استراتيجية العلاقات المصرية الأمريكية
استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم وفدًا موسعًا رفيع المستوى من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بالكونجرس الأمريكي، يضم السيناتور “ليندساي جراهام” عضو مجلس الشيوخ، والسيناتور “روبرت مينينديز” رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بالإضافة إلى عدد من مسؤولي وأعضاء اللجان بمجلسي النواب والشيوخ، بحضور سامح شكري وزير الخارجية.
شهد اللقاء تأكيد قوة ومتانة الشراكة الاستراتيجية الممتدة منذ عقود بين مصر والولايات المتحدة، والأهمية التي توليها الدولتان لتعزيز علاقاتهما على جميع المستويات الرسمية والبرلمانية والشعبية، لاسيما في ظل الواقع الإقليمي والدولي المضطرب وما يفرزه من تحديات متصاعدة، وأزمات عالمية في الغذاء والطاقة والتمويل، طال تأثيرها العديد من دول العالم.
كذلك شهد اللقاء حوارًا مفتوحًا بين الرئيس وقيادات الكونجرس الأمريكي، تطرق إلى سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين، لا سيما على الصعيد الاقتصادي وتعزيز استثمارات الشركات الأمريكية في مصر، حيث تمت الإشادة بجهود التنمية الشاملة الجارية في مصر، وخاصة على صعيد تحديث البنية التحتية وإنشاء المدن الجديدة، وكذلك في قطاعات البترول والغاز والطاقة المتجددة والخضراء، واستصلاح الأراضي الزراعية. وتناول النقاش جهود مصر في مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وتعزيز حقوق الإنسان، وإرساء مفاهيم وقيم التسامح الديني وثقافة التعايش ومبادئ المواطنة.
وعلى صعيد القضايا الإقليمية والدولية، تم التباحث حول العديد من الملفات، على رأسها الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية، وسبل تعزيز السلم والأمن الدوليين، إلى جانب المستجدات على الساحة الإقليمية وما تمر به المنطقة من أزمات، لا سيما في السودان وليبيا وسوريا، حيث تم التوافق حول أهمية الإسراع في التوصل إلى حلول سياسية لتلك الأزمات، بما يحافظ على وحدة الدول ويصون سلامة أراضيها ومقدرات شعوبها، مع تأكيد أهمية الدور المصري الإيجابي والحيوي في هذا الصدد.
كذلك تطرق اللقاء إلى تطورات المفاوضات الجارية حاليًا بين مصر وإثيوبيا والسودان، حيث أكد الرئيس موقف مصر بشأن الالتزام بالتوصل لاتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة يراعي مصالح وشواغل الدول الثلاث.
استراتيجية العلاقات المصرية الأمريكية
“إن مصر تحدثت بقوة عن الحرب في أوكرانيا، وكانت الوسيط الرئيس في غزة”، بهذه الكلمات وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الدور المصري الفاعل في الأزمات الدولية والإقليمية. فقد ارتبطت مصر والولايات المتحدة بعلاقات وثيقة وثابتة لم تتأثر بتغير الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تقوم على الشراكة القوية من أجل تحقيق الأهداف المشتركة. وللولايات المتحدة دورها الريادي في جميع القضايا العالمية والإقليمية، في حين أن مصر لها دورها المحوري في الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم الإسلامي. وبوصفها دولة مستقرة في منطقة محاصرة بالتوترات والصراعات، فإن لدى الولايات المتحدة قائمة طويلة من المصالح مع مصر تشمل:
تعزيز الأمن الإقليمي:
ترى الولايات المتحدة أن مصر تتبع سياسة خارجية نشطة جعلت منها عنصرًا فاعلًا على الأصعدة العربية والمتوسطية والأفريقية لا يُمكن تجاهله، إذ تتعاون الولايات المتحدة ومصر بشكل وثيق لتهدئة النزاعات وتعزيز السلام المستدام، بما في ذلك من خلال دعم الوساطة التي تقدمها الأمم المتحدة للمساعدة على إجراء الانتخابات في ليبيا، وإنهاء الصراع السياسي في السودان. وتشترك الولايات المتحدة ومصر في التزام لا يتزعزع بحل الدولتين المتفاوض عليه باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ودور مصر في التوسط في وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في مايو 2021، والجهود المصرية التي أفضت إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وإعادة الهدوء إلى قطاع غزة في أغسطس 2022، وإعلان مصر التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في مايو 2023.
