المقابل نجد أن هناك اهتزازًا كبيرًا لمكانة فرنسا في القارة الأفريقية، وتراجعًا لتأثيرها في الدول التي كانت مستعمرة من جانبها؛ لعدم تمتع حضورها الدبلوماسي والعسكري بالقبول الرسمي والشعبي.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية