أفريقيا

انقلاب الجابون: أصوات المدافع تعلو أصوات الاقتراع

بعد سلسلة متواصلة من الانقلابات التي شهدتها دول الساحل والغرب الأفريقي، وبعد نحو شهر من انقلاب النيجر، يأتي انقلاب الجابون الذي نفذه مجموعة من الضباط فور إعلان نتيجة الانتخابات وفوز الرئيس “علي بونجو” بفترة رئاسية ثالثة، وإعلانهم رفضهم لنتائج الانتخابات عبر شاشات التليفزيون الرسمي صباح الأربعاء 30 أغسطس 2023.

ويعد هذا ثامن انقلاب تشهده منطقة غرب ووسط إفريقيا، بعد فترة استطاعت خلالها أن تتخلص من ذاكرة الانقلابات وتحقيق قدرًا من التقدم على مؤشر التحول الديمقراطي، حيث التزمت أغلب دول المنطقة خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي بالفترات الرئاسية وتسليم وتداول السلطة سلميًا، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في المنطقة، والمحركات والسياقات المحلية والإقليمية والدولية المرتبطة بتنامي موجات الإرهاب والصراعات المحلية وتصاعد حدة التنافس الدولي، وإلى أي مدى تنعكس تلك الأوضاع على الأوضاع السياسية وحالة الاستقرار بدول المنطقة. 

الرئيس الجابوني يدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية

انقلاب الجابون 

أعلنت مجموعة من ضباط الجيش تتكون من 12 ضابط، عبر التلفزيون الرسمي رفضهم لنتائج الانتخابات والتحفظ على الرئيس علي بونجو زعيم الحزب الديموقراطي الجابوني، وشكلوا “لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات”، معلنين إغلاق الحدود وإلغاء نتائج الانتخابات التي فاز فيها بونجو بنسبة 64.27%، متجاهلًا شكوى منافسه بتزوير نتائج الانتخابات، وأنه تحت الإقامة الجبرية محاطًا بعائلته وطبيبه الخاص، كما وجهت اتهامات إلى نجل الرئيس بالخيانة العظمى بجانب عدد من المستشارين والرجال المقربين من الرئيس، وتم حل الحكومة ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية والمحكمة الدستورية ولجنة الانتخابات، حيث ترى المجموعة أن الانتخابات افتقدت للمصداقية، معلنين أنهم يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع، وتوسط هؤلاء الضباط العقيد بريس كلوتير أولوغي أنغيما، الذي يعتقد أنه من قاد الانقلاب ضد الرئيس بونغو، وهو قائد الحرس الجمهوري الذي تولى منصبه عام 2020.

وبخلاف تدهور الوضع الأمني الذي كان المبرر للانقلابات الإقليمية الأخرى، فإن الفساد والسيطرة السياسية ورغبة الرئيس علي بونجو في الحصول على ولاية ثالثة كانت المحرك لذلك الانقلاب، حيث تحكم عائلة بونجو البلاد منذ 56 عامًا، ولم يقدموا شيئًا لتحسين حياة المواطنين الذين يعانون من الفقر ويقدر عددهم إلى 2.5 مليون نسمة في دولة نفطية تعاني من الفساد. وقد احتفل المئات في وسط ليبرفيل عاصمة الجابون باستيلاء الجيش على السلطة في البلاد، فمع عودة الإنترنت للبلاد، انتشرت مقاطع الفيديو المؤيدة للانقلاب، بعدما قطعت الحكومة الإنترنت وفرضت حظر التجوال في سياق انتخابي يتسم بالتعتيم. 

وكان هناك خلاف حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت يوم السبت 26 أغسطس، وسط تضييق على المعارضة وإصرار الرئيس على الترشح لولاية ثالثة وغياب الرقابة الدولية، مما أسهم في حالة من الغضب ضد حكم عائلة بونجو وانتقاد مدبري الانقلاب للاقتراع الذي افتقد للشفافية والنزاهة، إذ يرأس الرئيس بونجو البالغ من العمر 64 عامًا البلاد منذ 14 عامًا، وفي 2016 أضرم متظاهرون النيران في مبنى البرلمان عندما اندلعت احتجاجات عنيفة رفضًا لفوز بونجو بولاية ثانية. ومن قبله حكم والده البلاد لمدة 41 عامًا منذ عام 1967  حتى وفاته عام 2009 وتولى ابنه الحكم بعده، وأصر على الترشح للمرة الثالثة رغم مرضه بعد إصابته في عام 2018 بجلطة دماغية، مع فشل المعارضة في إيجاد مرشح قوي لمنافسة بونجو، مما أثار تحفز واستياء المجموعة المحركة للانقلاب رفضًا لنتائج الانتخابات. 