كما تثمن الولايات المتحدة الجهود المصرية، في المبادرة المصرية الأردنية بتوصيل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية، إضافة إلى إقامة مصر علاقات وثيقة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وهناك أيضًا ما حققته الدبلوماسية المصرية في منطقة شرق المتوسط، في ضوء زيادة أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية، ومبادرتها في طرح فكرة وإنشاء منظمة غاز شرق المتوسط، التي تضم في عضويتها مصر والأردن وفلسطين وإسرائيل وإيطاليا وفرنسا وقبرص واليونان، وكلًا من الولايات المتحدة ودولة الإمارات كمراقبين.
التعاون العسكري:
تعد الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم، وتعد مصر كذلك القوة العسكرية العربية الرئيسة والأولى بالمنطقة، بما يعني أن التعاون العسكري المصري الأمريكي أمر ضروري للحفاظ على التوازنات الإقليمية، وهو شرط ضروري للاستقرار في المنطقة. وقد ساعد في ذلك أيضًا انضمام مصر في أبريل 2021، إلى القوات البحرية المشتركة التابعة للقيادة البحرية الأمريكية، وهي شراكة بحرية تضم 34 دولة لمكافحة الإرهاب ومنع القرصنة وتشجيع التعاون الإقليمي. وانطلاق فعاليات تدريب “النجم الساطع- 2023″، في الفترة من 31 أغسطس الجاري، وتستمر حتى 14 سبتمبر المقبل. ويعد تدريب “النجم الساطع”، أهم وأكبر المناورات المشتركة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يشارك فيه أكثر من 8 آلاف مقاتل من 34 دولة، مستهدفا تعزيز علاقات التعاون العسكري وبناء القدرات لمواجهة التهديدات والمخاطر المشتركة.
وقد سبق أن أجرت مصر والولايات المتحدة خلال الفترة من 2-16 سبتمبر 2021 مناورات النجم الساطع بقاعدة “محمد نجيب” في منطقة الساحل الشمالي، وشارك فيها 600 ضابط وجندي أمريكي، وأعقبها انعقاد الدورة رقم 32 للجنة التعاون العسكري بين البلدين، التي درست سبل تعميق الشراكة الاستراتيجية في المجال العسكري، وناقشت قضايا تأمين الحدود، والملاحة البحرية، ومكافحة الإرهاب، وخطط تحديث الجيش المصري. كما نفذت القوات البحرية المصرية والأمريكية تدريبًا بحريًا عابرًا بنطاق الأسطول الجنوبى بالبحر الأحمر خلال شهر يناير 2022، في إطار خطة الجيش المصري للارتقاء بمستوى التدريب وتبادل الخبرات. وجاء التدريب البحري المصري الأمريكي المشترك؛ بإشتراك الفرقاطة المصرية “الإسكندرية”، والمدمرتين(USS JANSON DUNHAM ) ،( USS COLE ) الأمريكيتين.
وتأتي المساعدات العسكرية الأمريكية في إطار أوسع للتعاون ولا يجوز اعتبارها هبة، وإنما هي جزء من صفقة متكاملة تخدم مصالح الطرفين، وحدث تآكل كبير للقدرة الشرائية لهذه المساعدات الثابتة قيمتها عند مبلغ 1,3 مليار دولار منذ الثمانينيات، والتي تُوجَّه لشراء الأسلحة والذخائر وصيانتها وتحديثها، والتدريب وتنمية مهارات أفراد القوات المسلحة. ففي عام 1978، شكلت المساعدات الأمريكية ما يقرب من 6.4٪ من “الناتج المحلي الإجمالي” لمصر، لكنها اليوم أقل من نصف في المائة.
وعلى الرغم من عمق العلاقات مع الجيش الأمريكي، تحركت مصر لتنويع مصادر أسلحتها منذ أن جمد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في 2013 تسليم مساعدات عسكرية لمصر بعد الإطاحة برئيسها الراحل محمد مرسي. وارتفعت واردات مصر من الأسلحة من روسيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفقا لبيانات من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
مكافحة الإرهاب:
يحتل هذا الملف أهمية خاصة في العلاقات الثنائية، لأولويته المتقدمة لدى البلدين، ولوجود توافق عام بينهما حول سبل مواجهة هذه الظاهرة. وتنظر الولايات المتحدة إلى استقرار مصر، على أنه مفتاح الاستقرار الإقليمي، وتحتفظ بشراكة أمنية لتعزيز القوات المسلحة المصرية وقدرتها على مكافحة الإرهاب. ولضمان هذه الغاية، زوّدت واشنطن القاهرة بالتدريب اللازم ومروحيات هجومية لمساعدتها في حملتها المستمرة منذ سنوات ضد الإرهاب في شمال سيناء، فضلًا عن التدريبات المشتركة التي تجرى بشكل مستمر.
ويسعنا أن نذكر في هذا الإطار، أن مصر ساعدت الحكومات الأمريكية المتعاقبة على اختراق الجماعات الإرهابية، مثل تنظيم “القاعدة”، وتنظيم “داعش”، من خلال الاعتماد على عملاء مخابرات مدربين تدريبًا جيدًا، وانتشار عناصر مصرية في الكثير من الجماعات المتطرفة الناشطة في الشرق الأوسط. وأجرى وزير الدفاع الأمريكي الدفاع لويد أوستن زيارة إلى مصر في 8 مارس 2023 لتعزيز أوجه العلاقات العسكرية مع مصر ومكافحة الإرهاب.
وتقدر الولايات المتحدة دور مصر في مكافحة الإرهاب وهو ما أكد عليه وفد الكونجرس الأمريكي الذي يزور القاهرة حاليًا، وأشار إلى الدور المصري الناجح والفاعل في تحقيق الاستقرار والأمن في مصر بعد النجاح في مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف وإرساء المفاهيم والقيم لحرية الاعتقاد، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي تتم داخل مصر لتحقيق التنمية الشاملة.
الأمن الاستراتيجي:
تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل من عام 1979، والتي تبقى حجر الزاوية للاستقرار في المنطقة. وكذا تشكل قناة السويس محورًا رئيسًا في المصالح الأمريكية لدى مصر؛ إذ تحتاج دائمًا واشنطن ضمان بقاء قناة السويس مفتوحة، سواء مجالها الجوي أمام الطائرات الأمريكية، أو كمجرى مائي للسفن العملاقة، وهو ما يحتاج ضمان أمن القناة، والبقاء على علاقات قوية مع القاهرة. وتتمتع السفن الحربية الأمريكية بتعامل تفضيلي في أوقات الطوارئ بقناة السويس، ويُسمح لها بتجاوز السفن المنتظرة على مدخل القناة، ودون المساعدة المصرية ستطول فترة العمليات الأمريكية في المنطقة.
مقاربات استراتيجية حاكمة
تعد العلاقات المصرية الأمريكية نموذجًا للعلاقة بين الأصدقاء والحلفاء التي تقوم على الشراكة القوية من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، والتي تتمثل في دعم الاستقرار والرخاء والازدهار في المنطقة عبر مجموعة من الأدوات، في مقدمتها: التحرك الاستباقي لمحاصرة ووأد الأزمات، ونشر ثقافة السلام والتعايش والمساواة وقبول الآخر، وكل يوم في العلاقات المصرية الأمريكية التي بدأت منذ مائة عام شاهد على ما لدى البلدين من عزم وإرادة سياسية لتعظيم المصالح المتبادلة سياسيًا واقتصاديا وثقافيًا، وهو ما أثمر عن الاكتشافات المبكرة للفرص والإمكانات الهائلة التي كانت وراء الاستجابة الكاملة لتطلعات البلدين، بما يعود بالنفع على الشعبين المصري والأمريكي.
الحوار الاستراتيجي: مثّل انعقاد النسخة الأخيرة من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر في نوفمبر 2021 فرصة للتعرف على وجهة نظر إدارة جو بايدن للعلاقات مع مصر. حيث أكدت واشنطن أهمية الدور المصري وحرصها على تعزيز العلاقات وتطويرها في كافة المجالات. ويمثل الحوار فرصة لإعادة تأكيد دور مصر كشريك حيوي للولايات المتحدة في المنطقة في. ويسهم الحوار في تقييم العلاقة بين البلدين في مجمل مناحيها، ومراجعة ما تم تحقيقه من أهداف تخدم مصالحهما، والاستفادة من التقييم المشترك لما تم إنجازه من نجاحات، سواء على صعيد إدارة العلاقات الثنائية، أو تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية، وأيضًا مجالات التباين في المواقف وفقًا للمتغيرات السياسية الراهنة التي تمر بها المنطقة بما يسمح ببلورة رؤية مشتركة تحدد مسار هذه العلاقة خلال السنوات القادمة.
سد النهضة الإثيوبي: جددت الولايات المتحدة تأكيد دعم الرئيس بايدن للأمن المائي لمصر، ودعت إلى استئناف المفاوضات حول اتفاقية بشأن سد النهضة وبرعاية رئيس الاتحاد الأفريقي. وأكدت إدارة بايدن على ضرورة تجنب النزاع في منطقة القرن الإفريقي وبذل المزيد من الجهد لمنع الصراع على السد. كما أكد الرئيس بايدن خلال لقائه الرئيس السيسي على هامش “قمة جدة للأمن والتنمية” بالسعودية في يوليو 2022، على دعم الولايات المتحدة للأمن المائي لمصر وإبرام تسوية دبلوماسية تحقق مصالح جميع الأطراف وتساهم في أن تصبح المنطقة أكثر سلامًا وازدهارًا.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتعامل مع عدد من القضايا المختلفة في الشرق الأوسط، إلا أن استعصاء هذا الصراع وما قد يجلبه من تداعيات خطيرة محتملة يُحتم على الإدارة الأمريكية أن تفعل كل ما في وسعها لدعم التوصل الى حل دبلوماسي. ومن ثم، فإن حدوث تصعيد إضافي الى جانب التوترات القائمة في القرن الأفريقي من شأنه أن يهدد المصالح الأمريكية ويقوض الملاحة الدولية في أحد أهم الممرات الملاحية الدولية في البحر الأحمر وقناة السويس، ويهدد الإمدادات النفطية للاقتصاد العالمي، ويخلق بؤرة جديدة لنمو الإرهاب.
التصدي لأزمة المناخ: رحبت الولايات المتحدة برئاسة مصر لقمة المناخ COP27 وتسريع الطموح العالمي والعمل على معالجة أزمة المناخ. وتدعم الولايات المتحدة ومصر التعهد العالمي بشأن الميثان (GMP) ومسار الطاقة الجديد المتعلق به، والذي انضمت إليه مصر فيما يتعلق بقطاع النفط والغاز. وتشارك الولايات المتحدة ومصر في قيادة الشراكة الجديدة بشأن التكيف في إفريقيا، والتي تركز على مبادرات ملموسة للمساعدة في بناء المرونة في مناخ متغير. وقد أعلنت الولايات المتحدة وألمانيا خلال قمة المناخ في شرم الشيخ COP27 عن أكثر من 250 مليون دولار لتسريع انتقال الطاقة في مصر من خلال نشر 10 جيجا واط من مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية الجديدة إيقاف تشغيل 5 جيجاوات من توليد الغاز الطبيعي غير الفعال.
تداعيات الحرب في أوكرانيا: أكدت مصر والولايات المتحدة على أن السلام والأمن والنظام متعدد الأطراف القائم على القواعد يقع في صميم شراكتهما طويلة الأمد. وتشترك مصر والولايات المتحدة في مخاوفهما خاصة بشأن العواقب العالمية الوخيمة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك سلاسل التوريد العالمية وأسعار الطاقة والسلع. على سبيل المثال، أدى حصار موانئ البحر الأسود إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي وفرض ضغوطًا اقتصادية كبيرة على مصر.