أبعاد متشابكة: ماذا حدث في كركوك بشمال العراق؟
قامت مجموعة تابعة للحشد الشعبي بغلق الطريق السريع الواصل بين أربيل- كركوك منذ 28 أغسطس الماضي، بما شكل عقبات في حركة مرور وسائل النقل والأفراد نتيجة نصبهم خيام على الطريق؛ اعتراضًا على قرار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بإخلاء مقر قيادة العمليات المشتركة وتسليمه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني. وهدف الحشد إلى منع عودة الحزب إلى مقره، وأسهمت العراقيل التي وضعتها قوات الحشد في عرقلة ممارسه شؤون المواطنين اليومية، وعليه نظم محتجون من العرب والتركمان اعتصامًا قرب مقر قيادة العمليات في 2 سبتمبر؛ للمطالبة بفتح طريق أربيل- كركوك، إذ تجمع مناصرو الحزب الديمقراطي الكردستاني في حي “رحيماوه” ذات الغالبية الكردية في كركوك، وأشعلوا إطارات سيارات تعبيرًا عن رفضهم لغلق الطريق، وطالبوا بإعادة فتحه.
سياق مضطرب
نتيجة للاشتباكات والتوترات في هذه المنطقة، تدخلت قوات الأمن بعد قرار رئيس الوزراء بتوجه القطاعات وبسط سيطرتها الأمنية في كركوك تجاه مثيري الشغب، وعدم السماح بحمل السلاح باستثناء أفراد الأمن. وقد تمخض عن الاضطرابات نحو4 قتلى و14 جريحًا، وفقًا لمدير صحة كركوك “زياد خلف” والمتحدث باسم شرطة كركوك “عامر شواني”. وعلى إثر هذه الأحداث، قامت القوات العراقية بتعزيز الأمن في المنطقة، بعد اقتراب المتظاهرين من موقع مبني قيادة العمليات المشتركة، وفرض حظر التجوال من قبل قيادة شرطة محافظة كركوك في 2 سبتمبر الجاري، وأجريت عمليات أمنية بهدف تفتيش المنطقة بشكل دقيق.
وفى ذات السياق، فُرض حظر التجوال في المحافظة مع فتح الطريق المغلق، ونتيجة لذلك قام المحتجون بإزالة خيامهم وفتح الطريق المغلق كركوك- أربيل، وتوالت البيانات الرسمية التي أكدت ضرورة الحفاظ على الاستقرار والسلم في المحافظة. وخرجت قوى الإطار التنسيقي التي تضم كلًا من (تحالف قوى الدولة الوطنية، وائتلاف دولة القانون، وائتلاف الفتح، وحزب الفضيلة الإسلامي، وحركة حقوق، وحركة عطاء) ببيان تساند فيه موقف الحكومة العراقية لضبط الأوضاع الأمنية، مع التوصية بضرورة ابتعاد القوى السياسية عن الخطاب المتشنج، وتهدئة التوترات، ودعم الأجهزة الأمنية في دورها للحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة.
كذلك جرى تواصل بين رئاسة الوزراء العراقية برئاسة “السوداني” ورئيس إقليم كردستان العراق “نيجيرفان بارزاني” ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني “مسعود بارزاني” وكذلك رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني “بافل طالباني” ورئيس مجلس النواب “محمد الحلبوسي”؛ بهدف عدم إتاحة المجال لعناصر غير مسؤولة تستهدف النسيج الاجتماعي المتجانس والمتآخي لكركوك، فضلًا عن تأكيد رئيس الجمهورية “عبد اللطيف رشيد” على عدم منح الفرصة لعصابات الإرهاب الرامية إلى خلط الأوراق، وزعزعة الاستقرار واستباحة الدم العراقي.
ووجه “السوداني” بتشكيل لجنة تحقيقية لمعرفة ملابسات وفاة أحد المواطنين وسقوط عدد من الجرحى على خلفية الأحداث، ومحاسبة المقصرين الذين تثبت إدانتهم في الأحداث. من ناحية أخرى، عُقد اجتماع مساء الثالث من سبتمبر بين رئيس الوزراء وعدد من النواب منهم النائب الثاني لرئيس مجلس النواب” شاخوان عبد الله” لبحث الاستقرار في المحافظة.
وعُقد اجتماع أمنى في 3 سبتمبر الجارى برئاسة رئيس أركان الجيش الفريق أول ركن “عبد الأمير رشيد يار الله” في محافظة كركوك بمقر قيادة العمليات، مع محافظ كركوك “راكان سعد الجبوري” رئيس اللجنة الأمنية العليا، ومساعد وكيل وزير الداخلية للاستخبارات، وقائد القوات البرية وعددا من القيادات العسكرية، وقائد العمليات، وقادة الفرق في كركوك، وقائد الشرطة، ومديري الأجهزة الامنية الاستخبارية في كركوك. ولدرء تفاقم التوترات؛ كان قرار المحكمة الاتحادية بإيقاف تنفيذ قرار رئيس الوزراء العراقي بإخلاء مقر العمليات المشتركة في كركوك في 3 سبتمبر، واستمرار هذا التجميد لحين حسم الدعوى رقم (213/اتحادية/2023) وعقب هذه التطورات تم رفع حظر التجوال وهدأت الأوضاع في كركوك.