الحالة الاقتصادية

الجابون هي دولة نفطية واقعة في وسط غرب إفريقيا تنتج يوميًا181 ألف برميل من النفط، تبلغ صادرات المنتجات البترولية حوالي 10 آلاف برميل يوميًا، ويصل إجمالي الطلب على النفط إلى حوالي 45 ألف برميل يوميًا، وتبلغ سعة المصافي حوالي 25 ألف برميل يوميًا. وتصل قيمة صادراتها النفطية إلى حوالي 4.6 مليار دولار، فيما شكلت صادرات البلاد النفطية وغير النفطية قرابة بـ 6 مليارات دولار عام 2021، ولديها احتياطات نفط خام مؤكدة بملياري برميل، بالإضافة إلى إنتاجها الغاز الطبيعي بمعدل 454 مليون متر مكعب يوميًا، واحتياطيات الغاز المؤكدة 26 مليار متر مكعب، إلى جانب اليورانيوم والمنجنيز والأخشاب والكاكاو، والجابون كانت دولة عضو في الأوبك منذ 1975 ثم علقت عضويتها عام 1995 ثم عادت مرة أخرى عام 2016. 

وتعود صناعة النفط في البلاد إلى وقت مبكر وتحديدًا منذ عام 1931، عندما تم اكتشاف العديد من رواسب النفط في المناطق المجاورة في ليبرفيل، بالإضافة إلى قطاع صيد الأسماك نظرًا لموقعها الاستراتيجي على خليج غينيا والمحيط الأطلسي. وكذا تعد الجابون رابع أكبر منتج للنفط في أفريقيا، ووفقًا للبنك الدولي، فإن الجابون حققت نموًا اقتصاديًا قويًا خلال العقد الماضي، مدفوعًا بشكل رئيس بإنتاج النفط والمغنيسيوم.

وفي عام 2020، شكّل قطاع النفط 38.5% من الناتج المحلي الإجمالي و70.5% من الصادرات، على الرغم من الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد، وهو الأمر الذي يبرر المخاوف المتعلقة بصادرات النفط العالمي. وكان متوقع للجابون تحقيق معدل نمو اقتصادي يصل إلى 3.4%  قبل جائحة كورونا، ولكن اقتصادها انكمش بنسبة 1.8% في عام 2020 بفعل الإجراءات التقييدية وانخفاض أسعار النفط عام 2020. وأدى هذا التراجع الاقتصادي إلى ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض حاد في الإيرادات المحلية، إضافة إلى انخفاض الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر، مما أدى بالتبعية إلى عجز مالي كبير.

وواجهت البلاد أزمة متعلقة بارتفاع أسعار المواد الغذائية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ارتفعت الأسعار ووصلت معدلات التضخم إلى 4.3%، واتخذت الحكومة خطوات لمعالجة ارتفاع تكاليف المعيشة، بما في ذلك وضع حدود قصوى مؤقتة لأسعار 48 سلعة استهلاكية مستوردة من أكتوبر 2022 إلى مارس 2023. وأنشأت وزارة جديدة مخصصة لمكافحة ارتفاع تكاليف المعيشة في يناير 2023، مما يعكس تفاقم الأزمة المعيشية في البلاد. 

وقبل الأحداث شهد الاقتصاد الجابوني تعافيًا تدريجيًا، مدعومًا بالأداء الجيد في قطاعات النفط والتعدين والأخشاب، فيما ساهمت إزالة القيود المرتبطة بجائحة كورونا في مارس 2022 في نمو قطاع الخدمات. وقدّر “البنك الدولي” أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد إلى 3.1% عام 2022، ارتفاعًا من 1.5% في 2021. وبفضل التعافي التدريجي، انخفض الدين العام في عام 2022، ليصل إلى 52% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 60.7% عام 2021. 

الحالة الإقليمية 

جاء انقلاب النيجر في 26 يوليو بقيادة قائد قوات الحرس الرئاسي عبد الرحمن تياني بدعوى إنهاء حالة التدهور الأمني وسوء الحوكمة في البلاد، في الوقت الذي تعتبر فيه النيجر واحدة من الدول الفاعلة في مقاربات الأمن الإقليمي والدولي، وهو ذات المبرر الذي حرك انقلاب بوركينافاسو في يناير 2022 حيث كان الإخفاق في التصدي لعنف المتشددين هو المبرر لانقلاب بول هنري داميبا بدعوى استعادة الأمن، لكن مع تراجع الحالة المعنوية للجيش تصاعدت هجمات المتشددين، مما أدى لانقلاب ثانٍ في سبتمبر 2022 واستولى قائد المجلس العسكري الحالي الكابتن إبراهيم تراوري على السلطة.

وبالمثل أطاح قائد القوات الخاصة الكولونيل مامادي دومبويا بالرئيس ألفا كوندي في غينيا في سبتمبر 2021، معللًا ذلك بانتشار الفساد وتفشي الفقر وتدهور الأمن، وجاء ذلك بعد عام من تعديلات دستورية سمحت للرئيس بالترشح لولاية رئاسية ثالثة. وفي مالي أطاحت مجموعة عسكرية برئاسة عاصمي جويتا بالرئيس إبراهيم أبو بكر تيكا رفضًا لسياسات مكافحة الإرهاب وتردي الأوضاع الأمنية وانتخابات تشريعية متنازع عليها ومزاعم بالفساد في أغسطس 2020، وبعد مجيء الرئيس باه نداو رئيسًا مؤقتًا للبلاد تم الانقلاب عليه مرة أخرى في مايو 2021. 

