إلى أي مدى ستتطور النزاعات في مياه بحر الصين الجنوبي؟
اتهمت الفلبين لخفر السواحل الصيني في 5 أغسطس 2023 بارتكاب أعمال “غير قانونية” و”خطيرة” ضد زوارق خفر سواحلها في بحر الصين الجنوبي التي كانت مرافقة لسفن تحمل إمدادات لجنود فلبينيين متمركزين في جزر “سبراتلي”. وتمثلت هذه الأعمال في إطلاقهم خراطيم المياه على زوارقها. ووقد استدعت مانيلا السفير الصيني “هوانغ” في 7 أغسطس وسلّمته مذكرة تتضمن صورًا ومقطعًا مصورًا بشأن ما جرى، معلنة أنها “لن تتخلى أبدًا” عن جزيرة “ايونغين” الصغيرة المتنازع عليها مع بكين في بحر الصين الجنوبي.
ويعود هذا الصراع إلى سبعينيات القرن الماضي، بين الصين من ناحية وبروناي وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام من ناحية أخرى، حيث بدأت البلدان في المطالبة بجزر ومناطق مختلفة في بحر الصين الجنوبي، بعد أن نشرت الصين، في عام 1947، خريطة تفصيلية تبين أن سلسلتي جزر “باراسيل” و”سبراتلي” تقعان ضمن حدودها بالكامل. وعليه، تتنازع الصين مع فيتنام على جزر “باراسيل” في صدامات متعددة بين البلدين، أبرزها عام 1974 و1988، ومن جهة أخرى تتنازع الصين مع الفلبين وتايوان وماليزيا وفيتنام وبروناي على جزر “سبراتلي”، التي تمتلك موارد طبيعية غنية ومناطق صيد الأسماك في بحر الصين الجنوبي.
التحركات الصينية في المنطقة
التحركات السياسية: في صدد شبكة التحالفات التي تقيمها الولايات المتحدة مع دول المنطقة ومنها تايوان والفلبين، ترى الصين هذه التحالفات تهديدًا لها، وعليه، تقوم بخلق الحوار الذي مفاده أنها تحالفات استفزازية وتعمل على زعزعة المنطقة. ليس هذا وحسب، بل تجد أن الوجود الأمريكي في المنطقة هو تحدٍ لمطالبها، ما يجعلها غير قادرة على تحقيقها بقدر ما ترغب. لذلك، تقوم الصين بالعديد من المحاولات التي تمكنها من الحفاظ على سيطرتها ونفوذها في منطقة بحر الصين الجنوبي من خلال التصدي لأي دولة في وسعها مواجهتها أو تعزيز التعاون السياسي بينهما. هذا بعد أن أوضحت بكين مطالبتها بالمنطقة البحرية الحرجة مع “خط القطاعات التسعة” الذي يقطع المناطق الاقتصادية الخالصة، في بروناي وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام.
في إطار هذه المحاولات، بدأ وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” في 10 أغسطس جولة لبعض دول رابطة جنوب شرق آسيا “الآسيان” وهي سنغافورة وماليزيا وكمبوديا، مع تصاعد التوترات بين بكين ومانيلا في بحر الصين الجنوبي. وعليه، هدفت هذه الزيارة إلى تعزيز الاتصالات والعلاقات الاستراتيجية مع الدول الثلاث من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي؛ إذ تتطلع بكين إلى تسوية الخلافات مع الدول الجزرية المجاورة، وسط التنافس المتزايد مع الولايات المتحدة.
ليس هذا وحسب، بل استغل وزير الخارجية الصيني هذه الزيارات للإعراب عن استعداد الصين لحل الخلافات مع الفلبين من خلال الحوارات الثنائية والعمل بسرعة معها بحثًا عن وسيلة فعالة للسيطرة على الوضع في بحر الصين الجنوبي، آملاً في أن يلتزم الجانب الفلبيني بالتوافق الذي تم التوصل إليه في الماضي. إضافةً إلى ذلك، كان “وانغ” حريصًا على تسريع نسخة بكين من مدونة قواعد السلوك للممرات البحرية الدولية المتنازع عليها وركز على “الدول الصديقة” في “الآسيان”، وذلك من خلال دعم النوايا الحسنة الصينية مع شركاء أكثر مرونة في رابطة “الآسيان” التي تضم 10 دول، كونه أمرًا أساسيًا، وفي الوقت نفسه، عزل الدول ذات الميول الغربية مثل الفلبين وفيتنام اللتين لا تزالان ترأسان هذا الصراع في بحر الصين الجنوبي، على الرغم من المحاولات الصينية في تحويلهما إلى حلفاء من خلال تحركاتها الاقتصادية نحوهما.
