روسيا

نحو بناء عالم مُتعدد الأقطاب….دلالات انعقاد مؤتمر موسكو للأمن الدولي

في ظل تغيرات جيوسياسة عالمية، وتأزم كبير يشهده العالم، فضلًا عن التغيير الجوهري في الوضع السياسي والعسكري في العالم، ومن أجل النقاش حول القضايا الأكثر إلحاحًا للأمن العالمي والإقليمي؛ جاء انعقاد مؤتمر موسكو للأمن الدولي في نسخته الحادية عشر في 15 أغسطس 2023، من أجل تشكيل وتعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب. وقد حضر المؤتمر أكثر من 800 مندوب من 76 دولة، ولم يكن هناك أي تمثيل للدول الغربية، بينما كان هناك حضور بارز من قبل الصين وإيران. وقد كان موضوع المؤتمر هذا العام هو التغيرات الأساسية في الوضع والسياسي والعسكري في العالم، وتسريع بناء وتوطيد نظام عالمي متعدد الأقطاب.

أهداف المؤتمر

مُنذ تأسيسه عام 2012، يعقد المؤتمر بشكل سنوي من قِبل وزارة الدفاع الروسية، ويهدف إلى تعزيز التفاعل بين الإدارات العسكرية في البلدان المختلفة، والبحث عن طرق مُشتركة لمواجهة التحديات والتهديدات الجديدة، من خلال تبادل وجهات النظر والآراء حول التهديدات العسكرية الراهنة، والسعي نحو تحسين نظام الحد من التسلح، فضلًا عن مناقشة التحديات الأمنية الدولية ذات الاهتمام المشترك وتبادل وجهات النظر بشأنها.

يُعقد المؤتمر بمشاركة وزير الدفاع الروسي، ووزراء الدفاع أو نوابهم من الدول المُختلفة، ويتم توجيه الدعوة لعدد من المنظمات الإقليمية والدولية، فضلًا عن ممثلي الأوساط الأكاديمية والخبراء غير الحكوميين.  وحتى عام 2014، كان يشارك في المؤتمر مندوبون من دول الناتو بانتظام.

وجرى العرف أن يوجه الرئيس الروسي رسالة ترحيب للمشاركين في المؤتمر. وفي رسالته للمؤتمر هذا العام، قال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إن كل بؤر التوتر في مناطق العالم ناتجة عن مغامرات جيوسياسية وأنانية وأعمال استعمارية جديدة للغرب.

أبرز القضايا 

لمؤتمر موسكو أهمية كبيرة مُنذ تأسيسه؛ كونه يُناقش قضايا ذات أهمية كبيرة. على سبيل المثال، في النسخة الأولى من المؤتمر في مايو 2012 تم التطرق إلى موضوع ” أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ نحو تشكيل فضاء أمني جديد” وحضره ممثلون من 50 دولة من بينهم وزير الدفاع الأمريكي. وتمت مناقشة مشاكل الدفاع المضادة للصواريخ، وتقييم مخاطر انتشار تقنيات الصواريخ، وتحديد مجالات التعاون بين الدول المُختلفة في هذا المجال.  

ويناقش المؤتمر كذلك الأمور المُتعلقة بمراقبة الأسلحة التقليدية في أوروبا. ويعمل على تعزيز الأمن العالمي وحل الأزمات الإقليمية في مناطق العالم المختلفة، وخاصة الأزمات الراهنة، الأمر الذى دعا الأمين العام للأمم المتحدة في 2014 للقول بأن المنتدى مفيد لتبادل وجهات النظر حول الأزمات الحالية والناشئة وذلك عندما ركز المؤتمر في هذا العام على قضايا تخص الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان، وكذلك الاهتمام بظاهرة الثورات “الملونة” حينذاك.

ويُناقش المؤتمر أيضًا قضايا الأمن العالمي والتحديات وتهديدات الكيانات الإرهابية واَفاق التعاون العسكري والسياسي لضمان الاستقرار الإقليمي والعالمي، وتعزيز التعاون والثقة بين الدول في مجالات مكافحة الإرهاب، وتجارة الأسلحة غير المشروعة. ويُناقش القضايا الأكثر إلحاحًا للأمن العالمي، بما في ذلك توازن القوى في مجال الاستقرار الاستراتيجي، ومخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتهديدات الأمن السيبراني، بالإضافة إلى تدابير مواجهة الأمراض والأوبئة.

هذا وتأتي أهمية المؤتمر هذا العام 2023 من منظور العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، حيث أوضح وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” أن  العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا قد وضعت حدًا لهيمنة الغرب في المجال العسكري. فضلًا عن أن حضور وزير الدفاع الصيني ووزراء دفاع من دول أفريقية وآسيوية عِدة للمؤتمر هو دليل على أنه لا توجد هناك عزلة لروسيا، ويبين كذلك رغبة دولية في إنهاء الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي. 

كلمة الرئيس بوتين

في رسالة تم بثها خلال المؤتمر، تضمنت كلمة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” التأكيد على أن المجتمع الدولي يقف على أرضية واحدة وعلى قدم المساواة من أجل وضع ملامح للمستقبل في ظل عالم مُتعدد الأقطاب، وأن على الدول جميعها الاستعداد للدفاع عن سيادتها ومصالحها الوطنية وتقاليدها وثقافتها ونمط حياتها، مع أهمية تعزيز المراكز الاقتصادية والسياسية، وحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية؛ لتحسين نوعية الحياة والرفاهية لملايين الناس.

