الجابون: فرص نجاح الانقلاب وإعادة التموضع الدولي
انقلاب جديد تشهده القارة الأفريقية، وسط إعلان قوات عسكرية في تليفزيون الجابون يوم 30 أغسطس الانقلاب على الرئيس المنتخب علي بونجو بعد فوزه بولاية ثالثة بتصويت بنسبة 64,27%، وسط خروج شعبي يدعم الانقلاب، وتصريحات دولية تتابع عن كثب، خاصةً من فرنسا؛ في محاولة لعدم فقد ورقة جديدة لها في وسط وغرب أفريقيا. فما هي معدلات نجاح الانقلاب –وتشكيل لجنة انتقالية لإعادة المؤسسات– وتأثيره على حجم الوجود الغربي في المنطقة؟
ماذا حدث؟
انقلاب سابق: هذه ليست محاولة الانقلاب الأولى، بل شهد عام 2019 محاولة سابقة ضد على بونجو؛ بسبب اتهامات سابقة له ولأسرته بالفساد والسيطرة على موارد الدولة، أعقبها أنباء عن مشاكل صحية وإصابته بجلطة دماغية تعرض لها عند مشاركته في مؤتمر للاستثمار في المملكة السعودية عام 2018 وتم معالجته على إثرها في المغرب. فيما لم تنجح تلك المحاولة واعتُقل مدبروها، وقُتل بعضهم بعد محاول السيطرة على الإذاعة الوطنية. وعيّن “بونجو” رئيسًا جديدًا للوزراء لتأكيد سيطرته على السلطة.
انقلاب متوقع: جاء الانقلاب الحالي في خطوة متوقعة؛ إثر الأزمات التي تعصف بالجابون، عقب قيام الرئيس علي بونجو بإجراء تعديلات دستورية اشتملت على خفض مدته الرئاسية من 7 سنوات إلى 5 سنوات، وتقليص مراحل التصويت من خلال إنهاء العمل بجولتي التصويت، وهو ما رأته المعارضة تسهيلًا انتخابيًا للرئيس الذي ورث الحكم بوفاة والده عمر بونجو أونديمبا منذ عام 2009، وأُعيد انتخابه في 2016، ليكون العام الحالي هو ولايته الثالثة، عقب إعلان فوزه بنسبة أصوات 64.27%، متفوقًا على منافسه ألبير أوندو أوسا –مرشح ائتلاف المعارضة- والذي حصل على 30,77 %، فيما حصل 12 مرشحًا آخر على ما تبقى من أصوات.
وبلغت نسبة المشاركة 56,65%. في انتخابات تم التشكيك في صحتها على إثر إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال ليلًا وقطع الإنترنت. وقد ضغطت المعارضة من أجل التغيير، وكان هناك أمل في فوز “أوندو”، فيما ازداد التخوف عقب تقييد الإعلام وإعلان النتيجة وسط غياب مشاركة المجتمع المدني، ورفض داخلي لتمديد قبضة عائلة بونجو على الحكم منذ 56 عامًا. وانتقدت المعارضة وجود مخالفات في التصويت مثل: عدم توزيع بطاقات اقتراع مرشحي التحالف بشكل صحيح في بعض المناطق، وعدم دعوة مراقبين دوليين كالاتحاد الأوروبي، والتشكيك في انتخابات 2016 من قبل المعارضة.
الإجراءات التي أقرها قادة الانقلاب: على إثر تلك الإجراءات والتخوف من الاضطرابات، أعلن مجموعة من كبار ضباط المؤسسات العسكرية وتضم “الحرس الجمهوري والجيش والشرطة”، وتوسطهم رئيس الحرس الجمهوري في فيديو متداول العقيد بريس كلوتير أوليجي أنجيما الذي تولى منصبه في مارس 2020، أعلنوا فيه: إنهم يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع في الدولة، وسيطرتهم على السلطة، ووضع بونجو قيد الإقامة الجبرية محاطًا بعائلته وأطبائه، وإيقاف أحد أبنائه بتهمة الخيانة العظمى، وإلغاء نتائج الانتخابات التي أجريت في 26 أغسطس بعد التشكيك في صحتها وإغلاق جميع الحدود، وحل مؤسسات الدولة الحكومية ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية والمحكمة الدستورية، وتشكيل مجلس انتقالي لتسير شؤون البلاد إلى حين إشعار آخر، وسط سماع إطلاق نار في ليبرفيل العاصمة.
وقامت اللجنة بتوقيف عدد من القيادات في الرئاسة، وهم: رئيس مكتبه إيان جيزلان، ونائبه ومستشار الرئيس عبد الحسيني، والناطق الرسمي باسم الحكومة، بجانب أهم رجلين في الحزب الحاكم الديمقراطي الجابوني الذي يسيطر على نواب مجلسي الشيوخ والنواب؛ بتهمة الخيانة العظمى واختلاس أموال الدولة.
الرئيس الانتقالي الجديد: أعلن الضباط الذين أعلنوا الانقلاب وعددهم يزيد على عشرة ضباط أنهم يتحدثون باسم ما أسموه “لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات”؛ للتأكيد على عدم طمعهم في الحكم، وأن المجلس العسكري الانتقالي سيُشكّل من أجل استعادة السيطرة على مؤسسات الدولة عقب ما أسموه وقوع اضطرابات قد تجر البلاد إلى الفوضى وبالتالي جاء قرارهم للحفاظ على السلام في البلاد. وهو ما دعمه خروج مواطنين للاحتفال في العاصمة الجابونية ليبرفيل.
وقد أعلن الضباط في بيان أنهم اختاروا قائد الحرس الجمهوري بريس أوليجي نجويما رئيسًا لهذه اللجنة لإعادة بناء المؤسسات، وسيتولى مسؤولية ادارة البلاد، فيما تدوولت فيديوهات تظهر حشودًا من الجنود وهم يهتفون “أوليجي رئيسًا”. في المقابل، دعا “بونجو” في فيديو تدوول على وسائل التواصل الاجتماعي ما أسماهم “جميع أصدقائه” في العالم لرفع أصواتهم لإنقاذه من الاعتقال في منزله.
ما رد الفعل على الانقلاب؟
جاءت ردود الأفعال الداخلية والخارجية بصورة مباشرة وسريعة، وتمثلت في خروج حشود مؤيدة لتلك الخطوة، في المقابل جاءت البيانات حذرة حول عملية الانقلاب وفقًا للمصالح المؤثرة على تلك الاطراف، وجاءت كالتالي:
استشعر جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي القلق من الاضطرابات في الجابون، والذي سيأتي بمزيد من الاضطرابات في المنطقة في ظل ما تشهده المنطقة من انقلابات عدة، مما يمثل تهديدًا للقارة الأوروبية، وعليه أعلن أن وزراء دفاع دول الاتحاد سيناقشون الموقف.
وجاء موقف فرنسا في ظل التخوف من فقد مزيد من نفوذها في المنطقة عقب وجود جيل جديد لا يتبع الانتماء إلى الدولة الفرنسية، ويرفض الفكر الاستعماري الذي يتم الترويج له من القوى المنافسة، في ظل عدم تنفيذ الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سابقًا من الجابون في مارس 2020، وتم انتقاد زيارة “ماكرون” وتم اعتباره آنذاك بأنه داعم للنظام الديكتاتوري بقيادة “بونجو”، فيما نفى “ماكرون” وأكد على سياسة الحياد الفرنسي، وهو ما انعكس على تصريحات رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن، المحايدة حول “إن بلادها تتابع الموقف في الجابون عن كثب” خلال إلقائها لخطاب أمام اجتماع للسفراء في باريس.
فيما جاء إعلان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران في مؤتمر صحفي عقب اجتماع مجلس الوزراء أكثر حسمًا للموقف الفرنسي بـ “إدانة الانقلاب الحالي والترقب الفرنسي للتطورات بانتباه، والتأكيد على احترام نتائج الانتخابات”. وكذلك تم تعليق أعمال شركة التعدين الفرنسية “إراميت”، صاحبة وحدة “كوميلوج” لإنتاج المنجنيز في البلاد، فضلًا عن وقف عمليات النقل عبر السكك الحديدية”.
هذا فيما جاء تعليق السفارة الروسية في الجابون بأنه لا توجد تهديدات مؤكدة على السفارة في البلاد. وأعلن الكرملين أنه يتابع ما يجري في الجابون بقلق شديد، وتطلعت الخارجية الروسية لعودة الاستقرار.
وتمثل رد الفعل الأفريقي في عقد اجتماع طارئ أعلنه رئيس مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي ويلي نياميتوي، مع بوروندي والسنغال والكاميرون؛ من أجل دراسة الوضع في ظل خرق الآليات القانونية والسياسية للاتحاد الأفريقي، مع التأكيد على ضرورة اتخاذ الحلول السلمية والعودة للشرعية الدستورية والرئيس المنتخب.
ورقة جديدة من الطاولة الفرنسية في المنطقة:
يتضح من رد الفعل الفرنسي على الانقلاب في الجابون أن هناك تخوفًا فرنسيًا حقيقيًا من عدوى الانقلابات التي أودت بالنفوذ الفرنسي على طاولة دول وسط وغرب أفريقيا، في ظل تغير شكل الأنظمة الحاكمة، مع ظهور الجيل الأفريقي الرافض للوجود الفرنسي، وظهر في الانقلابات العديدة في المنطقة، في ظل اتهامات فرنسا بدعم الأنظمة الديكتاتورية للحفاظ على مصالحها.
وذلك بالرغم من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المعزولة للإيحاء بأنها لا تدعم الوجود الفرنسي، وهو ما حدث في انتخابات عام 2016 والتي تم استدعاء السفير الفرنسي في الجابون على إثر تصريحات تشكك في الانتخابات، وكذلك وقف بث قنوات فرنسية اتهمها “بونجو” بالتحريض وبث الشائعات؛ في محاولة لتغيير الصورة المهتزة لدى الشارع الجابوني وخاصةً من الشباب الرافض.
وهو ما يشير إلى احتمالية سقوط ورقة فرنسية جديدة في ظل عدوى الانقلابات ضمن سلسلة من الأوراق المفقودة للوجود الغربي بشكل عام، والفرنسي على وجه الخصوص. فمنذ عام ٢٠٢٠، جرت في عدد من الدول الواقعة ضمن حزام الساحل والصحراء والدول المتخمة سلسلة من الانقلابات، بمعدل دولة في كل عام؛ فبدأت بمالي وبوركينا فاسو وغينيا وأخيرًا النيجر والجابون لعام ٢٠٢٣، وجاءت على النحو التالي:
مالي.. انقلاب على الانقلاب: قاد اسيمي جويتا انقلابًا عسكريًا في أغسطس ٢٠٢٠، بدعوى تردي الأوضاع الأمنية. وبالضغط من مجموعة دول الساحل والصحراء و”الإيكواس”، تم التوافق حول فترة انتقالية يقودها رئيس مدني، إلا أنه سرعان ما تم الانقلاب الثاني على الرئيس المؤقت الجنرال المتقاعد ” باه نداو” في مايو 2021، وتولى جويتا رئاسة المجلس الانتقالي، والذي مد الفترة الانتقالية من ١٨ شهرًا وإجراء الانتخابات في فبراير ٢٠٢٢ إلى عامين على أن يتم اجراء انتخابات ديمقراطية فبراير ٢٠٢٤، وهو ما اعترضت عليه مجموعة “الإيكواس” التى جمدت عضوية مالي وفرضت عقوبات اقتصادية عليها.
وكان من نتائج الانقلاب خروج مالي من مجموعة دول الساحل والصحراء الخمس قبل إعادة هيكلتها بعد رفض رئاستها للمجموعة، بجانب إلغاء الاتفاقيات العسكرية مع القوى الغربية، وإيقاف عملية “برخان” في الساحل الأفريقي، تمهيدًا لسحب قوات “مينسوما” الأوروبية، وتراجع القوات الفرنسية لتتمركز في النيجر بجانب القاعدة العسكرية الأمريكية في البلاد.
غينيا: يتشابه السيناريو الغيني إلى حد كبير مع ما حدث في الجابون؛ فبعد إجراء ألفا كوندي تعديلات دستورية لتمديد فترة ولايته الرئاسية وفتح باب الترشح لولاية جديدة، خرجت المعارضة في الشارع، وحدثت اضطرابات في سبتمبر 2021 أطاح فيها قائد القوات الخاصة الكولونيل مامادي دومبويا بالرئيس ألفا كوندي، وأعلن “دومبويا” نفسه رئيسًا مؤقتًا، على أن يتم عقد الانتخابات عقب 3 سنوات. وكالعادة، رفضت “الإيكواس” الأمر وفرضت العقوبات على المجلس العسكري وجمدت حساباتهم المصرفية، مع عدم وضع خارطة طريق لاستعادة النظام الديمقراطي، وتحديد مدة انتقالية 24 شهرًا.
بوركينا فاسو.. ثاني اثنين: على غرار ما حدث في مالي، أطاح قائد الانقلاب العقيد بول هنري داميبا بالرئيس روك كابوري، في ظل اتهامه بضعف الوضع الأمني وعدم قدرته على التصدي للمتشددين، في يناير 2022. ولم يمر عام حتى نفذ قائد المجلس العسكري الحالي إبراهيم تراوري في انقلاب ثانٍ في سبتمبر 2022، واستولى على السلطة حتى الآن، واتخذ نفس النهج في توقيع الاتفاقيات العسكرية مع القوات شبه العسكرية “فاجنر”، مما أثر على الوجود الفرنسي في الساحل الأفريقي، وبالتالي تعميق الوجود في النيجر لضمان موطئ قدم فرنسي في المنطقة حتى حدث الانقلاب الأخير في النيجر.
انقلاب النيجر: فمنذ نحو شهر منذ الآن، عزل قائد الحرس الرئاسي عبد الرحمن تشياني الرئيس محمد بازوم من منزله، واعتقله بجانب عدد من القادة السياسيين والتنفيذين في البلاد. واتخذت “الإيكواس” قرارات عنيفة لمحاولة إثناء المجلس العسكري عن قراره وإعطائه مهلة أسبوع لعودة “بازوم” وإلا ستتدخل عسكريًا، وهو القرار الذي أيدته بنين ونيجيريا ورفضته الجزائر، ووقفت ضده بوركينا فاسو ومالي وهددت بالتدخل وسمح لهم تشياني بالتدخل حال الهجوم.
ومع تغيير قرار مجلس النواب النيجيري تم الإعلان عن أن التدخل العسكري سيكون الملاذ الأخير والتأكيد على المسار الدبلوماسي والذي دعت إليه الولايات المتحدة بشكل وصفته فرنسا بأنه تخلٍ عنها في المنطقة، في ظل الدفع نحو الحرب بالوكالة، مقابل التخوف من ازدياد عدوى الانقلابات التي حدثت بالفعل، خاصةً مع تهديد المصالح الفرنسية بوقف الاتفاقيات العسكرية الفرنسية مع النيجر، بجانب إيقاف تصدير اليورانيوم المستخدم في إنتاج الطاقة في فرنسا.
ويقودنا الطرح السابق وفرض سياسة الأمر الواقع للانقلابات في المنطقة إلى توقع استمرار اللجنة الانتقالية برئاسة أوليجي نيجما، مع إعادة تموضع القوى الدولية، وتوقع استمرار عدوى الانقلابات خاصةً في الكاميرون والسنغال وزيمبابوي التي تشهد أحداثًا مماثلة، مع التأكيد على تهديد المصالح الفرنسية المهددة بالفعل مع سلسلة الانقلابات في المنطقة، بجانب فقدها لأهم مصادر الطاقة مع دخول الجابون في تلك السلسلة بوصفها إحدى الدول الغنية بالنفط والتي تمتلك وفقًا للتقديرات نحو 26 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي وملياري برميل من النفط، بجانب صادرات نفطية تزيد على 3 مليارات برميل؛ إذ يمثل إنتاج النفط 70.5% من عائدات التصدير، بجانب الصادرات من الخشب والمنجنيز والذهب.
أما على الصعيد العسكري فإن تصاعد النفوذ العسكري سواء من وجود خبراء عسكريين واتفاقيات عسكرية روسية ووجود قوات “فاجنر” في مالي وبوركينا فاسو ووسط أفريقيا وأخيرًا النيجر، فإنه يؤثر على القواعد العسكرية والقوات الفرنسية وعددها 1500 جندي في النيجر بجانب القاعدة العسكرية الأمريكية. مما يعيد شكل العلاقات في حال تغير شكل التحالفات، والاستمرار في سياسة العقوبات والتدخل في شكل الحكم في الدول الأفريقية بدعوى دعم الديمقراطية وهو ما تدعمه الأنظمة الغربية، في مقابل المصالح العسكرية والاستثمارية مع المعسكر الشرقي.