اشتباكات طرابلس.. السلاح يكشف الحقيقة دائمًا!
في ساعة متأخرة من مساء الإثنين الماضي؛ اندلعت اشتباكات عنيفة بين “قوة الردع الخاصة” وعناصر “اللواء 444″، عقب احتجاز الأولى العقيد “محمود حمزة” آمر اللواء 444 في مطار معيتيقة بطرابلس، قبل وقت سابق من اليوم ذاته. بعد مضي ساعات معدودة وخلال نهار الثلاثاء، وصلت حصيلة الضحايا إلى 27 قتيل و110 مصاب من الجانبين، بعد أن شهدت الاشتباكات استخدام الأسلحة المتوسطة وراجمات الصواريخ، فضلًا عن الانتشار الكثيف للقوات التابعة لـ”اللواء 444″ الذي أعقب استهداف نقاط الارتكاز والحواجز الأمنية من قبل قوات الردع، هذا فتح الباب أمام رغبة كل طرف في إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالطرف الآخر، ومهد الطريق أمام نزول الآليات الثقيلة والدبابات إلى شوارع العاصمة طرابلس.
قوات الردع الخاصة تابعة للمجلس الرئاسي، فيما يمثل “اللواء 444” أهم وأكبر الأذرع العسكرية والأمنية لحكومة الوحدة الليبية، وهو ما يفتح باب التكهنات حول دوافع تلك المبارزة المسلحة الشرسة بين طرفين يفترض أنهما ينتميان لمعسكر واحد. لكن ما بدا من استخدام كليهما للسلاح بهذه السرعة؛ أن الدوافع ربما تتجاوز عملية الاحتجاز التي تسببت في اندلاع الاشتباكات، أو قد يكون الاحتجاز للقيادي العقيد “محمود حمزة” يمثل في حد ذاته عرضًا لاحتقان مسبق مكتوم له أسباب لم تظهر على السطح بعد. تدخل مكون محلي يسمى “مجلس أعيان سوق الجمعة” مساء الثلاثاء، لإبرام صفقة وساطة تقضي بتسليم حمزة إلى جهة محايدة، على أن يجري ذلك بإشراف المجلس الاجتماعي لسوق الجمعة والنواحي الأربعة. وقد سبق ذلك الاجتماع مع حكومة الوحدة الوطنية؛ جرى خلاله الاتفاق على تسليم آمر “اللواء 444” إلى جهة محايدة، وإيقاف جميع العمليات العسكرية مع التعهد بعودة الوحدات إلى ثكناتها العسكرية، على أن يجري بشكل عاجل حصر الأضرار المتمثلة في الممتلكات العامة والخاصة، والقيام بتعويض أصحابها من حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة.
مركز طب الطوارئ والدعم، كشف زاوية أخرى من المشهد الذي استعر على نحو مفاجئ، حيث قدم الحصر الموثق الوحيد الذي رصد سقوط (27 قتيلًا و110 مصاب)، فيما أشير إلى أنه كان هناك اضطرار لإجلاء (234 عائلة) من مناطق المواجهات جراء الاشتباكات التي استخدم فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، مما استلزم أيضا إنشاء ثلاثة “مستشفيات ميدانية” لإسعاف الجرحى. لذلك شهدت مناطق جنوب شرق طرابلس تطورات أمنية متسارعة على خلفية عملية الاحتجاز، حين قرر وزير الداخلية “عماد الطرابلسي” تشكيل “غرفة أمنية” داخل العاصمة، تتولى فض الاشتباكات ونشر عناصر أمنية من هيئة الشرطة، لتحقيق استتباب الأمن بأسرع وقت ممكن، ووضع الخطط الكفيلة بالتأمين والحماية وزرع الطمأنينة في نفوس المدنيين داخل نطاق مدينة طرابلس ومحيطها، بالتنسيق مع مركز طب الطوارئ والدعم والجهات المعنية ذات العلاقة التي غابت عن المشهد في ساعاته الأولى.
وزارة الداخلية كي تحاول احتواء ما جرى؛ خصصت بشكل عاجل عددًا من الدوريات بلغ مجموعها (420 دورية)، تتبع ثماني جهات. هذه الجهات هي جهاز دعم الاستقرار ورئاسة أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، ومديرية أمن طرابلس والإدارة العامة للعمليات الأمنية، والإدارة العامة للدعم المركزي وجهاز الأمن والتمركزات الأمنية وجهاز الأمن الداخلي. وخيمت حالة واسعة من قلق العودة مرة أخرى للاحتكام إلى السلاح، لتقويض حالة الاستقرار الأمني الهشة التي تشهدها العاصمة منذ شهور والتي تسعى الأطراف المعنية لاستثمارها من أجل المضي في العملية السياسية. ليأتي هذا المشهد كي يكشف أن تلك الهشاشة تمور تحتها عشرات المخاطر، أبرزها هذا التعدد غير المسبوق للمكونات العسكرية والأمنية القادرة على حمل السلاح، والنزول للميدان وخلط الأوراق في أي لحظة حتى وإن كانت الدوافع واهية أو الخلافات على تلك الشاكلة، التي تفاقمت في ساعات لتروع سكان العاصمة برمتها.
المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، يرى إن ليبيا حققت تقدما ما خلال الأشهر الماضية على عدة أصعدة، ولفت في الوقت نفسه إلى أن العنف المسلح الذي اندلع في العاصمة طرابلس يمكن أن يعيق هذا التقدم. رغم أن حوادث مماثلة تحمل هي الأخرى دلالات عدة، وقعت منتصف يوليو الماضي قبل شهر واحد من أحداث العاصمة، عندما أعلنت قبائل منطقة الهلال النفطي إغلاق حقول النفط بـ”الجنوب الشرقي” للبلاد، فضلًا عن منابع النهر الصناعي التي تغذي العاصمة طرابلس. المثير للقلق أن خطوة بهذا الحجم؛ كانت دوافعها المباشرة ضغط مباشر على السلطات في طرابلس للإفراج عن وزير المالية في الحكومة السابقة “فرج بو مطاري”، بعد اختطافه فور وصوله إلى مطار معيتيقة من قبل أحد المكونات العسكرية والأمنية. التهديد كان جديًا وبالفعل أغلق “حقل الفيل” النفطي تأكيدًا لتلويح زعيم قبيلة الزوي “السنوسي الحليق” حينها، كما اشتمل التهديد أيضًا على قطع المياه عن العاصمة في حال عدم الاستجابة لمطالبهم، بعدما توجه عدد من المحتجين إلى الحقل النفطي وأجبروا العاملين على المغادرة تحت تهديد السلاح، وأوقف العمل بأحد أكبر الحقول النفطية في البلاد. عواقب مثل تلك الأمور تتسبب في تهديد واسع لسوق النفط الليبي، وترسخ فقدان الثقة في قدرات الدولة وأجهزتها وتدفع بخلط كبير لمنظومة الأمن والاستقرار، مما يجعل خطة إجراء الانتخابات القادمة يشوبها قدر عالي من عدم اليقين.
يبدو المشهد الأخير الذي جرى احتواءه في طرابلس، بعدما أسقط هذا العدد من الضحايا، وأقترب بأكثر مما ظن القائمين على الأمر من مركز القرار والسيادة الافتراضية. كاشفًا لعمق أزمة الغرب الليبي وجوهر معضلة العاصمة الرئيسية، المتمثلة في الأجسام المتنوعة المزودة بالعتاد والسلاح الثقيل التي ظلت تأتمر بأمر مشغلينهم وممولينهم، اليوم تلعب دور أشبه بـ”الدولة العميقة” التي تجاوزت قدرات هؤلاء جميعًا في فرض القرارات على الأرض، ويمكنها تفجير كامل المشهد من الداخل حين تتعارض مصالحها مع أي من المكونات أو القوى المنافسة، فهل يتقدم أحد لمواجهة مثل تلك الحقائق والمتغيرات على قلب المشهد الهش، المنذر بمستقبل أكثر غموضا وارتيابا مما مضى على ساحة التفاعلات الليبية.