الاقتصاد والسباق الدبلوماسي.. دوافع زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى سوريا ولبنان
بعد زيارتين أخيرتين قاما بهما كل من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا في 3 مايو الماضي ووزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى إيران يوم 30 يوليو الماضي، طار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى دمشق أواخر الشهر الماضي ليلتقي بنظيره السوري والرئيس بشار الأسد لبحث عدد من القضايا من أبرزها اتفاقيات اقتصادية مشتركة كان “رئيسي” قد توصل إليها مع الأسد خلال زيارته الأخيرة إلى سوريا.
وعلى الرغم من أن العنوان الرئيس لزيارة “عبد اللهيان” إلى دمشق كان الاقتصاد، على غرار مقاصد زيارته التالية للعاصمة اللبنانية بيروت، فإن محادثاته مع مسؤوليها لم تخلْ من التطرق إلى قضايا سياسية أخرى على رأسها الحضور الأمريكي في سوريا والأوضاع السياسية في البلاد في ظل تجدد الاحتجاجات مرة أخرى مؤخرًا جنوبي سوريا. وفي ضوء ذلك، نتطرق فيما يلي لأبرز أهداف زيارة الوزير الإيراني إلى سوريا ولبنان.
أهداف زيارة دمشق
تتعدد الأهداف التي دفعت وزير الخارجية الإيراني “عبد اللهيان” إلى زيارة سوريا أواخر أغسطس الماضي، وتبلورت على النحو التالي:
دخول مشاريع إعادة الإعمار الكبرى الاقتصادية حيز التنفيذ
كان العنوان الأبرز لزيارة وزير الخارجية الإيراني إلى سوريا هو السعي إلى تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى التي أبرمها الرئيسان الإيراني إبراهيم رئيسي والسوري بشار الأسد خلال لقائهما في دمشق في مايو 2023، وهي اتفاقيات تندرج في الواقع في إطار تخطيط إيران للانخراط الجدي في مشاريع إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب.
ولعل هذه الاتفاقيات كانت مهمة بالقدر الذي جعل طهران تنسق لأول زيارة من جانب رئيس إيراني إلى سوريا منذ اندلاع الأزمة هناك في 2011، وهو ما جرى آنذاك برفقة وزراء إيرانيين آخرين هم وزراء: النفط، والدفاع، والخارجية، والاتصالات، والطرق وإعمار المدن.
فقد شدد وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق ولقائه تحديدًا بالرئيس “الأسد” على أهمية “تعزيز العلاقات بين سوريا وإيران، وحرص بلاده على تنفيذ الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى سوريا”. وهو الأمر نفسه الذي كان “عبد اللهيان” قد أكد عليه خلال الزيارة ذاتها أثناء اجتماعه مع رئيس الوزراء السوري، حسين عرنوس.
يعني هذا أن الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين الإيرانيين والسوريين خلال الآونة الأخيرة ترمي في ركن رئيس منها إلى التأكيد على إشراك إيران في مشاريع إعادة الإعمار الاقتصادية الكبرى في سوريا، والتي من المتوقع أن تضمن لطهران مكاسب اقتصادية وسياسية هائلة في سوريا ما بعد الحرب. وهي مكاسب تراها طهران “أمرًا مُكمِّلًا” لتقديمها المساعدات العسكرية لدمشق خلال سنوات الحرب، بجانب أن الطرفين على الناحية الاقتصادية سوف يوظفانها لمحاولة تحقيق استقرار في اقتصاديات البلدين. فإذا كانت إيران تعاني من أزمة اقتصادية هوت بقيمة عملتها إلى مستويات غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، فإن سوريا تواجه انعكاسات اقتصادية للحرب طويلة المدى قادت إلى تدهور قيمة عملتها (الليرة) إلى مستويات تاريخية.