أبعاد متشابكة
تعود التوترات حول كركوك إلى تاريخ سيطرة القوات العراقية عليها في عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق “حيدر العبادي” في عام 2017؛ إذ سيطر الجيش العراقي على مبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني وحوّله إلى مقر قيادة عمليات كركوك، وكانت قوات البشمركة تسيطر على الوضع الأمني خلال فترة مواجهة داعش من 2014-2017، وتولت سلطة الأمن في المحافظة لنحو ثلاث سنوات، لكن عقب خطوة الاستفتاء الذى أجرى في 25 سبتمبر 2017 بقيادة رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني “مسعود بارزاني” لضم كركوك إلى الإقليم، دخلت القوات الأمنية العراقية كركوك في 16 أكتوبر 2017 وأخلي الجيش العراقي مبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني وحوله إلى مقر عمليات كركوك.
ضمن هذا السياق؛ يمكن قراءة التوترات الحالية في ضوء عدة اعتبارات نذكرها على النحو الآتي؛
• أهداف الحشد الشعبي: يعمل الحشد الشعبي على تأجيج الشارع في كركوك؛ بهدف منع عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى المحافظة، إذ يهدف الحزب إلى ممارسة مهامه في مقراته بكركوك قبل انتخابات مجالس المحافظات المقرر عقدها في 18 ديسمبر 2023،ويملك الحزب حوالي ثلاثة وثلاثين مقرًا في كركوك قام بإخلاء بعضها قبل سبع سنوات أثناء رحيله منها نتيجة الاستفتاء، الأمر الذى يعنى أن عودة النفوذ الكردي في المحافظة يهدد نفوذ القوى الموالية لإيران التي لا ترغب في ضمها إلى إقليم كردستان، وتعد محافظة كركوك الغنية بالنفط الواقعة في شمال العراق من أبرز المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، والتي تقطنها مكونات من العرب والأكراد والتركمان والكلدان الآشوريين.
• تطلعات الحزب الديمقراطي الكردستاني: تثير الاحتجاجات الحالية مخاوف الحزب الديمقراطى الكردستاني من التأثير على نفوذه في الانتخابات المحلية القادمة، من حيث السيطرة على مجلسها المحلى، ومن ثم التدخل في عملية اختيار حكومتها المحلية؛ إذ لأول مرة منذ عام 2005 تشارك كركوك في انتخابات مجالس المحافظات التي عقدت في السابق في أعوام (2005، 2009، 2013) واختار الأكراد منصب المحافظ، والتركمان رئيس المجلس، والعرب نائب المحافظ في انتخابات مجالس المحافظات في عام 2009، ومن ثم يرغب الحزب في العودة إلى السيطرة على منصب المحافظ، وكسب الأصوات قبيل انتخابات مجالس المحافظات.
• انتخابات مجالس المحافظات: تعقد الانتخابات في 18 ديسمبر القادم، ويهدف الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى العودة إلى كركوك بهدف التعبئة الجماهرية وكسب أصواتهم في الانتخابات، خاصة أن هناك عدم توافق بين الأحزاب الكردية على المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات القادمة؛ إذ تشكل تحالف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الإسلامية الكردستانية وعدد من الأحزاب التركمانية الصغيرة، فيما يشارك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بمفرده، وقررت حركة التغيير الكردية عدم المشاركة بسبب غياب الاتفاق على قائمة واحدة.
ويتنافس أكثر من ثمانية أحزاب كردية موزعة على قوائم متفرقة في مواجهة أكثر من 10 أحزاب وتحالفات تركمانية وعربية على 16 مقعدًا منها مقعد مخصص للمسيحيين، وعليه فإنه في حال عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقراته سوف يعزز ذلك من نفوذه في الانتخابات القادمة من خلال العمل على التعبئة الجماهرية وكسب مزيد من الأصوات، لكن يظل ذلك مرهونًا بتفاعلات الأطراف الإقليمية والدولية وبمن يسانده.
• خلافات الأحزاب الكردية: عزز من التوتر الحالي الخلاف بين بين الأكراد حول دور قوات الأمن الداخلي الكردية (أسايش)؛ إذ يرى الأكراد أن عودة البشمركة تعنى عودة الأسايش، لكن العرب والتركمان يرفضون هذا السيناريو، ويحتفظ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فعليًا بمكاتب الأسايش في كركوك، لكن بغداد في حاجه إلى القوات الكردية من أجل توفير الأمن والاستقرار في مثلث (كركوك وتكريت وديالى)، بينما يعارض الحشد الشعبي عودة القوات الكردية إلى كركوك ومنع سيطرتهم.
من ناحية أخرى؛ كان الحزب الديمقراطي يسيطر على بئري “افانا، وباي حسن” النفطيتين في كركوك، بعد ظهور داعش، وقام خلال هذه الفترة بتصدير 260 ألف برميل من النفط يوميًا عبر أنبوب ممتد إلى ميناء جيهان التركي، وكانت تركيا تساند حكومة الإقليم في محاولة لإدارة قضاياها الكردية الداخلية واحتواء حزب العمال الكردستاني. وهدفت تركيا إلى موازنة النفوذ الإيراني في العراق، وارتبط الدعم التركي للعراق بحزب العمال الكردستاني وتصاعد نفوذه في جبال قنديل وسنجار، خاصة أن الأكراد محدد أساسي في رسم سياساتها، وتعمل على وأد الطموحات الكردية في العراق حتى لا يتحقق حلم الانفصال في أنقرة والهدف ذاته بالنسبة لطهران.
وسمحت المنافسات بين الأحزاب الكردية (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطى الكردستاني) والتي أضعفتها الأزمة الاقتصادية والفساد، مع تراجع قوات البشمركة؛ إلى تفاقم الخلافات بين الأحزاب الكردية واستقطابهم من قبل القوى الإقليمية، واتجه الاتحاد الوطني الكردستاني بعقد صفقة مع طهران لمبادلة السيطرة على كركوك، في مقابل تعزيز موقفه في مواجهة الحزب الديمقراطي الكردستاني.
•العوامل الحاكمة للعلاقة بين بغداد وأربيل: هناك بعض الديناميكيات التي تؤثر على العلاقة بين بغداد وأربيل منها: الانتخابات البرلمانية، وانتخابات مجالس المحافظات، وتأثير الأطراف الدولية والإقليمية؛ إذ تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد، وترغب في تنفيذ المادة 140 من الدستور، بينما تلعب إيران دورًا تقسيميًا حيث تعزز علاقتها مع الاتحاد الوطني الكردستاني بينما تحافظ على نفوذها في العراق من خلال علاقتها مع الحشد الشعبي والأحزاب الشيعية العراقية.
إلا أن تنفيذ المادة 140 تعرقله القوى الموالية لإيران؛ إذ نظم دستور 2005 الحدود الداخلية للعراق وأنشأ منطقة كردستان التي تضم (أربيل، دهوك، السليمانية) لكن لم يتم تسوية مطالبات الأكراد بمناطق أخرى بما في ذلك كركوك كجزء من إقليم كردستان، وقد صاغت المادة 140 ثلاث مراحل لوضع حل للمناطق المتنازع عليها منها التطبيع والتعداد السكاني والاستفتاء.
وتنص المادة على ” تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (٥٨) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها. وفى البند الثاني المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية والمنصوص عليها في المادة (٥٨) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور على ان تنجز كاملة (التطبيع، الاحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها) في مدة اقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول سنة ألفين وسبعة”. الأمر الذي يعنى أن أي حكومة مشكلة من القوى الشيعية الموالية لإيران لن تطبق هذه المادة.
وقد تضمن الاتفاق السياسي الذي أبرمه ائتلاف إدارة الدولة الذي شكل الحكومة برئاسة رئيس الوزراء الحالي “محمد شياع السوداني” عقب الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021 قضية استعادة الحزب الديمقراطي لمقراته، وكان الاتفاق بإعادة تفعيل اللجنة المعنية بتنفيذ المادة 140 بين القوى الموقعة على وثيقة تأسيس ائتلاف إدارة الدولة في مقابل الصفقة السياسية لتشكيل الحكومة، ومثل الأكراد رمانة الميزان في الانتخابات الماضية إذ وفر دعمها الأغلبية لمنصب رئيس الوزراء في العراق.
لكن يبدو أن تنفيذ شياع السوداني للصفقة السياسية لم يحظ برضا الحشد الشعبي الذى لا يرغب في سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على كركوك، مما لجأ إلى تأجيج المظاهرات في كركوك اعتراضًا على قرار السوداني، الأمر الذى سينعكس على مسار العملية السياسية في العراق نتيجة عدم تنفيذ الاتفاق بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وائتلاف إدارة الدولة سواء في شكل استمرار التوترات السياسية وعدم الاستقرار أو عرقلة الاستحقاقات الانتخابية القادمة أو الدخول في مساومات جديدة خاصة في ظل القضايا الخلافية القائمة بين بغداد وأربيل وهو ما سيتضح خلال التفاعلات المستقبلية.
ختامًا؛ يتطلب تنفيذ قرار عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني ورحيل القوات المسلحة والحشد من المحافظة أخذ ضمانات كافية لعدم عودة كركوك إلى ما قبل عام 2017 بما قد يقود إلى عودة الإرهاب في العراق، بما يمثل ذلك من خطر على العراق وعلى المحافظات المجاورة لكركوك، وبما يتطلب من مسعود بارزاني تعزيز الدور الأمني في كركوك. خاصة أن داعش ينشط في جبال حمرين وصولًا إلى الجنوب الغربي، مع وجود وحدات الحشد الشعبي في كركوك بما يشعل التوترات بين حين وآخر مع السنة والأكراد.