ما بعد اتفاقية الحبوب.. جدوى الخطط الغربية البديلة عن صراع البحر الأسود لتصدير الحبوب الأوكرانية
عقب انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب التي كانت تضمن لأوكرانيا سلامة شحناتها من الحبوب عبر البحر الأسود إلى بقية دول العالم بعد الحرب، يحاول حلفاء أوكرانيا المساعدة في تخفيف تأثير الحصار الروسي الذي لا يزال مستمرًا على الموانئ الأوكرانية؛ وذلك من خلال محادثات تتم الآن بقيادة واشنطن بين تركيا وأوكرانيا وجيران كييف، والبحث عن طرق بديلة لتصدير الحبوب الأوكرانية قد تسير عبرها سفن تحمل أعلام دول الناتو، ما ينذر بزيادة التوترات داخل منطقة البحر الأسود حال قررت روسيا مهاجمة تلك السفن.
اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود
وُقعت الاتفاقية بين روسيا وأوكرانيا وتركيا بتيسير دبلوماسي من الأمم المتحدة وتركيا في إسطنبول في يوليو 2022، وذلك بعد أن فرضت روسيا حصارًا على الموانئ الأوكرانية منذ بداية الحرب، وهددت بمعاملة جميع السفن كأهداف عسكرية محتملة. وبسريان الاتفاقية، سُمح للمصدرين الأوكرانيين باستئناف شحن ملايين الأطنان من الذرة والقمح وزيت عباد الشمس وغيرها من السلع من ثلاثة موانئ حول مدينة أوديسا، بغض النظر عن الخطورة البالغة إذ تدعو الاتفاقية السفن إلى الإبحار في حقول الألغام في البحر الأسود.
وبموجب الاتفاقية، أُنشئ مركز تنسيق مشترك في إسطنبول يضم مسؤولين من الدول الثلاث إلى جانب ممثلين للأمم المتحدة، وكان يُطلب من هؤلاء المسؤولين فحص السفن المتجهة نحو أوكرانيا للتأكد من أنها لا تقوم بتهريب الإمدادات العسكرية، وبمجرد تحميل السفن للحبوب في أوديسا والموانئ الأخرى ومغادرة المياه الأوكرانية، تبحر السفن عبر طرق محددة في طريقها إلى مضيق البوسفور في تركيا، ثم إلى بقية العالم.
كان يُنظر إلى هذه الاتفاقية الدولية على أنها حاسمة لإبقاء أسعار الغذاء العالمية منخفضة، عقب التشوش الذي سببته الحرب. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن الحرب الروسية الأوكرانية تعد واحدة من الأزمات التي دفعت ملايين الأشخاص حول العالم إلى الاقتراب من الجوع في السنوات الأخيرة. وقد مكّنت الاتفاقية بالفعل أوكرانيا من تصدير 33 مليون طن من الحبوب والبذور الزيتية من موانئ البحر الأسود، ومنها حوالي 6 ملايين طن شهريًا العام الماضي في وقت الذروة، لتنخفض أسعار الغذاء العالمية بأكثر من 23%.
وبموجب شروط اتفاقية الحبوب، كانت الصفقة تجدد تلقائيًا كل 120 يومًا ما لم يقم أحد الموقعين بتفعيل شرط الخروج، ولكن وفقًا للأمم المتحدة، ونظرًا لتهديدات روسيا المستمرة بالانسحاب، توقفت العمليات حول ممر الشحن في البحر الأسود، مع عدم السماح لسفن جديدة بالدخول أو الخروج منذ 27 يونيو الماضي.
ما ترتب على انسحاب روسيا من صفقة الحبوب الأوكرانية
في يوليو الماضي، أعلنت روسيا انسحابها من الاتفاق بعد أن فشل الكرملين في مساومة الغرب بتخفيف الحصار على الموانئ مقابل رفع جزئي للعقوبات على روسيا، مما أدى إلى وَقف صادرات أوكرانيا من ثلاثة موانئ حول أوديسا، وبدء صراع متصاعد في البحر الأسود؛ فقد شنت القوات الروسية موجة من الهجمات عبر الصواريخ والطائرات بدون طيار على الموانئ الأوكرانية ومستودعات الحبوب على طول ساحل البحر الأسود، مما أدى إلى تدمير 60 ألف طن من المواد الغذائية، الأمر الذي يرى فيه الغرب أن روسيا تحاول “متعمدة” مهاجمة الإمدادات الغذائية العالمية والتسبب في أزمة جوع في الدول النائية، وبالفعل فقد تسبب الانسحاب الروسي من الاتفاقية بزيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 10% بعد فترة لا بأس بها من الاستقرار.