وعلى أي حال، فإن المشاريع الاقتصادية الإيرانية في سوريا تشمل من بينها مشاريع صغيرة ومتوسطة وكبيرة، واتفاقيات في مجالات السياحة والكهرباء والسكك الحديدية والبنى التحتية والإعمار السكني والبناء والنقل والنفط والزراعة والسياحة الدينية، بل وفي مجال الآثار والمتاحف أيضًا. فقبل زيارة “رئيسي” الأخيرة إلى سوريا في مايو الماضي، كان وزير الاقتصادي السوري محمد سامر الخليل قد توصل مع وزير الطرق الإيراني مهرداد بذرباش إلى اتفاقيات في هذا الشأن وذلك بتنسيق من اللجنة الاقتصادية السورية الإيرانية.
وخلال هذه الزيارة من جانب “بذرباش” إلى سوريا أعلن الأخير عن تشكيل 8 لجان نوعية متخصصة مشتركة مع إيران في مجالات متعددة من بينها النقل والصرافة والزراعة. ولعل مشروع الربط التجاري بين إيران وأوروبا وروسيا يشغل حيزًا كبيرًا من اهتمامات الاقتصاديين الإيرانيين والمسؤولين حين زيارتهم لسوريا. حيث تسعى طهران إلى كسب امتياز في ميناء اللاذقية السوري على البحر المتوسط ليكون نواة لمشروع نقل واتصال كبير يمر من شمال إيران إلى جنوبها مارًا بالأردن ولبنان ومن ثم سوريا إلى قارة أوروبا.
وعليه، فإن زيارة “عبد اللهيان” إلى سوريا أواخر الشهر الماضي لا تنفصل عن زيارات الرئيس الإيراني “رئيسي” والمسؤولين الاقتصاديين الإيرانيين الأخرين، والتي ترمي بوجه عام إلى البدء في تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى مع سوريا.
الحضور العسكري الأمريكي في سوريا
كان الشاغل الثاني لوزير الخارجية الإيراني خلال زيارته إلى دمشق ممثلًا في الحضور العسكري الأمريكي داخل سوريا. حيث أعاد “عبد اللهيان” التأكيد على دعوة بلاده إلى انسحاب القوات الأمريكية من شرق سوريا. وتُبدي إيران في الآونة الأخيرة قلقًا متصاعدًا من النفوذ الأمريكي الآخذ في الازدياد في المنطقة الواقعة على الحدود بين سوريا والعراق. حيث يرى ساسة إيرانيون أن الهدف من تحركات واشنطن الأخيرة في هذه المنطقة يتمثل في السيطرة على جميع المعابر الحدودية الواصلة بين سوريا والعراق بدءً من منطقة “البوكمال” السورية إلى “القائم” في العراق ليمتد النفوذ الأمريكي في المثلث الواصل بين الحدود العراقية السورية الممتدة جنوبًا إلى قاعدة “التنف” العسكرية الأمريكية.
ويخشى الإيرانيون من أنه بالنظر إلى سيطرة القوات الكردية (قسد) على المناطق الشمالية الأخرى في سوريا في الوقت الراهن، فإن واشنطن تكون بذلك قد سيطرت على كامل الحدود الشرق السورية وعلى كامل خطوط الاتصال الإيرانية عبر سوريا والعراق. ولعل هذا السيناريو يمثل “كابوسًا” للاستراتيجية العسكرية الإيرانية في الإقليم؛ نظرًا إلى حاجة طهران إلى هذه المعابر لأهداف عسكرية وحتى مالية، فضلًا عن أن الوكلاء العسكريين التابعين لإيران تمنحهم هذه المناطق الحدودية فرصة هائلة لسرعة التحرك والتواصل.
وفي هذا الصدد، نظرت طهران بقلق إلى اللقاءات التي عقدها مسؤولون أمريكيون مع قادة (قسد) مؤخرًا، علاوة على زيارة ثلاثة من النواب التشريعيين الأمريكيين لمناطق في سوريا لا تقع تحت سيطرة الحكومة المركزية، ما فاقم من توترات إيران بشأن ما يقوله البعض في الداخل من “سعي الولايات المتحدة إلى تنفيذ مشروع محاصرة حكومة الأسد على الأرض، لأنه في حال تنفيذه، ستخضع سوريا في حدودها الجنوبية والشمالية والشمالية الشرقية لنفوذ القوات الأمريكية وحلفائها، بل سيكون الحضور قائمًا أيضًا بشكل غير رسمي على الأقل في الجانب اللبناني”، وذلك على حد تعبير الكاتب الإيراني “سيد عماد حسيني” في مقال له نُشر بصحيفة “اعتماد” الإيرانية الناطقة بالفارسية في عددها الصادر يوم الثلاثاء 29 أغسطس 2023.