وعلى الرغم من أن أغلب الأسباب المعلنة للانقلابات في أفريقيا متعلقة بسوء الإدارة والفساد وتدهور الأوضاع الأمنية، ورغم فشل المراحل الانتقالية والإخفاق في تحقيق الأهداف التي يتحركون من أجلها، إلا أن الأسباب الجذرية لا تنفصل عن الانقسامات العرقية والقبلية والسيطرة السياسية وفشل تقاسم السلطة منذ استقلال الدول بعد الاستعمار، وما يرتبط بالصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي عبر الانقسام العرقي والحزبي من صراع دولي على الموارد يغذي تلك العوامل، مما يوفر بيئة خصبة لاستمرار التدهور الأمني والاقتصادي والانقسام السياسي واستمرار تحديات الدولة المزمن في المنطقة. 

ترقب حذر

وفي أول رد فعل من الخارج، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن وزراء دفاع دول التكتل سيناقشون الموقف في الجابون، واصفًا ما يحدث في غرب أفريقيا بأنه مشكلة كبيرة لأوروبا. وفي روما، قالت الخارجية الإيطالية إنها تراقب تطورات الجابون ودعت مواطنيها هناك إلى توخي الحذر.

وأعلن الناطق باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران أن باريس “تدين الانقلاب العسكري الجاري حاليًا” في الجابون، مشيرًا إلى أن فرنسا “تراقب بانتباه شديد تطورات الوضع وتدعو لاحترام نتائج الانتخابات”. ووسط الترقب والإدانات الإقليمية والدولية للانقلاب، أعلنت شركة النفط الفرنسية توتال إنرجيز إنها حشدت جهودها لضمان سلامة موظفيها وعملياتها في الجابون، إذ لديها 350 موظفا في الجابون وهي الموزع الرئيس للمنتجات البترولية بالبلاد عبر 45 محطة وقود، وتمثل الجابون 0.6 بالمئة من إنتاج الشركة من النفط والغاز في عام 2022. على الجانب الآخر، أعلنت شركة التعدين الفرنسية “إراميت” تعليق عملياتها في الجابون، وتملك إراميت وحدة كوميلوج لإنتاج المنجنيز وتوظّف نحو 8 آلاف عامل في البلاد، وانخفضت أسهم الشركة بنحو 5% عقب قرار تعليق العمليات.

وحثت وزارة الخارجية البريطانية الرعايا البريطانيين في الجابون على البقاء في منازلهم وعدم المشاركة في أي مظاهرات أو أنشطة عسكرية، وقالت في بيان لها إن الدعم القنصلي محدود في الجابون ولكن المفوضية السامية في الكاميرون يمكن أن توفر الدعم القنصلي للمواطنين البريطانيين.

فيما نصحت السفارة الأمريكية في الجابون رعاياها بالبقاء في أماكنهم وتقليل التحركات خاصة وسط العاصمة وبمنطقة القصر الرئاسي، وطالبت السفارة في بيان لها المواطنين الأمريكيين في الجابون بوضع خطط لمغادرة البلاد وإبقاء وثائق السفر جاهزة. ودعت الخارجية الصينية الأطراف المعنية في الجابون “للعودة إلى النظام الطبيعي فورًا” وضمان سلامة الرئيس علي بونغو. وفي موسكو، قال الكرملين إنه يراقب الوضع في الجابون عن كثب، في حين قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية إن روسيا تتابع “بقلق” تلك التطورات.

وعلى المستوى الأفريقي، قرر مجلس السلم والأمن الأفريقي عقد اجتماع عاجل لترويكا بوروندي والسنغال والكاميرون لبحث التطورات في الجابون. وقال متحدث باسم رئيس نيجيريا إن عدوى الاستبداد تنتشر على ما يبدو عبر مناطق مختلفة من قارتنا، وأضاف المتحدث الرئاسي في بيان إن بلاده تعمل عن كثب مع رؤساء دول الاتحاد الإفريقي للتوافق على الخطوات التالية.

في النهاية يبدو أن صوت المدافع يعلو صوت الاقتراع في حالة من التراجع الديموقراطي في دول المنطقة، مع توظيف تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية وحالة الاستقطاب السياسية واستمرار الهيمنة والنزعة الأبوية، لإجراء تغييرات غير دستورية في السلطة، وهي حالة تفاقم من تدهور الوضع الإقليمي وتهيئ الساحة لمزيد من الاستقطاب والتنافس الدولي وتنامي الإرهاب، مع استمرار غياب الدولة عن المجتمعات المحلية واستمرار وتجذر العداء والعنف المجتمعي واستمرار ضعف الدولة المزمن، والبقاء في تلك الدوامة دون وجود وصفة حقيقية لحل معضلات الدولة الوطنية في إفريقيا. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى