الانقسام التاريخي.. كيف يعاد تنشيط جهود وساطة الأمم المتحدة في قبرص؟
أصدر مجلس الأمن بيانًا في 20 أغسطس 2023 يندد باعتداء القبارصة الأتراك على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، إثر تصدي قوات حفظ السلام لمحاولتهم شق طريق يمر في المنطقة العازلة بين شمال وجنوب جزيرة قبرص التي تسيطر عليها الأمم المتحدة عن طريق قوات حفظ السلام؛ لمنع الاشتباكات بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين. وشدد مجلس الأمن على أهمية تراجع القبارصة الأتراك منعًا لانتشار الفوضى.
أما من جانب “جمهورية شمال قبرص التركية” غير المعترف بها، فإنها قد بررت الحادث بأن محاولة شق الطريق كان هدفها هو تسهيل الطرق للقبارصة الأتراك في المنطقة التي يسيطرون عليها وليس في المنطقة العازلة. ورفضت أيضًا تركيا –الحليف الأساسي لقبرص الشمالية- بيان مجلس الأمن واصفة إياه بـ”الانفصال عن الواقع”. وفي ظل تنديد الاتحاد الأوروبي الذي يضم في عضويته اليونان وجمهورية قبرص بالحادث وبموقف تركيا، بالإضافة إلى مناداة العديد من الدول، من بينها مصر، بتهدئة الوضع واللجوء للحلول الدبلوماسية، زادت التساؤلات عن قدرة الأمم المتحدة للتوصل لحل لهذا الانقسام التاريخي.
جهود الأمم المتحدة
لعبت الأمم المتحدة دور الوساطة في قبرص منذ الستينيات. وبعد تدخل تركيا في الصراع المدني في الجزيرة عام 1974، الذي أدى إلى انقسام قبرص بحكم الأمر الواقع بين القبارصة الأتراك في الشمال والقبارصة اليونانيين في الجنوب، أصبح الهدف النهائي للأمم المتحدة هو إعادة توحيد الجزيرة. لكن جهودها انحرفت منذ انهيار المحادثات بين الجانبين في سويسرا في عام 2017. وظل منصب المسؤول الأساسي في الأمم المتحدة عن محادثات إعادة التوحيد خاويًا منذ عامين تقريبًا. وفي تلك الفترة، ساءت العلاقات بين الطائفتين.
وتستمر حكومة جمهورية قبرص المعترف بها دوليًا في فرض القيود لعزل القبارصة الأتراك ــ ومن ناحية أخرى، أصبح قادتهم أكثر تشككًا في إعادة توحيد شطري الجزيرة. وفي غياب دفعة جديدة للتوصل إلى تسوية، فإن موقفي الطرفين قد يتشددان. وقد أعرب الجانب القبرصي الرسمي عن دعمه القوي لتعيين مبعوث جديد من الأمم المتحدة، فضلًا عن أن زعامة القبارصة الأتراك، من حيث المبدأ على الأقل، منفتحة على الفكرة أيضًا. وقد تشاور الأمين العام أنطونيو جوتيريش مع الجانبين بشأن هذه القضية مرارًا وتكرارًا منذ عام 2021، وأعطى مجلس الأمن دعمًا بالإجماع للاقتراح في 12 يوليو.
لكن هناك ثلاث عقبات رئيسة تعرقل جهود الأمين العام، إحداهما موضوعية، وتتعلق باختصاصات المنصب: إذ لا يستطيع طرفا الصراع الاتفاق على ما إذا كان ينبغي للشخص المعين أن يلتزم بالدبلوماسية بشأن الصيغ الحالية لإعادة التوحيد التي أقرها مجلس الأمن، أو ما إذا كان بإمكانهم تشجيع حلول بديلة، مثل التوصل إلى ترتيب يضفي الطابع الرسمي على السيادة القبرصية التركية. وتتعلق المشكلة الثانية بالمسمى الوظيفي الذي ينبغي أن يحمله الشخص المعين، حيث يعتقد الجانبان أن المسمى الوظيفي من الممكن أن يقيد ما قد يفعله الفرد في المحادثات المستقبلية.
والمسألة الثالثة الأكثر جوهرية هي أن أيًا من الطرفين لا يعتقد أن الطرف الآخر سوف يتفاوض بالضرورة بحسن نية حتى لو تم اختيار مبعوث. ورفض “جوتيريش” النظر في اختيار مبعوث ما لم يتمكن القبارصة اليونانيون والأتراك من حل مسائل الاختصاصات والمسمى الوظيفي. وهذا الافتقار إلى الحل يشكل وصفة للطريق المسدود مع استمرار تدهور العلاقات في قبرص. ويشرف الممثل الخاص للأمين العام كولن ستيوارت على قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص، وهو في الوقت الحاضر مسؤول عن مشاركة الأمم المتحدة مع الجانبين. ومع ذلك، فإن إطلاق محادثات إعادة التوحيد واسعة النطاق يتطلب تعيين مبعوث أعلى مستوى.
وكان الأمين العام “جوتيريش” يستكشف الخيارات لتعيين وسيط رفيع المستوى منذ عام 2021. وفي ذلك العام، عقد محادثات غير رسمية في جنيف مع مجموعة “5+1” (التي تضم قبرص والقبارصة الأتراك واليونان وتركيا والمملكة المتحدة) لأول مرة منذ أربع سنوات. وناقش هناك الاختصاصات المحتملة للمبعوث الجديد، والتي يمكن أن تشمل تطوير خارطة طريق من شأنها أن تؤدي إلى مفاوضات رسمية. ولم يسفر الاجتماع عن اتفاق على الشروط، لكن في سبتمبر 2021 استضاف الأمين العام للأمم المتحدة الرئيسين اليوناني والتركي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومع ذلك، لم ينجح الأمر؛ فقد خرج الجانبان من الاجتماع مدعين أن جوتيريش وافق على مواقفهما المتباينة بشأن دور المبعوث.
منذ هذا الاختلاف، لم يحرز “جوتيريش” أي تقدم آخر. وفي يوليو، شجعه مجلس الأمن على تعيين شخص “في أقرب وقت ممكن”. ومع ذلك، فقد أشار إلى أنه لا يستطيع القيام بذلك حتى يتوصل الجانبان إلى توافق في الآراء حول ما يستلزمه هذا الموقف.
عقبات في طريق الأمم المتحدة
يتعلق المصدر الأساسي للخلاف بين الجانبين بالصلاحيات التي ستحدد دور المبعوث. وكانت جمهورية قبرص أكثر صراحة في الدعوة إلى تعيين مبعوث جديد، لكنها تصر -كما فعلت في السابق- على أن يعمل المعين بشكل واضح على إعادة شطري الجزيرة إلى دولة واحدة، من خلال “اتحاد ثنائي المنطقة والطائفة مع المساواة السياسية” بما يتماشى مع قرارات مجلس الأمن. وقد تم تحديد هذه الرؤية لأول مرة من قبل الطرفين في المحادثات التي قادتها الأمم المتحدة في أواخر السبعينيات، ويؤكد مجلس الأمن على هذا المفهوم بشكل متكرر. على النقيض من ذلك، تقول القيادة المنتخبة في 2020 لـ “جمهورية شمال قبرص التركية” -غير المعترف بها- إن المفاوضات يجب أن تتحرك نحو “حل يقوم على دولتين تتعاونان مع بعضهما البعض” وأن أي مبعوث جديد يجب أن يكون لديه مجال للبحث عن حلول أخرى غير نموذج الاتحاد الفيدرالي ثنائي المنطقة والطائفة.
وتدعم الخلافات حول دور وأهداف مبعوث الأمم المتحدة الجديد مناقشة ثانية أكثر رسمية حول المسمى الوظيفي للمسؤول الأساسي المقترح. ويتفق الجانبان على أنه في حين تم تعيين أحدث وسطاء الأمم المتحدة الرئيسين على أنهم “مستشارون كبار” للأمين العام، فإن هذا اللقب قد تجاوز تاريخ انتهاء صلاحيته، نظرًا لارتباطه بجهود إعادة التوحيد الفاشلة السابقة. تود معظم الأطراف المهتمة أن يُعرف المعين الجديد باسم “المبعوث”. لكن ما هو نوع المبعوث بالضبط، يظل مصدرًا للخلاف. ويبدو أن القيادة القبرصية اليونانية تضغط من أجل تسمية الشخص المعين بـ”المبعوث الخاص للأمين العام”. وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن الجانب القبرصي التركي يفضل “المبعوث الشخصي للأمين العام”.
وتتعلق أهمية هذا الاختلاف الطفيف في الصياغة بحرية المبعوث في المناورة. ويعتقد الجانبان أن “المبعوث الخاص” سيكون ملتزمًا بقرارات المجلس السابقة بشأن قبرص، وبالتالي سيكون مرتبطًا بتحقيق اتحاد فيدرالي ثنائي المنطقة والطائفة. وهذا أمر مرغوب فيه بالنسبة لجمهورية قبرص، ولكن الجانب القبرصي التركي يرى أن ذلك يفرض قيودًا تؤدي إلى استبعاد النتيجة التي يفضلونها عن الطاولة. ويأمل القبارصة الأتراك ألا يكون “المبعوث الشخصي” “لجوتيريش” مقيدًا بالمثل، وأن يتمتع بقدر أكبر من الحرية لاقتراح طرق بديلة للمضي قدمًا، مثل استكشاف النماذج التي ترفع مكانة القبارصة الأتراك وتمنحهم المساواة في السيادة والمكانة الدولية المتساوية.
لكن يمكن أن يكون هذا الاختلاف في الدلالة أقل أهمية مما يعتقده الطرفان. إن كبار مسؤولي الأمم المتحدة معروفون بجميع أنواع الألقاب، وليس هناك رابط قوي وسريع بين لقب معين والحلول التي يمكنهم اقتراحها. وفي جميع الأحوال، وبغض النظر عما إذا كان مجلس الأمن قد أصدر قرارًا أم لا، فإن الأمين العام يظل ملزمًا أمام مجلس الأمن بشأن مسائل السلام والأمن، ولن يتمكن أي مسؤول كبير يخضع لجوتيريش ـ-بغض النظر عن منصبه- من تجاهل ثقل قرارات المجلس السابقة بشأن إعادة التوحيد.
تكمن وراء بعض هذه المخاوف اللغوية قضية ثالثة، وهي انعدام الثقة بين الجانبين. ويقول القبارصة اليونانيون إنه من الضروري استئناف المفاوضات عاجلًا وليس آجلًا. وعلى النقيض من ذلك، يشتبه القبارصة الأتراك وحلفاؤهم في أنقرة في أن استئناف المحادثات لن يؤدي إلى نتيجة مختلفة في غياب تغيير ملموس في العملية. ولذلك، فإنهم مترددون في إعادة الانخراط في عملية يعتقدون أنها لن تؤدي على الأرجح إلا إلى تجاهل دعواتهم للمساواة في السيادة والوضع الدولي المتساوي مرة أخرى.
ومع ذلك، لدى الجانبين أسباب لتقديم تنازلات فيما يتعلق بتعيين مبعوث والعودة إلى طاولة المفاوضات. حيث يشعر مسؤولو جمهورية قبرص بالقلق إزاء نفوذ أنقرة المتزايد في الشمال وتأثيره على آفاق التسوية، فإن العودة إلى المحادثات عاجلًا سيكون لها فوائد مهمة. وبالنسبة للقبارصة الأتراك فإن المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة تشكل المكان الوحيد البارز المتعدد الأطراف حيث يتم التعامل معهم على قدم المساواة مع جمهورية قبرص، الأمر الذي يمنحهم حافزًا قويًا للعمل مع الأمين العام.
دور الاتحاد الأوروبي
يزيد من تعقيد المناقشة حقيقة أن قادة جمهورية قبرص، بما في ذلك الرئيس نيكوس خريستودوليدس، أعربوا عن حماسهم لقيام الاتحاد الأوروبي بتعيين مبعوث خاص به لقبرص. لكن على الرغم من موافقة “خريستودوليدس” على الفكرة، فإن مسؤولين في بروكسل ونيويورك وشمال نيقوسيا وأنقرة اعتبروا أن إرسال مبعوث للاتحاد الأوروبي ليس فكرة مجدية في الوقت الحالي. ومن غير المرجح أن يقبل القبارصة الأتراك وتركيا ممثلًا للاتحاد الأوروبي وسيطًا محايدًا؛ نظرًا لأن اليونان وجمهورية قبرص عضوان في الاتحاد الأوروبي.
ويشعر البعض كذلك بالقلق من أن التعيينات الموازية لدبلوماسيي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة من شأنها أن تؤدي إلى ساحة لعب مزدحمة، وقد تؤدي إلى صراع على السلطة بين الاثنين. من جانبه، عرض الاتحاد الأوروبي، رغم أنه لم يتناول بشكل مباشر اقتراح تعيين مبعوث، “لعب دور نشط” في دعم العمليات التي تقودها الأمم المتحدة، وكان آخرها في اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي في 30 يونيو.
ومع ذلك، لا يزال يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يلعب دورًا مهمًا. أولًا، يمكنه تقديم الدعم الفني لهذه العملية. وفي الجولة الماضية من المفاوضات، عين الاتحاد الأوروبي “ممثلا شخصيًا لرئيس المفوضية لدى بعثة الأمم المتحدة للمساعي الحميدة”. واتباعًا لهذه السابقة، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفكر في تعيين مسؤول على مستوى أدنى لتقديم التوجيه بشأن مكتسبات الاتحاد الأوروبي، أو مجموعة الحقوق والالتزامات التي تشكل قانون الاتحاد الأوروبي، والتي يجب أن يتوافق معها أي اتفاق يتم التوصل إليه؛ نظرًا لأن جمهورية قبرص هي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
وسائل تساعد الأمم المتحدة في نجاح جهودها
إن النموذج الحالي لمشاركة الأمم المتحدة في قبرص لا يقود الصراع نحو الحل. ولكسر الجمود، يتعين على الأمين العام أن يسعى إلى تعيين مبعوث جديد لقبرص؛ لوضع خريطة طريق للمحادثات، مع تقديم الحوافز التي من شأنها أن تجتذب الجانبين للعودة إلى طاولة المفاوضات. ولتحقيق هذا الهدف، سيتعين على “جوتيريش” أن يأخذ في الحسبان خلفية المعينين المحتملين وجنسياتهم، وحل مشكلة التشتيت التي يسببها المسمى الوظيفي، وتحديد الاختصاصات التي يمكن لجميع الأطراف التعايش معها.
في تحديد هوية المبعوث، هناك عدد من المعايير التي ينبغي الوفاء بها:
أولًا، يجب أن يكون المبعوث شخصية تتمتع بخبرة ومكانة رفيعة بما يكفي لتكون قادرة على التعامل مباشرة مع القادة السياسيين في أنقرة وأثينا، الذين يتمتع الممثل الخاص للأمين العام ستيوارت بنفوذ محدود معهم.
ثانيًا، يجب أن تؤخذ في الاعتبار العوامل السياسية مثل الجنسية. فعلى سبيل المثال، من غير المرجح أن تقبل تركيا أي شخص من الاتحاد الأوروبي؛ إذ إن جمهورية قبرص واليونان من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. قد يكون من الأسهل التوصل إلى إجماع حول مبعوث من دولة محايدة في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا تتمتع بعلاقات جيدة بما فيه الكفاية مع كافة الأطراف المعنية.
ثالثًا، سوف يحتاج الأمين العام إلى إيجاد طريقة لحل مشكلة المسمى الوظيفي للمبعوث. قد تكون الإجابة الأسهل، والتي يبدو أنها ذات جاذبية، هي الاستغناء عن الصفات والاكتفاء بتسمية الشخص المعين بـ “المبعوث”. إذا فشل ذلك، فقد يكون من الممكن “لجوتيريش” طمأنة جمهورية قبرص بأن منح أي فرد لقب “مبعوث شخصي” لن يكون له تأثير مادي على دوره. ويمكن للأمين العام أيضًا أن يتوصل إلى عنوان بديل تمامًا. ربما يكون استخدام شيء مماثل لاسم “وسيط الأمم المتحدة” وهو مسمى جالو بلازا، أول مسؤول كبير في الأمم المتحدة يزور قبرص في ستينيات القرن العشرين، مفيد في الوقت الحاضر.
ختامًا، إن محاولات إنهاء انقسام تاريخي مثل هذا لن تكون سهلة بأي درجة، خصوصًا في ظل وجود الكثير من الأطراف المشاركة في هذا الصراع، كل طرف منهم يحمل أهدافه الخاصة، مما يصعب عملية الوصول لأرض مشتركة. لكن على الجانب الآخر مازال الوصول لحل لهذا الخلاف مصلحة مشتركة بين جميع أطراف الصراع، مما يعطي الأمم المتحدة فرصة لابد من استغلالها بأكبر قدر ممكن، وحتى إذا ثبت أن الاتفاق على مبعوث بهذه الولاية بعيد المنال في الوقت الحالي، فلا ينبغي لجوتيريش أن يستسلم، وينبغي له بدلًا من ذلك أن يشجع الأطراف على متابعة تدابير بناء الثقة، على أمل فتح المجال لعقد موعد في المستقبل. حيث أن أكبر أسباب عدم الوصول إلى اتفاق أو حل يرضي جميع الأطراف، إلى الآن هو عدم وجود ثقة كافية بين طرفي النزاع الأساسيين وحلفائهما.