تطورات المصالحة السورية التركية
بحث وزير الخارجية الإيراني في دمشق ملفًا آخر مهمًا، وهو عودة العلاقات بين سوريا وتركيا. ولعل الجهود الإيرانية في هذا الصدد جارية منذ أشهر وسبقتها محادثات بين طهران ودمشق وأنقرة لهذا الغرض، كان من أبرزها الزيارة التي قام بها “عبد اللهيان” إلى أنقرة في يناير 2023 والتي كان محورها الرئيس العلاقات السورية التركية. وفي هذا الإطار، بحث وزير الخارجية الإيراني مع “الأسد” في سوريا مسألة عودة اللاجئين، علاوة على الانسحاب التركي من شمال سوريا، حيث وصفت رئاسة الجمهورية السورية هذا الأمر بأنه “شرط لا بد منه لعودة العلاقات الطبيعية بين دمشق وأنقرة”.
ولعل إيران ترى في عودة العلاقات السورية التركية مكاسب لدمشق ولها أيضًا؛ لأن مثل هذا السيناريو سيعني انسحابًا تركيًا من شمال سوريا ومن المناطق التي يقطنها الأكراد، علاوة على أن هذه العودة قد تقود إلى تحقيق سوريا مكاسب اقتصادية من ورائها، وهي أمور تحبذها إيران التي ترى أن استقرارًا اقتصاديًا في سوريا سيعني على الناحية الأخرى استقرارًا سياسيًا وهدوءً أمنيًا وعسكريًا، وهي مرحلة ترغب إيران في الوصول إليها سريعًا “لبدء قطف ثمار” سنوات من التعاون العسكري الإيراني مع دمشق.
مظاهرات “السويداء” السورية وزيارة عبد اللهيان
تزامنت زيارة وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان إلى سوريا مع استمرار المظاهرات في مدينة السويداء السورية، في مشهد جديد يشابه بداية الحرب طويلة الأمد في سوريا التي بدأت بعد اندلاع احتجاجات مشابهة عام 2011. وعليه، فإن جدول أعمال الوزير الإيراني، الذي لم يتحدث علنًا بشأن هذه التطورات، قد يكون قد شمل آفاق تجدد الاحتجاجات في سوريا من حيث كيفية التعامل معها وقبل ذلك نتائجها على مستقبل الأوضاع القائمة في سوريا.
دوافع زيارة بيروت
بعد زيارته سوريا، وصل وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان يوم 31 أغسطس 2023 إلى لبنان ليلتقى بعدد من كبار المسؤولين من بينهم رئيس البرلمان نبيه بري وكذلك الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وجاءت زيارة عبد اللهيان إلى لبنان في ظل أزمة يعانيها ذلك البلد منذ أكتوبر 2022 تتعلق بالفشل في اختيار رئيس جديد للجمهورية يخلف ميشال عون.
التلميح لـ “انفراجة” في ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية
شكّل ملف انتخاب رئيس جديد للبنان أبرز ما تطرق إليه وزير الخارجية الإيراني أثناء زيارته لبنان. حيث دعا في تصريحات له في بيروت “جميع الأطراف اللبنانية إلى اختيار رئيس للجمهورية في أقرب وقت ممكن من خلال الحوار والتفاهم”، مضيفًا أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تريد إلا الخير والاستقرار والتنمية”. وإذا ما كانت هذه الدعوات حقيقية، فإن أبرز ما يمكن الحديث عنه بشأن مخرجات لقاء عبد اللهيان مع حسن نصر الله قد يكون البحث في إيجاد الدعم اللازم لمرشح الحزب للرئاسة سليمان فرنجية وإنجاح الحوار القائم بين حزب الله والتيار الوطني الحر، في مواجهة التفاف المعارضة حول المرشح “جهاد أزعور” ما اضطر نواب الحزب إلى الانسحاب من جلسة انتخاب الرئيس التي عُقدت في 14 يونيو الماضي.
وبوجه عام، قد يدفع تحسن العلاقات الإيرانية العربية، التي تجيء في إطارها زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى سوريا ولبنان، إلى سعي إيراني لإحداث انفراجة في ملف انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، خاصة بعد الاتصالات والزيارات الأخيرة التي قام بها مسؤولون إيرانيون إلى عدد من الدول العربية من بينها دول تلعب دورًا مهمًا في الملف اللبناني.
زيارات أمريكية إيرانية فرنسية متزامنة إلى لبنان
جاءت الزيارة التي قام بها “عبد اللهيان” إلى بيروت بعد زيارة من جانب المنسق الرئاسي الأمريكي الخاص لشؤون الطاقة، آموس هوكشتاين، إلى لبنان جرت في 30 أغسطس 2023 كان الهدف منها متابعة تنفيذ اتفاق الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وقد أكد نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، إلياس بو صعب، على الفكرة نفسها حينما قال إن الهدف الأول لزيارة المبعوث الأمريكي كانت مواكبة بدء أعمال التنقيب عن الغاز في منطقة الامتياز رقم 9 (البلوك التاسع)، وأن “الزيارة تؤكد على أهمية الاستقرار جنوبًا، الذي لا مصلحة لأحد بزعزعته”. وعلاوة على ذلك، جاءت الزيارة عشية اجتماع لمجلس الأمن الدولي للتصويت على مشروع قرار تمديد مهمة قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” في لبنان لعام آخر.
وتبرز أهمية هذه التطورات في الساحة اللبنانية لإيران لأسباب متنوعة من بينها محاولة إيران محاصرة الدور الأمريكي أيضًا في لبنان المجاور لسوريا مستخدمة “حزب الله” في ذلك، خاصة وأن المنسق الأمريكي هوكشتاين هو من قاد ترسيم الحدود البحرية مؤخرًا بين لبنان وإسرائيل ويسعى إلى الاستفادة من هذه الإجراءات التي تتم في الجنوب اللبناني الذي يشغل هو الآخر أهمية لدى إيران و”حزب الله”.
وإلى جانب ذلك، استبقت زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان زيارة أخرى مرتقبة من جانب مبعوث الرئيس الفرنسي إلى لبنان، جان إيف لودريان، من المقرر لها أن تتم بعد حوالي أسبوعين من الآن. ويُعتقد أن زيارة “لودريان” إلى لبنان سوف تتطرق إلى مسائل مهمة أبرزها اختيار رئيس جديد للبنان. وفي هذا الشأن، بدا مؤخرًا أن هناك تصعيدًا واضحًا بين طهران وباريس في بيروت، بعدما تطرق الرئيس الفرنسي إلى “أنشطة زعزعة الاستقرار الإقليمية التي قامت بها إيران في السنوات الأخيرة”، معتبرًا أن “أحد العناصر الأساسية بغية إيجاد حل سياسي في لبنان سيمر بتوضيح التدخلات الإقليمية بها بما فيها التدخل الإيراني”.
وقد عبّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لبنان عن “انزعاج” من هذه التصريحات، حيث قال “أنصح السيد ماكرون على التركيز على الوضع داخل فرنسا بدلًا من الاهتمام بمسائل التدخل في دول أخرى”، على حد تعبيره. وبذلك، يُرجح أن زيارة “عبد اللهيان” إلى لبنان قد أرادت طهران منها الرد على تصريحات الرئيس ماكرون و”إثبات” الحضور الإيراني الرسمي داخل لبنان، خاصة وأن “عبد اللهيان” تطرق في بيروت إلى ملف اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية، وهو الملف ذاته الذي انتقدت فرنسا تدخل إيران فيه.