التحركات الاقتصادية: قامت الصين بطرح مبادرات عديدة للتعاون مع الدول المطلة على البحر في مشروعات الطاقة والأسماك والبنية التحتية، وكان من أهم هذه المبادرات هي محاولاتها تحويل فيتنام والفلبين إلى حلفاء. هذا ومن خلال إصدار الصين وفيتنام بيانًا مشتركًا، في نهاية العام الماضي، حول تعزيز وتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما. وعليه، تتضمن الوثيقة خطة لتسريع التعاون بين مبادرة الحزام والطريق الصينية وإطار عمل الممرين والدائرة الواحدة في فيتنام. هذا وفي زيارة للرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس إلى بكين في يناير لهذا العام، قام بتوقيع أكثر من 10 اتفاقيات في إطار مبادرة الحزام والطريق، مع مشاريع استثمارية تعاونية في الزراعة والثروة السمكية والبنية التحتية والتمويل والجمارك والتجارة الإلكترونية والطاقة المتجددة ومعالجة النيكل والسياحة. ليس هذا وحسب، بل قررت الصين والفلبين استئناف المفاوضات حول تطوير النفط والغاز.
التحركات العسكرية: تسعى الصين إلى إنشاء منطقة “حماية بحرية” في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ فقامت بتحويل الشعاب المرجانية هناك إلى جزر اصطناعية، ثم إلى قواعد عسكرية، ما كان موضع خلاف كبير مع اليابان. ليس هذا وحسب، بل تحاول إنشاء “منطقة دفاع بحري موحدة” تمتد من البحر الأصفر إلى بحر الصين الشرقي والجنوبي. وذلك ليخدم الغواصات النووية الصينية ويمكنها من تحقيق إمكانياتها الكاملة في الهجوم المضاد والسماح بتقدم حاملات الطائرات.
وبعض هذه التدريبات يعود إلى يناير من هذا العام والتي قامت فيها حاملة الطائرات الصينية “شاندونج” بإجراء مجموعة من “تدريبات المواجهة” في بحر الصين الجنوبي والتي تحاكي عمليات قتال واقعية، وذلك باستخدام عدة أنواع مختلفة من السفن وعشرات الطائرات الحربية، هذا وبعد أن دخلت مجموعة حاملة الطائرات الأميركية الضاربة “نيميتز” إلى المنطقة. وكان آخر تحركات الصين في المنطقة هو إطلاق سفينة حرس السواحل الصينية في بحر الصين الجنوبي النار على سفينة الإمداد الفلبينية عند توماس شول الثانية، الشعاب المرجانية المغمورة التي تقع في جزر “سبراتلي” المتنازع عليها.
خريطة الصراع الحالي
مثل الصين التي تحاول بناء علاقات مع دول المنطقة، تعقد الولايات المتحدة تحالفات عسكرية مع أكثر من 5 دول لديها خلافات حدودية مع بكين؛ لاستمرار هيمنتها على المحيطين الهندي والهادئ. هذا ما زاد من زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بسبب رغبة بكين في السيطرة على المنطقة ومجابهة النفوذ الأمريكي والغربي فيها. ليس هذا وحسب، بل كانت الولايات المتحدة تسعى، في يونيو من هذا العام، لعلاقات أوثق مع الهند في بحر الصين الجنوبي، وشددت الدولتان على الالتزام بالقانون الدولي في التصدي للتحديات التي تواجه النظام البحري القائم على القواعد، بما في ذلك، بحر الصين الجنوبي.
هذا وقد قامت الفلبين، في فبراير 2023، بتوسيع تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة ووافقت على تعاون أوثق مع اليابان، ويظهر توطيد هذه العلاقات في مساندة الولايات المتحدة لها في موقفها الحالي ضدها. بشكل عام، يتسبب سلوك الصين المتعنت في بحر الصين الجنوبي في فقدان نفوذها في المنطقة حيث تتجه البلدان نحو الولايات المتحدة، وهو ما يهدد دفاعها عن سيادتها ووحدة أراضيها. ليس هذا وحسب، بل تتوسع الولايات المتحدة في خلق شبكات دفاع أوسع تشمل أيضًا اليابان وأستراليا اللتين لا يتوسعان في إنفاقهما العسكري وتعاونهما في فراغ. وعليه، قامت الولايات المتحدة بتوقيع اتفاقية الأمن العام للمعلومات العسكرية مع اليابان والهند وكذلك معاهدة “أوكوس” مع المملكة المتحدة وأستراليا والتي تهدف إلى تعزيز القدرات البحرية الأسترالية بشكل كبير من خلال الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية.
وفي حين أن النزاع الإقليمي الأخير يدور بين الصين والفلبين، تقوم الدول الأخرى التي تقدمت بمطالبات إقليمية في بحر الصين الجنوبي بمراقبة عن كثب كيفية تعامل بكين مع التوتر مع مانيلا. وعليه، نجد أن دولًا مثل ماليزيا وفيتنام لديها أيضا سفن تحتاج إلى إعادة إمداد في أجزاء من بحر الصين الجنوبي، وبالتالي فإن المواجهة في جزر “سبراتلي” تخلق سابقة لهم وتعزز انعدام الأمن. وبصرف النظر عن ذلك، فإن سلوك بكين في بحر الصين الجنوبي قد يقلل من فرص الدول الأعضاء في “الآسيان” في التوصل إلى توافق مع الصين في الآراء بشأن مدونة قواعد السلوك التي طال انتظارها لبحر الصين الجنوبي، والتي تشرف عليها حاليًا إندونيسيا كونها تترأس رابطة دول “آسيان”.
المشهد التالي
وضعت حملة الصين الفلبين في موقف صعب، وتتخذ الحكومة الفلبينية حاليًا مقاربة للإعلان عن التجاوزات الصينية على أمل حشد الدعم الدولي لموقفها، وهناك بالتأكيد المزيد من السبل القانونية التي يمكن أن تتبعها. لكن أي محاولة أكثر قوة لإعادة إمداد السفينة، ربما بدعم من الولايات المتحدة أو شركاء آخرين، تنطوي على خطر إثارة تصعيد، خاصةً وأن الأخيرة على خلاف بشأن ملفات شتى مع الصين، وخاصةً في هذه المنطقة.
ومما يزيد الوضع تعقيدًا حقيقة أن “سييرا مادري”، السفينة الحربية الفلبينية، في حالة متقدمة من الاضمحلال والتي من المتوقع أن تستسلم للعوامل الجوية. لهذا، إذا ومتى تتفكك السفينة، يبقى من غير الواضح ما يمكن أن تفعله الفلبين للحفاظ على موطئ قدمها على المياه الضحلة. وتشكل التكتيكات القاسية للصين على نحو متزايد خطرًا على طموحات الفلبين في المنطقة، مما قد يشكل، بدوره، خطرًا على مطالب الدول المجاورة في المنطقة المتنازع عليها، وذلك إذا تمكنت الصين من السيطرة على موطئ قدم الفلبين في بحر الصين الجنوبي.
هذا وعلى غرار المراقبات التي تقوم بها الدول المحيطة، يكون الصراع بين الصين والفلبين بمثابة مؤشر لأي توتر محتمل بين أي من هذه الدول والصين في المستقبل في المناطق المتنازع عليها. وعليه، قد يكون وقوف الفلبين بقوة أمام الصين من شأنه أن يدفع هذه الدول للاتجاه نحو اتباع النهج نفسه، مما قد يخلق تحالفًا قويًا ضد الأخيرة قادرًا على وضع هذه المدونة وتطبيقها.
ومن الممكن كذلك أن ترتفع التوترات في بحر الصين الجنوبي إلى مستويات كبيرة تؤدي في الواقع إلى اشتباكات بين القوات الصينية والفلبينية، لكن الاشتباكات لا تؤدي بالضرورة إلى الحرب، والتي لا تأتي في مصلحة أي من البلدين.
وعلى غرار التوترات القائمة على الساحة العالمية، من المتوقع أن تقوم دول أخرى بالتدخل من جانب الصين مثل كوريا الشمالية. وعلى الرغم من أن روسيا حليف مهم للصين أيضًا فإنها ليس من المتوقع أن تنغرس في توتر آخر لانشغالها بالحرب في أوكرانيا.. وعليه، من الممكن أن يكون هذا التوتر بين الفلبين والصين أحد الملفات المهمة في الصراع الصيني الأمريكي بمنظوره الشامل.
ختامًا، تعد التوترات في بحر الصين الجنوبي بابًا لتشابك العديد من ملفات الخلاف بين الصين والولايات المتحدة خاصةً وأن الأخيرة تساند وتبني علاقات وطيدة مع العديد من دول المنطقة، مما يزيد من قلق الصين بشأن مصالحها في منطقة بحر الصين الجنوبي. وقد تزيد تلك الممارسات من حدة التوتر بين الدولتين لا سيّما مع التصعيد القائم في ملفات مثل تايوان وكوريا الجنوبية والحرب التكنولوجية وغيرها.