ومنذ انهيار مبادرة الحبوب، هاجمت روسيا المدن الساحلية الرئيسية في أوكرانيا، مثل أوديسا، وذلك بعد ساعات فقط من الانسحاب، وحذرت وزارة الدفاع الروسية من أن “جميع السفن التي تبحر في مياه البحر الأسود إلى الموانئ الأوكرانية ستعتبر ناقلات محتملة للشحنات العسكرية”. وفي المقابل، أعلنت أوكرانيا أن السفن المارة بالموانئ التي تحتلها روسيا بالبحر الأسود قد تُعتبر أنها تحمل شحنات عسكرية. ونفذت كييف كذلك هجمات ضد أهداف روسية، منها استهداف ناقلة نفط روسية في مضيق “كيرتش”، وإحدى السفن الروسية بالقرب من ميناء “نوفوروسيسك”.
مما يشير إلى تهديد أوكراني دائم لممرات الشحن الروسية ، بهدف خفض صادرات روسيا من النفط في المقام الأول، وإجبار شركات التأمين وأصحاب السفن على منع السفن من العمل على تلك الطرق، وحينها ستحتاج روسيا إلى طرق جديدة لتصدير نفطها إلى كازاخستان والهند والصين ودول البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا وبعض الدول النامية وبعض حلفاء أوكرانيا كبلغاريا ورومانيا، وقد تجبر كييف موسكو على إعادة توجيه الصادرات النفطية عبر بحر البلطيق، ما يعني خسارة حتمية لموسكو للعملاء بسبب طول مدة الشحن، وللربح أيضًا.
وبهذا أصبح طريق نهر “الدانوب” هو الوسيلة الوحيدة المتبقية لأوكرانيا لتصدير الحبوب عبر البحر الأسود، حيث تنقل السفن الصغيرة الحبوب في كثير من الأحيان إلى موانئ في رومانيا وبلغاريا وأماكن أخرى لشحنها إلى السوق العالمية. ولكن لم تسلم أوكرانيا من التهديدات الروسية بقطع طريق الدانوب، وتمت مهاجمة ميناء “إسماعيل” وميناء “ريني” النهري في وقت سابق من هذا الشهر، وتم اعتراض سفينة بطاقم تركي كانت متجهة إلى الميناء يوم 20 أغسطس.
خطة الغرب لفك الحصار الروسي عن الاقتصاد الأوكراني
تتضمن الخطة التي تدعمها الولايات المتحدة زيادة قدرة أوكرانيا على تصدير أربعة ملايين طن من الحبوب شهريا عبر “نهر الدانوب” بحلول أكتوبر المقبل؛ إذ سيتم إرسال الكثير من الحبوب عبر النهر وعبر البحر الأسود إلى الموانئ القريبة في رومانيا وشحنها إلى وجهات أخرى، هذا بالإضافة إلى مناقشة سبل تحسين كفاءة طريق “الدانوب” للسماح بمرور السفن الأكبر حجمًا، وإفساح المجال لوقوف السيارات، وزيادة عدد السائقين لنقل السفن عبر قناة رئيسية.
وعلى الرغم من أن هذا الطريق يعد أبطأ وعالي التكلفة، فإنه سيكون بديلًا جيدًا لممر الشحن على البحر الأسود الذي أُنشئ العام الماضي بموجب اتفاقية مع روسيا وتركيا والأمم المتحدة، مع العلم أن الجهود الرامية إلى زيادة القدرة التصديرية لأوكرانيا عبر نهر الدانوب تتم بالتوازي مع الجهود التركية والأمم المتحدة لإقناع روسيا بالعودة إلى صفقة الحبوب، ولكن هذا لن يحدث إلا بالاستجابة للشروط الروسية التي تقتضي إزالة الغرب لعوائق الصادرات الروسية من المواد الغذائية والأسمدة، والتي يرى فيها الغرب “ابتزازًا” لتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا.
وبموجب هذا التخطيط الغربي لإيجاد بديل لنقل الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، يمكن النظر إلى كيفية استعداد الولايات المتحدة وأوكرانيا والدول الأوروبية لسيناريو متوقع وهو “عدم موافقة روسيا على الانضمام إلى الاتفاق مجددًا” لنقل المحاصيل الأوكرانية في فصلي الصيف والخريف، كذلك الاستعداد لأي سيناريو محتمل قد يتضمن الهجوم الروسي على السفن الأوكرانية عبر الطريق البديل، حتى وإن وصل الأمر إلى البحث داخل الحلول العسكرية.
مبادرة الاتحاد الأوروبي لإنشاء “ممرات التضامن”
ستعتمد الخطة الغربية –بشكل جزئي- على مبادرة الاتحاد الأوروبي لإنشاء طرق برية وسكك حديدية وبحرية تعرف باسم “ممرات التضامن” أو الممرات الإنسانية، وهي ممرات تعانق الساحل الغربي للبحر الأسود بالقرب من رومانيا وبلغاريا؛ لجلب الحبوب والبضائع الأخرى من وإلى أوكرانيا بسلاسة قدر الإمكان.
وكان الاتحاد الأوروبي قد اعتمد على هذه الطرق في الأشهر الأولى من الحرب، فمع إغلاق طريق البحر الأسود بسبب الحرب، حوصرت 20 مليون طن من الحبوب في أوكرانيا قبل صيف 2022، ومن هنا، أطلقت المفوضية خطة عمل ممرات التضامن في مايو من نفس العام لإنشاء طرق لوجستية بديلة عبر السكك الحديدية والطرق والممرات المائية الداخلية، والتي مهدت الطريق أمام شركات النقل للعبور دون تصاريح بين أوكرانيا ومولدوفا والاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك الحين، استثمر الاتحاد الأوروبي بما يقرب من مليار يورو في مجموعة من مشاريع البنية التحتية لإنشاء ممرات تصدير أسرع وتسريع الإجراءات الجمركية.
وقد سمحت هذه الطرق التي تعد الخيار الوحيد لتصدير البضائع الأوكرانية واستيراد كافة السلع التي تحتاجها أوكرانيا بتصدير 44.4 مليون طن من الحبوب من أوكرانيا، بنسبة 60%، وهي أكثر بكثير مما حققته مبادرة حبوب البحر الأسود بنسبة 40%. وساعدت ممرات التضامن أيضًا في تصدير أكثر من 36 مليون طن من المنتجات غير الزراعية من أوكرانيا، وحققت حوالي 33 مليار يورو للمزارعين والشركات الأوكرانية. وفي غضون شهرين، قد تصبح مرات التضامن الخاصة بالكتلة بديلة لجميع طرق الحبوب في البحر الأسود في أوكرانيا، وقد تتمكن أوكرانيا حينها من تصدير 5 ملايين طن من الحبوب في المتوسط شهريًا إذا سارت الأمور بسلاسة.
ولكن لم تخلُ هذه الخطة من التعقيدات؛ فنظرًا لعدم احتواء بعض الطرق البرية على ما يكفي من الموظفين الموارد لإجراء الفحوصات الصحية والجمركية اللازمة على وجه السرعة على البضائع الواردة، فقد تسبب الأمر في تراكم وتأخير حركة مرور البضائع، وارتفاع أسعار النقل البري، وبالتبعية ارتفاع أسعار الحبوب الأوكرانية المصّدرة، فضلًا عن الخلافات بين أوكرانيا ورومانيا بشأن العمل الأوكراني لحفر قنوات الشحن في دلتا “الدانوب” لتسهيل مرور السفن المحملة بالحبوب، ولكن هذه الخلافات قد تم العمل على تسويتها.
” أعلام الناتو”.. خطة أخرى إما لتخفيف الحصار أو تصعيد الموقف
بالإضافة إلى المحاولات السابقة، تحاول أوكرانيا إنهاء الحصار الروسي ومحاولاته تقويض التجارة بين أوكرانيا وبقية الدول، وذلك من خلال دعوة السفن التي تبحر تحت أعلام الدول التي تعتقد أن روسيا لن تجرؤ على مهاجمتها إلى موانئها عبر المياه الدولية، وبالتالي جر الصراع إلى المسرح البحري والمخاطرة بتوسيع رقعة الحرب في مناطق أخرى.
وكما ذكرنا أنه بالفعل قد خرجت سفينة مملوكة جزئيًا لألمانيا وتركيا من أوديسا الأسبوع الماضي في طريقها إلى إسطنبول، وتم تفتيشها من قبل القوات الروسية في جنوب غرب البحر الأسود، وإطلاق ذخائر من الأسلحة الصغيرة على مقدمتها، وجرى تفتيش وثائق الطاقم وجوازات سفرهم، وإجبار القبطان على التوقيع على وثيقة تشهد بأنه “لم تحدث أي إصابات أو أضرار” نتيجة توغلهم، وكان من المقرر أن تقوم السفينة بنقل المنتجات الزراعية من أوكرانيا إلى ميناء روماني قبل التوزيع، لكن الشحنة لم تصل إلى وجهتها المقصودة.
وربما تأمل أوكرانيا أن يُنظر إلى الهجوم على سفينة ترفع علم أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي على أنه عمل عدواني، مما يؤدي إلى تفعيل المادة الخامسة من حلف شمال الأطلسي، والتي تنص على أن “الهجوم على أحد الأعضاء يعد هجومًا على جميع الأعضاء”، وبالتأكيد فإن التصعيد والصراع المباشر بين حلف شمال الأطلسي وروسيا هو أمر لا تريده موسكو، في حين أن أوكرانيا تتمنى بالطبع أن ترى تدخلًا مباشرًا من حلف شمال الأطلسي لمنع إصابة الاقتصاد الأوكراني بالشلل.
وقد تريد أوكرانيا أن يعيد التاريخ نفسه في الفترة بين عام 1984 إلى عام 1988، والتي جرى خلالها ما يعرف بـ “حرب الناقلات” خلال الحرب الإيرانية العراقية، عندما حاول الجانبان وقف تجارة النفط لبعضهما البعض من خلال مهاجمة الناقلات المتجهة إلى موانئ العدو والتي تحمل أعلام العديد من دول الناتو كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولكن حينها وبالرغم من الخسائر الفادحة في السفن، فإن شركات التأمين واصلت توفير التغطية بتكلفة متزايدة، ولم تحاول أي من دول الناتو التي تعرضت سفنها للهجوم تفعيل المادة الخامسة.
وبالرغم من تهديدات موسكو بأن قواتها البحرية قد تستهدف السفن التي تستخدم مراكز التصدير على البحر الأسود، فإن هناك سفينة شحن “جوزيف شولت” والتي تحمل علم “هونج كونج” قد غادرت بالفعل ميناء أوديسا بجنوب أوكرانيا، لتصبح أول سفينة تبحر من الميناء منذ 16 يوليو عبر الممر الإنساني الذي أنشأته كييف، وكانت تلك السفينة عالقة منذ فبراير 2022، وكانت تحمل أكثر من 30 ألف طن من البضائع، مع 2114 حاوية، بما في ذلك المنتجات الغذائية، وتعد السفينة الأعلى قيمة من بين 60 سفينة لا تزال عالقة في أوكرانيا منذ بدء الحرب، والتي تمثل 80% من الأسطول التجاري العالمي. ولعل “التقارب السياسي” بين الصين وروسيا هو الذي ساعد على الأرجح في تمكين هذه السفينة من المغادرة، ومن غير المعروف ما إذا كانت ستتبع بسفن أخرى.
وبتقييم الوضع الحالي، فإن مهاجمة الناقلات في البحر الأسود قد يجر حلف الناتو رسميًا إلى الصراع وقد تسيطر بروكسل على قرارها المصيري ولا تتخذه الآن، ولكنها في جميع الأحوال سيتعين عليها الرد على الاستفزاز الروسي، إما بتعزيز الدوريات في البحر الأسود باستخدام أصول الحلف البحرية الخاصة لردع أي أعمال عدوانية روسية في المستقبل، فضلًا عن توفير الأمن بشكل استباقي للسفن التجارية.
ومن هنا يمكن القول إنه بين تقلب الأدوار الهجومية والدفاعية في هذا الصراع، بالتأكيد سيصر الروس على أن الجهود الدفاعية لحلف الناتو في الأساس لحماية السفن المدنية من هجوم روسي غير مبرر تعادل التدخل الغربي في الحرب، وسوف تؤكد أصوات أخرى أن الغرب ليس لديه مصلحة أساسية في حماية تجارة الحبوب الدولية من أن تصبح رهينة لموسكو، وحينها سينبغي لحلف الأطلسي أن يسمح بقليل من “الابتزاز” الروسي ولكن دون تفريط، حتى لا تتهور موسكو وتدعو إلى أعمال القرصنة، وتعتقد بأنها قادرة على ترهيب شركاء أوكرانيا التجاريين، وبالتالي الإحساس بالنصر ولو قليلًا في هذه الحرب.