صراع الأقطاب: الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة
عندما كانت تتردد كلمة حرب قديمًا، يظن الجميع أنه نزاع عسكري يحدث بين الدول. ولكن مع التقدم الذي يحدث في العالم، ظهرت أنواع أخرى من الحروب مثل الحروب الاقتصادية والتكنولوجية. وهذا هو ما يحدث حاليًا بين الولايات المتحدة والصين؛ إذ تحاول كل دولة فرض قوتها على الأخرى، بعد أن أضحت الصين في العقدين الماضيين قوة عظمى تهدد مكانة الولايات المتحدة وتصارعها على الترتيب الأول عالميًا من حيث حجم الاقتصاد.
تنافس الأفيال
للحرب بين الولايات المتحدة والصين سببان مترابطان، أولهما اقتصادي، ينبع من رغبة الصين في الاستقلال التكنولوجي وهو ما يعني اكتفاءها ذاتيًا في الصناعات التكنولوجية المتقدمة مثل أشباه الموصلات التي تعد الدولة الأكبر استهلاكًا حاليًا لها على مستوى العالم (40٪ من المبيعات العالمية في عام 2021). وفي إطار الوصول إلى ذلك الهدف، أصدرت بكين في 2015 وثيقة تنظم خطتها للانتقال إلى ما هو أبعد من كونها “المصنع العالمي”، بفضل انخفاض تكاليف العمالة وتصنيع التكنولوجيا، إلى “الاستقلال التكنولوجي”.
أما السبب الثاني فهو سياسي؛ إذ ترى الولايات المتحدة أن الصين تستخدم التكنولوجيا في أغراض التجسس على مراكز ومؤسسات مهمة، مما يهدد الأمن القومي الأمريكي. فيما ترى الصين أن الولايات تحاول تعطيل تقدمها الاقتصادي والسياسي لكونها أصبحت قوة عظمى تهدد مركز الولايات المتحدة في هيمنتها على العالم، فضلًا عن تنافسها مع الولايات المتحدة على الحضور في القارة السمراء، وتحالفها مع شريكها التاريخي “روسيا” مستغلة العزلة الروسية التي كانت نتيجة للعقوبات الغربية عليها بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
جولة جديدة
أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن أمرًا تنفيذيًا في 9 أغسطس 2023 يقضي بتقييد بعض الاستثمارات الأمريكية في صناعة التكنولوجيات الحساسة في الصين، التي يقول البيت الأبيض إنها تشكل مخاطر أمنية وتهدد الأمن القومي الأمريكي. ويضع القرار التنفيذي عمليات فحص يمكن أن تحد من قدرة شركات الأسهم الخاصة الأميركية في الاستثمار في الشركات الصينية العاملة في مجال التكنولوجيا ذات التطبيقات العسكرية مثل الحوسبة والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات.
الهدف من الأمر هو منع رأس المال والخبرة الأمريكية من تسريع تطوير التقنيات التي من شأنها أن تدعم التحديث العسكري للصين وتهدد الأمن القومي للولايات المتحدة. ويستهدف الأمر الأسهم الخاصة الأمريكية ورأس المال الاستثماري واستثمارات المشاريع المشتركة في الصين في مجال أشباه الموصلات والحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي. ستتطلب معظم الاستثمارات التي تم الحصول عليها بموجب الأمر أن يتم إخطار الحكومة بها. ذلك بالإضافة إلى حظر معاملات أخرى. وستتبع الاستثمارات المُقيّدة قواعد مراقبة الصادرات للصين التي أصدرتها وزارة التجارة الأمريكية في أكتوبر الماضي.
وعلاوة على ذلك، تمت الموافقة على تعديل منفصل بشأن الاستثمار الخارجي في مشروع قانون معلق لسياسة الدفاع في مجلس الشيوخ الأمريكي الأسبوع الماضي. ويتطلب هذا التشريع المحتمل إخطار بعض الاستثمارات الخارجية، لكنه لا يحتوي على أي محظورات. وليست الولايات المتحدة فقط التي تقوم بوضع ضوابط تصدير، حيث أعلنت اليابان وهولندا أنهما تعتمدان أيضًا ضوابط تصدير جديدة على معدات تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة.
وتعد هذه الإجراءات ضربة قوية للصين؛ إذ إن الولايات المتحدة واليابان وهولندا مجتمعة توفر ما يقرب من 90٪ من جميع المعدات المستخدمة في مصانع رقائق الكمبيوتر في جميع أنحاء العالم، ولذلك لا تستطيع الصين شراء الرقائق الأمريكية فحسب، بل لا يمكنها أيضًا شراء المعدات اللازمة لصنع البدائل الصينية، مما قد يقوض نوعًا من الاستراتيجية التكنولوجية الصينية.
وتأتي تلك الإجراءات استكمالًا لسلسلة الإجراءات الأمريكية ضد الصين، والتي بدأت للمرة الأولى في مارس 2016 بعد إعلان الولايات المتحدة عن عقوبات على شركة “ZTE” الصينية لمعدات الاتصالات بسبب بيع منتجاتها لدولتي إيران وكوريا الشمالية، وفرضت غرامة مالية قدرها ١.٢ مليار دولار، وهو ما كان بمثابة بداية الحرب على الاقتصاد الصيني. لتاتي بعدها الحكومة الامريكية في أغسطس ٢٠١٨ وتصدر قرارًا بمنع استخدام منتجات شركتي “HUAWEI” و”ZTE”، مما أدى إلى وقف نشاط الشركتين.
وفي مايو ٢٠١٩، أعلنت الحكومة الامريكية عن إضافة شركة “HUAWEI” والشركات التابعة لها إلى قائمة الكيانات لمكتب الصناعة والأمن (BIS) بوزارة التجارة، والتي تتطلب هذه القائمة منح ترخيص “تصدير أو إعادة تصدير أو نقل” عناصر محددة إلى الأشخاص أو الشركات أو المنظمات أو البلدان المدرجة فيها.
وتوالت العقوبات على الشركات الصينية واحدة تلو الأخرى، وكان آخرها في أكتوبر ٢٠٢٢ والتي فرضت على جميع الشركات الصينية، ونصت العقوبة على الترخيص المسبق لاستخدام التكنولوجيا الأمريكية لتصنيع أشباه الموصلات المتطورة، ومعدات تصنيع أشباه الموصلات، وقدرات الحوسبة المتقدمة وأجهزة الكمبيوتر العملاقة في الصين، ولا يحظر على الشركات الأمريكية فحسب، بل أيضًا على المواطنين الأمريكيين المساعدة في تصنيع هذه المنتجات.
الرد الصيني
يرى الخبراء الصينيون أن الولايات المتحدة عادة ما تسيّس قضايا التكنولوجيا والتجارة، وتستخدمها كأداة وسلاح باسم الأمن القومي. وتعد الصين قوة عظمى، ولذلك فلن تمر تلك العقوبات مرور الكرام، وهي تتابع التطورات وستحمي حقوقها ومصالحها بحزم. وبناءً على ذلك أصدرت الحكومة الصينية بعض القرارات أهمها:
أولًا: بدأت الصين مراجعة الأمن السيبراني للمنتج الأمريكي الرائد لرقائق الذاكرة لشركة “Micron”، حيث حظرت الحكومة الصينية شراء رقائق “ميكرون” في قطاع البنية التحتية الحيوية. وبالرغم من أن هذا القرار صدر بدعوى الأمن السيبراني، إلا أن البعض يرى أنه جاء ردًا على ضوابط التصدير.
ثانيًا: منعت سلطة مكافحة الاحتكار الصينية بشكل فعال أي وجميع عمليات اندماج الشركات التي تشمل شركة أشباه موصلات أمريكية تعمل في الأسواق الصينية. ويعد ذلك القرار ضربة مؤلمة لصناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، لأن ذلك سيؤدي إلى عدم تبادل الخبرات والاستفادة من التكنولوجيا المبتكرة، مما يضر الشركات الأمريكية. ولكن في المقابل، فعلى الرغم من أهمية القرار فإنه لا يضاهي قرار ضوابط الصادرات الأمريكية والهولندية واليابانية.
والآن بعد هذه القرارات الأمريكية بخصوص فحص الاستثمارات الصادرة في التقنيات الحساسة إلى الصين، بدأت الحكومة الصينية التفكير في الرد على تلك القرارات، ومن أهم القرارات المتوقعة:
أولًا: وقف تصدير صادرات الغاليوم والجرمانيوم، وهما معدنان من المدخلات الخام المهمة لتصنيع الإلكترونيات. وتعد الصين هي الدولة المهيمنة على تلك المادتين. وكانت الحكومة الصينية قد أصدرت مسبقًا في 3 يوليو 2023 قرارًا بفرض قيود وضوابط جديدة على صادرات المعدنين بدءًا من 1 أغسطس. ولكنها من الممكن كخطوة تالية أن تصدر قرارًا بوقف تصدير المعدنين تمامًا. ولذلك بدأت الشركات العالمية في إيجاد البديل؛ تحسبًا لسعي الصين إلى خنق العرض في أي لحظة، بالتالي يتوقع الكثيرون أن هذا القرار لن يؤثر بالشكل المتوقع على السوق العالمية أو السوق الأمريكية.
ثانيًا: ترى الصين أن اكبر ضربة من الممكن أن تفاجئ بها الولايات المتحدة هي تحقيق الاعتماد الذاتي؛ إذ إن بكين تستثمر مئات المليارات من الدولارات لبناء سلسلة التوريد الصينية لقضاء على الاعتماد على موردي التكنولوجيا الأجانب، وتبني سلسلة التوريد منذ أكثر من عقد، وتلك العقوبات التي أصدرتها الولايات المتحدة، لن تؤثر على تحقيق ذلك الهدف الذي من المقرر تحقيقه في سنة ٢٠٢٥، فهي الآن لديها الان شركات قوية في مجال معدات تصنيع أشباه الموصلات؛ إذ إنها كانت ترى أن واردات معدات تصنيع أشباه الموصلات الأجنبية ضرورة “مؤقتة” إلى أن تتقدم الشركات الصينية بما يكفي لتحل محل منافسيها الأجانب.
التداعيات العالمية
مع اشتداد الخناق بين الصين والولايات المتحدة، انقسم عدد كبير من دول العالم إلى جانبين: أحدهما مع الصين التي تتعاون مع روسيا، والآخر يتعاون مع الولايات المتحدة وبالتبعية الاتحاد الأوروبي. للوهلة الأولى من الممكن رؤية ذلك بأنه حرب عالمية لكنها بسلاح التكنولوجيا، حيث يرى الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية أنه إذا استطاعت فعلًا الشركات الصينية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي فذلك سيؤدي إلى نتائج خلال السنوات الخمس والعشر كارثية لأرباح الشركات غير الصينية.
مما قد يعني أن الصناعة ستنقسم عالميًا إلى جزأين: جزء محوره الصين، والآخر بقية العالم، وهو ما سيرتب تداعيات هائلة على الاقتصاد العالمي؛ إذ سيُجبر اللاعبون في هذا المجال على اختيار أحد الطرفين، وربما يتم منع الكثيرين منهم من الوصول إلى السوق الصينية. ذلك بالإضافة إلى خسائر لكلا الجانبين في تنوع الأسواق؛ إذ إن كل دول العالم سيتعين عليها اختيار جانب للتعاون معه، بالتالي فسوف يخسر خبرات وأسواق الجانب الآخر.
ذلك بالإضافة إلى خنق التجارة العالمية التي سوف تتضرر بشكل مباشر بذلك الصراع، وبعد ما كان العالم كله ينادي بالعولمة والانفتاح للوصول إلى تعزيز التكامل بين دول العالم، ستعود الدول إلى المفهوم القديم الذي ينادي بأن كل دولة ستحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي. ذلك علاوة على أن الشركات العالمية ستتضرر بشكل كبير بسبب زيادة العقوبات على مصانعها الخارجية، مما يعني غلق الكثير من المصانع الفترة المقبلة.
خلاصة القول، إن الولايات المتحدة تحاول بكل الطرق تعطيل الصين عن تحقيق هدفها بالاكتفاء الذاتي؛ إذ ترى أن تحقيق الصين لهدفها سيضر بمكانتها العالمية بالإضافة إلى أمنها القومي، لذلك تصدر الإدارة الأمريكية عقوبات متتالية على الشركات الصينية، بالإضافة إلى ضوابط التصدير. وعلى الجانب الآخر، فإن الصين تحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي والرد على العقوبات الغربية. وفي ظل هذه الحرب الباردة، فضلًا عن الحرب الروسية الأوكرانية وكوفيد-١٩ فإن من سيدفع الثمن هو بقية بلدان العالم.