انقلاب الجابون.. الدومينو الذي يضرب الغرب الأفريقي
الجابون تلك الدولة التي تقع في وسط الغرب الأفريقي، استيقظ سكانها البالغ عددهم نحو 2.5 مليون نسمة صباح الأربعاء على أخبار استيلاء بعض من عناصر الجيش على السلطة، ومن ثم إصدار بعض القرارات ذات الارتباط بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلن عنها قبل قليل من هذه الأحداث. الانتخابات ونتائجها مثلت الشرارة لتدافع الأحداث، خاصة وقد أسفرت عن فوز الرئيس الحالي “علي بونجو” بفترة رئاسية ثالثة، بعد منافسة غير متكافئة شابها تحفظات عديدة من كثير من مكونات المعارضة، مع المرشح المنافس “ألبرت أوندو أوسا” وزير التعليم السابق الذي مثل ائتلافًا معارضًا بصورة مفاجئة قبل أسبوع واحد من تاريخ التصويت.
الرئيس على بونجو الذي كان يسعى لولاية ثالثة، تولى السلطة فترتين رئاسيتين منذ العام 2009 بعد وفاة والده عمر بونجو الذي حكم البلاد طيلة 41 عامًا. تعرض لمحاولة انقلابية سابقة في يناير 2019؛ عندما حاولت بعض من عناصر الجيش التمرد والانقلاب على بونجو، فيما كان الرئيس حينها في المغرب يتعافى من إصابة بالسكتة الدماغية، لكن الانقلاب فشل وتمكنت قيادات الجيش من السيطرة على الوضع. في الانتخابات الأخيرة التي جرت نهاية الأسبوع الماضي، كان لافتا خروج “رودريج مبومبا بيساو” وزير الاتصالات على شاشة التلفزيون الرسمي، ليعلن فرض “حظر تجوال” ليلي اعتبارًا من السابعة مساء وحتى السادسة صباحًا، بسبب دعوات العنف ومحاولات نشر معلومات مضللة بحسب ما ذكره الوزير، وهو ما استتبع قرارًا بتقييد الوصول إلى شبكة الإنترنت إلى أجل غير مسمى. وبدا أن العاصمة “ليبرافيل” كانت تتقلب على صفيح ساخن ومكتوم طوال أيام هذا الأسبوع، بل وهناك سباق خفي بين الرئيس على بونجو ودائرة حكمه حول خطوة إعلان نتائج الانتخابات بفوزه، وبين قادة عسكريين يرتبون صفوفهم سرًا، كي ينفذوا تحركًا ما في حال أعلن فوز بونجو كما كانت المؤشرات تذهب إليه بشكل كبير.
خلال هذا الأسبوع المشحون؛ تحدث الوزير المعارض أوسا علانية بأن هناك عمليات تزوير كبيرة أدارها معسكر بونجو قبل ساعات من إغلاق مراكز الاقتراع، بل وأكد فوزه بالانتخابات الإثنين الماضي داعيًا معسكر الرئيس بونجو لتسليم السلطة “دون إراقة دماء”! بعد وقت قصير من إعلان مركز الانتخابات؛ أن الرئيس علي بونجو فاز بفترة ثالثة في الانتخابات الرئاسية بعد حصوله على 64.27 % من الأصوات، في مقابل نسبة 30.77 % لصالح ألبرت أوندو أوسا منافس بونجو الرئيسي. خرج مجموعة من كبار ضباط الجيش الجابوني على شاشة التلفزيون (قناة جابون 24) في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، وأعلنوا استيلاءهم على السلطة وإنهاء النظام القائم، باعتبار أن الانتخابات العامة الأخيرة تفتقر للمصداقية وإن نتائجها باطلة. هذه المجموعة العسكرية أعلنت أنها تمثل جميع قوات الأمن والدفاع في الدولة، وقد أعلنت في بيانها حل مؤسسات الدولة منها الحكومة، ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، والمحكمة الدستورية ومركز الانتخابات، وإغلاق حدود البلاد حتى إشعار آخر.
قد تتجه الأنظار لاحقًا إلى العقيد “بريس كلوتير أنجيما” باعتباره لاعبًا رئيسًا في عملية الانقلاب، وهناك من داخل الجابون من يرجح أنه شخصيًا من خطط وقاد هذا التحرك الأخير استنادًا لمكانته داخل الجيش وتاريخه الوظيفي، الذي يضعه في بؤرة الحدث الذي داهم الرئيس بونجو ومنظومة حكمه. فالعقيد أنجيما هو قائد الحرس الجمهوري حيث تولى هذا المنصب منذ مارس عام 2020، ومنذ هذا التاريخ تطور نفوذه داخل الدائرة العليا الأكثر اقترابًا من أروقة الحكم، فالحرس الجمهوري هو تشكيل عسكري مستقل تابع لجهاز الدرك، ويتولى أمن وحماية الشخصيات الرسمية والمؤسسات العامة، ومنذ تدهور الحالة الصحية للرئيس على بونجو صار الحرس الجمهوري بمثابة التشكيلة الأمنية الأقوى في الجابون. وشغل العقيد بريس أنجيما منصب الملحق العسكري في سفارة الجابون بالمملكة المغربية، وبعدها لسنوات تولى ذات المنصب في سفارة بلاده بالسنغال قبل أن يتم استدعاءه لحصوله على ترقية بتولي قيادة الحرس الجمهوري.
نظرية “الدومينو” ليست بعيدة بالتأكيد عما جرى في الجابون؛ فلا يمكن استبعاد تأثر أحداثها وتفاعلاتها الداخلية بما جرى مؤخرا في النيجر، فهو نموذج أخير رغم أنه لم يحسم أمره كليًا بعد لكنه قادر على الإلهام على الأقل. إنما تظل “ليبرافيل” تحمل ملامح تفاعلاتها خصوصيتان تختلف عن “نيامي” بالنيجر، أولها طول مدة حكم عائلة “بونجو” التي استمرت “55 عاما” منها 41 عام شغلها الأب “عمر بونجو”، وبعده الابن علي الذي يبلغ من العمر 64 عامًا قضى ما يقرب من 14 عامًا منذ عام 2009، وإصراره على خوض سباق المنافسة للمرة الثالثة رغم تدهور حالته الصحية. الخصوصية الثانية تتمثل في الثروات الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها الجابون، المصحوبة بنسب غير قليلة من الفقر والتهميش لمواطني الجابون، لذلك باتت اتهامات الفساد مؤخرا تحتل مساحة كبيرة من الغضب الموجه لمنظومة الحكم العائلي وأعوانه من الوزراء والمقربين. فدولة الجابون توصف بأنها إحدى عمالقة النفط في أفريقيا وتحتل المرتبة الرابعة بإنتاج يقترب من “200 ألف برميل” يوميًا، حيث تحقق صادراتها السنوية 4.5 مليار دولار فيما تبلغ الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام 2 مليار برميل. وتنتج الجابون كذلك (450 مليون) متر مكعب من الغاز الطبيعي، فضلًا عن احتياطيات مؤكدة تتجاوز 25 مليار متر مكعب. وبجانب هذه الثروات من الطاقة ومشتقاتها؛ لدى الجابون وفرة من اليورانيوم والمنجنيز تصل بصادراتها السنوية إلى 6 مليار دولار.
هناك تشابه بارز بالطبع يجمع ما يجري في الجابون الآن، مع نظرائه من الانقلابات العسكرية الثمانية التي وقعت منذ العام 2020 في وسط وغرب أفريقيا، وهو الخسارة الفادحة التي يتكبدها التواجد الفرنسي الذي ظل لعقود هو الشريك الأول والأكبر لهذه الدول، متمثلًا في ارتباطات وثيقة مع أنظمة الحكم ودوائر الاستثمار ممتدًا إلى الشخصيات الفرانكفونية النافذة من نخب تلك البلدان. اليوم مكونات هذا التواجد تشهد تراجعات متسارعة، مصحوبة بتصاعد عدائي يجتذب أعداد كبيرة من المتحمسين الوطنيين، ويفسح في الوقت ذاته المجال أمام قادمين جدد يقرأون الأحداث ويرتبون أجنداتهم بهدوء، لميراث آمن لمستقبل تلك البلدان وثرواتها. وغير بعيد أيضا الترتيب الجيواستراتيجي لما ستؤول إليه الأوضاع في تلك المنطقة، فهي ساحة مهمة للتنافس الدولي لا يتصور أن تخلو من تفاعلات وسباقات مثيرة، على الأقل ستمتد لسنوات قادمة إن لم يكن أبعد.