وحذر “بوتين” من تضخم الصراعات القديمة في مناطق مختلفة من العالم، وأن إشعال وتغذية الصراعات يعني الاستمرار في الماَسي الإنسانية، وإجبار الدول على الانصياع والرضوخ داخل النظام الاستعماري الجديد واستغلال مواردها بلا رحمة. وهاجم الدول الأعضاء في “الناتو” موضحًا أن عملهم على تحديث قدراتهم الهجومية، ومحاولاتهم نقل المواجهة العسكرية إلى الفضاء الخارجي وفضاء المعلومات، واستخدام وسائل الضغط العسكرية وغير العسكرية؛ سيؤدي إلى تدمير نظام الحد من التسلح.

واتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تسعى إلى إعادة تشكيل نظام التفاعل بين الدول الذي تطور في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لنفسها. وأن الترويج لما يسمى باستراتيجيات المحيطين الهندي والهادئ يهدف إلى إنشاء روابط عسكرية سياسية تسيطر عليها واشنطن.

واتهم الغرب وواشنطن بالعمل على تأجيج بؤر التوتر الساخنة في مناطق مختلفة من العالم، وأن كل تلك التحديات ناتجة عن مغامرات جيوسياسية وأنانية وأعمال استعمارية جديدة للغرب، مُحملًا الغرب المسؤولية عن انهيار الدولة الليبية بعد أن أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها العنان للعدوان على ليبيا، الأمر الذي أدى إلى تعرض دول منطقة الساحل والصحراء مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي لهجوم مباشر من مجموعات إرهابية عديدة.

وألقى “بوتين” بالمسؤولية على السياسة الغربية والأمريكية في استمرار أمد الحرب الأوكرانية، موضحًا أن سياسة إضافة الوقود إلى النار من خلال ضخ مليارات الدولارات للنازيين الجدد –في إشارة إلى النظام الحاكم في كييف- وتزويده بالمعدات والأسلحة والذخيرة، وإرسال مستشاريهم العسكريين والمرتزقة؛ يؤدي إلى إشعال الصراع أكثر ، وجذب الدول الأخرى إليه.

دلالات ورسائل 

يحمل مؤتمر موسكو للأمن الدولي هذا العام عدة دلالات ورسائل مهمة، منها:

تعزيز مكانة روسيا: تهدف روسيا من خلال هذا المؤتمر إلى تعزيز مكانتها وأهميتها كقوة عالمية مؤثرة في النظام الدولي، وتعزيز دورها  كمنصة حوار  إقليمية ودولية. وكذلك تريد روسيا إرسال رسالة للغرب بأن العقوبات الغربية عليها لم تؤدِ إلى عزلها، وإنما ستعتمد على شركائها الدوليين.

التأكيد على مكانة الدول النامية:  من خلال التصريحات المختلفة لممثلي الدول الحاضرين للمؤتمر، يتبين أن هناك رغبة جماعية في وضع حد للهيمنة الغربية، ويتبين أن قدرة الغرب على فرض مصالحه في مناطق مختلفة من العالم قد تقلصت بشكل كبير، وأن التغييرات الجارية زادت من دور دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في النظام العالمي. وليبين كذلك عن رغبة دولية في إنهاء الهيمنة الأمريكية والغربية على النظام الدولي.

مشاركة الصين: تعكس مشاركة وزير الدفاع الصيني وزيارته أيضًا إلى بيلاروسيا تأكيد التعاون الاستراتيجي الروسي الصيني؛ إذ حذر “لي شانغفو” من “اللعب بالنار” عندما يتعلق الأمر بتايوان في رسالة مُبطنة للولايات المتحدة الأمريكية، وأوضح إن محاولات “استخدام تايوان لاحتواء الصين” ستنتهي بالفشل. وأعلن استعداد بلاده على تعزيز العمل الأمني داخل منظمة شانغهاي للتعاون، وكذلك العمل مع الأعضاء الجدد في المنظمة مثل إيران وبيلاروسيا. وفي سياق المؤتمر، فإن كلمة وزير الدفاع الصيني خلاله تؤكد متانة الشراكة الروسية الصينية خاصة في المجال العسكري، حيث يجري البلدان مناورات عسكرية مشتركة برية وبحرية وجوية بصورة متكررة، فضلًا عن التنسيق في العديد من القضايا الاستراتيجية. 

الحضور الإيراني: شاركت إيران في المؤتمر من خلال رئيس هيئة الأركان العامة الإيرانية “عزيز نصير زاده”، وذلك على رأس وفد رفيع من الجيش الإيراني، ودعا “زاده” في كلمته إلى ضرورة مواجهة النزعة الأحادية للولايات المتحدة. وهذا المؤتمر كان بمثابة فرصة لإيران لشرح وجهة نظرها تجاه القضايا الإقليمية ومناقشة آليات تعزيز التعاون الأمني مع روسيا. وأرادت إيران كذلك إيصال رسالة مفادها أنها مُستمرة في دعمها لروسيا، خاصة مع الدعم الكبير الذي قدمته لها في الحرب في أوكرانيا.  

في الأخير، من خلال مؤتمر موسكو للأمن الدولي في نسخته الحادية عشرة، أرادت روسيا إيصال رسالة مفادها بأن هناك فرصة كبيرة لتقليل والحد من المواجهة على المستويين العالمي والإقليمي، وتحييد التحديات والمخاطر، وتعزيز الثقة بين الدول وفتح فرص واسعة لتنميتها من خلال إرساء نظام عالمي مُتعدد الأقطاب يقوم على احترام قواعد ومبادئ القانون الدولي وسيادة الدول.

أحمد السيد

باحث ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى