أفريقياأوروبا

مصير النفوذ الفرنسي في أفريقيا عقب انقلاب النيجر

تتجه الأنظار نحو أحدث انقلاب في غرب أفريقيا والذي قام به جيش “النيجر” بعد سلسلة الانقلابات الأفريقية في بوركينا فاسو وغينيا ومالي وتشاد، وكلها مستعمرات فرنسية سابقة، وعلى الرغم من سعي حكومة “ماكرون” إلى النأي بنفسها عن فرنسا الأفريقية، إلا أن تلك البلدان لا يبدو أن بانقلابها أنها تريد نسيان الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي يصل إلى حد الأخذ بالثأر من فرنسا والاتحاد لتهديد استمرار نفوذها في أفريقيا الذي يعاني من خسارة واسعة خلال السنوات الأخيرة.

تاريخ الاستعمار الفرنسي لدول غرب أفريقيا

يعود الاتصال الفرنسي المباشر في غرب إفريقيا إلى القرن الخامس عشر على الأقل، حيث كان الفرنسيون على دراية بشعوب غرب إفريقيا وانخرطوا معهم بدرجات متفاوتة من خلال التجارة عبر الصحراء، وتوسعت تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي بشكل كبير في غرب إفريقيا بداية من الجزء الأخير من القرن السادس عشر واستمرارًا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وأصبح العبيد الأفارقة عنصرًا مهمًا في التجارة التي يقوم بها الأوروبيون عمومًا، وفي عام 1659، أسس الفرنسيون ميناءًا تجاريًا على ساحل غرب إفريقيا في سانت لويس (السنغال الحالية)، وتركزت جهودهم بشكل واضح في هذه المنطقة، ومن هنا بدأ مشروع فرنسا الاستعماري لأن يصبح غرب أفريقيا جزءًا من فرنسا.

واستمرت الإمبريالية البريطانية والفرنسية في غرب إفريقيا جنبًا إلى جنب طوال القرن التاسع عشر، فقد عمل البريطانيون والفرنسيون على إجراء اتصالاتهم من أجل ترسيخ مصالحهم في جميع أنحاء المناطق الداخلية، وبالطبع كان هناك تنافس بينهم من حيث التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي في غرب إفريقيا، الأمر الذي أعاق التوسع الاستعماري الفرنسي لصالح التوسع البريطاني. وبحلول السنوات الأولى من القرن العشرين، سيطر الفرنسيون على معظم الأراضي في غرب إفريقيا، بما في ذلك السنغال ومالي وبوركينا فاسو وبنين وغينيا وساحل العاج والنيجر، وكان أحد أهم جوانب الاستعمار الفرنسي لغرب إفريقيا هو الشرط المفروض على المستعمرة، أن كل ما تمتلك من ثروات وموارد قيمّة ستكون فقط للصالح الفرنسي.

وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الشعوب المستعمرة في غرب إفريقيا الفرنسية يُسمع استياءها من النظام الاستعماري، وفي عام 1960، حصلت أراضٍ غرب إفريقيا الفرنسية على الاستقلال، وواجهت الدول الجديدة مستقبلًا صعبًا كدول تتمتع بالحكم الذاتي مع القليل من الاعتماد على فرنسا في تحركها نحو المستقبل.

وقد حافظت فرنسا على علاقات وثيقة -وإن كانت معقدة- مع العديد من المستعمرات السابقة، بما في ذلك الوجود العسكري والسياسي باسم الحفاظ على الأمن الداخلي الأفريقي، والوصول المباشر إلى رؤساء الدول ومراقبة الأنظمة، والتأثير الاقتصادي (فلا تزال سبعًا من الدول التسع الفرنكوفونية في غرب إفريقيا تستخدم الفرنك CFA، المربوط باليورو كعملة لها)، هذا بجانب التحالفات الثقافية التي تتمحور حول اللغة والقيم الفرنسية، عن طريق شبكة يُشار إليها غالبًا باسم” الفرانكفونية- Françafrique”، والتي جاءت لتجسد هوس فرنسا بالحفاظ على موطئ قدم في أفريقيا كأمر محوري للسياسة الفرنسية.

ومؤخرًا، وعقب إدراكه للاستياء الأفريقي من الوجود الفرنسي، تعهد الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عندما تم انتخابه في عام 2017 بطي صفحة فرنسا الأفريقية، وإعادة ضبط العلاقة مع القارة بأن تكون باريس “شريكًا استراتيجيًا” لها، وذلك من خلال استراتيجية جديدة تقتضي زيادة مساعدات التنمية والاحتياجات الإنسانية للبلدان الأفريقية، والضغط لإعادة القطع الأثرية المنهوبة إلى أفريقيا، ورفض المنافسة الاستراتيجية التي تنخرط فيها بعض الأطراف الدولية، والوعد بتقليص الوجود العسكري الفرنسي إلى أدنى مستوى، والتركيز على دعم احتياجات الجيوش الأفريقية بدلًا من ذلك، ولكن يبدو أن الدول غرب أفريقية لم تعد تثق بالوعود الفرنسية السابقة التي لطالما تعهدت بها.

الانقلاب على فرنسا وتراجع النفوذ

تتمتع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة في معظم دول غرب ووسط إفريقيا، بعلاقات عسكرية طويلة الأمد عبر إفريقيا الفرنكوفونية، وتمركزت القوات الفرنسية في مالي وعدة دول أفريقية لسنوات كجزء من عملية لمكافحة الإرهاب، ولكن الغرب الأفريقي قد شهد خلال السنوات الأخيرة موجة من الانقلابات العسكرية على الأنظمة التي تحكمها، كان أخرها انقلاب “النيجر” (78% من الانقلابات الـ 27 التي حصلت في أفريقيا جنوب الصحراء منذ التسعينيات كانت في دول فرنكوفونية).

وعلى الرغم من أن فرنسا لم تتدخل عسكريًا لإعادة أي من رؤساء الدول المخلوعين الذي كان يُنظر إليهم أنهم مؤيدون لفرنسا، إلا أنها أيضًا لم تسلم من انتقادات مدبري الانقلابات التي تؤكد أن فرنسا قد تراجع نفوذها في أفريقيا، لعدة أسباب تعتبر حصيلة لتراكم أخطاء فرنسية في مرحلة ما بعد الاستعمار، ويكمن أبرزها في النقاط التالية:

1- استغلال فرنسا العلاقات الاقتصادية والسياسية التاريخية في مستعمراتها السابقة لخدمة مصالحها، وبالتالي تدهور الأوضاع غرب-وسط الأفريقية:

لا يوجد أي عيب أو مشكلة في الدفاع عن المصالح، فجميع القوى الكبرى والمتوسطة تقوم بذلك، لكن ما لم تفعله فرنسا لعقود هو “الاعتراف” بذلك، والتحاور والتفاوض من أجل التوقيع على اتفاقيات تعود بالفائدة على الطرفين أو ربما الانسحاب في حال طُلب ذلك، ولكن هذا ما لم يحدث.

فقد كانت النيجر، سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم حاليًا، تعطي ربع إنتاجها من اليورانيوم- الوقود الحيوي للطاقة النووية- مباشرة لأوروبا، و10% منه لفرنسا وهي نسبة تمثل 35%، أي ثلث ما تحتاجه فرنسا من هذه المادة، هذا بجانب النفط والذهب، وكذلك بقية الدول التي استعمرتها فرنسا، فقد كان شرط الاستقلال هو أن تهب تلك الدول لباريس كل الخيرات أو النصيب الأكبر منها دون مقابل.

وهذا الشرط جعل المواطنين في النيجر مثلًا يرون أن فرنسا “تعمدت” إفقار بلادهم التي هي موطن لـ 24.4 مليون شخص، حيث لم يكن هناك أي اهتمام طوال الفترة الاستعمارية بالخدمات الصحية والتعليمية، على الرغم من المحاولات الفرنسية لتوفير الحد الأدنى من الخدمات، وحاليًا، يعيش اثنان من كل خمسة في فقر مدقع بأقل من 2.15 دولار في اليوم على الرغم من تلقي النيجر ما يصل إلى ملياري دولار سنويًا من المساعدات التنموية.

كما يرى الانقلابيون أن النهب الفرنسي لثروات بلادهم لم يكن الأسوأ، بل العلاقات “الفاسدة” بين القادة السياسيين الفرنسيين وحلفائهم في إفريقيا التي أدت إلى نشوء نخبة قوية وثرية على حساب المواطنين الأفارقة، على غرار رئيس تشاد السابق، إدريس ديبي، ورئيس بوركينا فاسو السابق، بليز كومباوري، وهو ما وضع المزيد من المعوقات في طريق الصراع من أجل الديمقراطية.

 وحاليًا في النيجر، تنتشر المزاعم بأن رئيسها “محمد بازوم” كان “دمية” للمصالح الفرنسية، خاصة وأنه كان قد أصدر قرار بإعادة انتشار قوات “برخان” الفرنسية في النيجر بعد أن أُمروا بمغادرة مالي، وحينها، بدأت العديد من مجموعات المجتمع المدني في تصعيد الاحتجاجات المناهضة للفرنسيين في منتصف 2022، وكثيرًا ما حظرت إدارة بازوم مثل تلك الاحتجاجات، ما عزز مشاعر الغضب تجاه فرنسا بشكل أكبر، وجعَل إقالة بازوم من قبل المجلس العسكري النيجيري أمر له سمة “الشرعية”، لتصبح النيجر رابع دولة في غرب أفريقيا خلال ثلاث ينقلب جيشها على حكومتها.

2- استمرار فرنسا في “سياسة الإملاءات” واتباع النهج الأبوي وازدواجية المعايير في أفريقيا:

تنكر فرنسا سنوات من المعاناة الأفريقية، بحجة أن “فرنسا ليس من دورها إصلاح كل المشاكل في أفريقيا”، كما صرح ماكرون سابقًا، كما تنكر أنها كانت من أهم الأسباب المؤدية لتدهور الأحوال، بجانب أن هناك شخصيات سياسية في فرنسا كانت تدلي بتعليقات يُنظر إليها على أنها متعالية بشأن إفريقيا والأفارقة، الأمر الذي يعطي انطباعًا بأن السلطات الفرنسية تعتقد أن بإمكانها تجاهل الحساسية الدبلوماسية عند التعامل مع الدول الأفريقية. ومن أبرز هذه التصريحات قول الرئيس الأسبق “نيكولا ساركوزي” في بداية عهده عام 2007 عندما أكد أن “الإنسان الأفريقي لم يدخل التاريخ حتى الآن كما ينبغي”، ليحيى في ذاكرة الشعوب الأفريقية صورة المستعمر المتغطرس الذي يحتقر شعوب مستعمراته. 

هذا بجانب استمرار التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية لدول غرب الساحل، وإن كان بشكل غير مباشر، لضمان وصول المؤيدين لفرنسا إلى مقاليد حكم تلك البلاد، فهناك أصوات تؤكد التدخل الفرنسي المباشر في تنصيب رؤساء بعض الدول، فضلًا عن استمرار التواجد العسكري بذريعة نشر الأمن، وهي السلطة الأبوية التي يرى فيها الانقلابيون أن فرنسا تضع نفسها في خانة استراتيجية التأثير السياسي لكي تحافظ على مكانتها في أفريقيا.

3- فشل القوات الفرنسية في مكافحة الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش:

يكمن سر زيادة الاحتجاجات من قبل معارضي الوجود العسكري الفرنسي إلى التصورات بأن فرنسا والدول الغربية الأخرى على الرغم من المساعدات العسكرية والمالية، لم تفعل ما يكفي لكبح التمرد ومكافحة الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش، والتي استولت على مساحات شاسعة من الأراضي وشردت ملايين الأشخاص في منطقة الساحل الأوسع جنوب الصحراء، وبالتالي تلقي دول الساحل الأفريقي باللوم على فشل فرنسا في استعادة السيطرة على أراضيها ونزع فتيل التطرف، خاصة وأنها ترى أن فرنسا تحاول تجاهل زعزعة استقرار المنطقة الذي تسببت به، والذي أدى إلى الاستجداء بالجنود الروس لمواجهة المتشددين الإسلاميين، والمطالبة بـ “طرد” القوات الفرنسية من الأراضي الأفريقية.

ففي بوركينا فاسو، أنهت الحكومة العسكرية رسميًا في فبراير الماضي اتفاقًا طويل الأمد سمح للقوات الفرنسية بقتال المسلحين على أراضي الدولة الواقعة في غرب أفريقيا، الأمر الذي أعطى فرنسا شهرًا واحدًا لسحب قواتها بحجة أن بوركينا فاسو ترغب في الدفاع عن نفسها، وهو ما يعكس أن الدعم الفرنسي لبوركنا فاسو كان عائقًا أكثر منه مساعدة للتخلص من حركات التمرد الإسلامية في منطقة الساحل. وعلى الرغم من وهم الانسحاب الكامل، لا يزال لدى فرنسا قاعدة عسكرية تضم 1500 جندي في النيجر، إلى جانب قاعدة جوية تخدم الطائرات المقاتلة والطائرات بدون طيار الهجومية، وبنجاح الانقلاب الحالي، وبرحيل كل الجنود الفرنسيين من النيجر، ستظل تشاد الدولة الوحيدة في منطقة الساحل المعروفة باستضافة قاعدة فرنسية.

4- عدم فهم التحولات الاجتماعية والسياسية في منطقة الساحل الأفريقي:

اكتسب الانقلابيون في مالي وبوركينا فاسو والنيجر شرعية من الدعم الشعبي الناجم عن تنامي شعور العداء لفرنسا وللغرب عمومًا، ولأن باريس لا تفهم أن العالم يتغير وأفريقيا تتغير معه، تعارض فرنسا الانقلابات العسكرية في مستعمراتها السابقة دون أن تبذل مجهودًا في فهم الأسباب التي أدت لانتشار مثل هذه الظاهرة، والتي أبرزها تفاقم الفقر في دول القارة والأزمات الاقتصادية وتبعات الأزمات العالمية، وبدلًا من ذلك تقوم بتعقيد الموقف من خلال فرض عقوبات اقتصادية ومالية ومهاجمة تلك الدول عسكريًا، الأمر الذي يؤدي بالتبعية إلى قطع العلاقات نهائيًا مع فرنسا، تمامًا كما حدث عام 2019 في تشاد، فقد أدى القصف الجوي الفرنسي للمتمردين التشاديين إلى تآكل النفوذ الفرنسي.

وفي مالي، تم قطع العلاقات نهائيًا مع فرنسا، وشن العقيد “عبد الله مايغا”، الذي عينه المجلس العسكري رئيسًا للوزراء في سبتمبر 2022 هجومًا عنيفًا عليها، واتهمها بطعنها بلاده بعد أن قامت بسحب قواتها من البلاد عقب الانقلابين الذين شهدتهما منذ عام 2020، وفرضها عقوبات على المجلس العسكري بها بسبب التعاون المالي مع الجنود الروس غير النظاميين “فاجنر”. 

وعلى الصعيد الاجتماعي، فاليوم هناك جيل أفريقي جديد نال حظ جيد من التعليم، ويقوده نخبة شبابية ثائرة على ما تعتبره هيمنة استعمارية فرنسية على مقدرات أوطانها، وبوصول وسائل الإعلام المختلفة إلى أكبر شريحة من الناس، سيكون من السهل المطالبة بتحقيق الاستقلال “الحقيقي” من الاستعمار الفرنسي.

5- افتقار فرنسا لخطط تنفيذ السياسات الجديدة المتفق عليها على أرض الواقع:

نجد أن سبب تراجع النفوذ الفرنسي هو افتقار ماكرون ومن قبله من الرؤساء إلى خطط تنفيذية للسياسات الفرنسية على الأرض، لتظل كل الوعود بتغيير السياسة الفرنسية السابقة إلى أخرى جديدة محبوسة في إطار النوايا وفقط كحبرٍ على ورق، خاصة وأن فرنسا حتى الآن لم تعلن أية جداول زمنية لتنفيذ استراتيجيتها الجديدة التي أعلن عنها ماكرون في 2017.

6- تدافع القوى العالمية المتنافسة على إفريقيا لتكون بديلًا للنفوذ الفرنسي:

تتجلى الدوافع المختلطة للانقلابات الأفريقية الأخيرة في السرعة التي سعت بها العديد من الحكومات العسكرية الجديدة إلى استبدال العلاقة الفرنسية المتوترة بحليف خارجي آخر، وهنا تجدر الإشارة إلى “روسيا”، فبالطبع تراقب موسكو المشهد الأفريقي الغربي المتوتر، وتحاول بشتى الطرق إحياء سبل التعاون بينها وبين الدول المنقلبة على فرنسا، لتعزيز موقفها والتأكيد أنها الخيار الأول لتلك الدول حال طلب المساعدة دون تدخل في الشؤون الداخلية الأفريقية، وبالطبع لتخفيف وطأة العزلة التي تعيشها روسيا على الساحة الدولية.

ويمكن رؤية ذلك من خلال انتشار عناصر قوات “فاجنر” غير النظامية والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدولة الروسية في العديد من البلدان، بما في ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي من أجل ضمان الأمن ومكافحة التمرد مقابل تنازلات اقتصادية أفريقية دون أي اعتبار لرد فعل فرنسا أو الغرب، على الرغم من تأكيدات روسيا المستمرة بأن “فاجنر” لا تمثل موسكو ولا تُموَل من قبلها. 

وخلال “القمة الروسية – الأفريقية” الأخيرة في سانت بطرسبرج، أعلن زعماء بوركينا فاسو ومالي دعمهم للرئيس فلاديمير بوتين وغزو أوكرانيا، ودعوه ليحل محل ماكرون كأكبر داعم عالمي لهم، كما تعهدوا بالدفاع عن الانقلابين في النيجر المجاورة، ومنذ انقلاب النيجر، ظهرت ألوان الأعلام الروسية في شوارع العاصمة “نيامي” من خلال الاحتجاجات التي قام بها المتظاهرون، ويبدو أن هذه الحركة منتشرة الآن في جميع البلاد الأفريقية التي خاضت انقلابات مؤخرًا.

ولا ننسى الدور الصيني في المنافسة الجيوسياسية في غرب أفريقيا، إذ تقوم الصين أيضًا كروسيا بتعدين ومعالجة الكيانات الاقتصادية الإقليمية، وذلك من خلال مبادرة الحزام والطريق، وتشكيل البنوك الصينية قرابة خُمس إجمالي القروض لأفريقيا والتي تتركز في البلدان الاستراتيجية أو الغنية بالموارد، بما في ذلك أنجولا وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وزامبيا، ما قد يجعل الصين مستعمرة جديدة حال تخلف تلك الدول عن سداد الديون.

كذلك زاد الوجود والسعي من جانب قوى دولية وإقليمية في الوقت الحاضر إلى خلق منطقة نفوذ على مصادر إفريقيا، عبر تقديم قروض منخفضة التكلفة أو استثمارات مالية أو منتجات تامة الصنع، ومن المرجح أن يكون المستفيدون من هذه التحالفات العالمية هم النخبة السياسية الواصلة للسلطة عقب الانقلاب.

الخيارات المطروحة لإنقاذ النفوذ الفرنسي في أفريقيا

أدى الانقلاب العسكري الأخير في النيجر إلى عدم اليقين بشأن مستقبل الوجود الفرنسي في غرب ووسط إفريقيا، فقد أصبحت فرنسا “كبش فداء” في منطقة تنهار تحت وطأة الفقر وتغير المناخ السياسي وتصاعد التشدد الإسلامي، وعلى الرغم من محاولات ماكرون وجهوده خلال ولايته الأولى وقيامه بما يقرب من 18 زيارة للدول الأفريقية من أجل تعزيز المقاربة الفرنسية الأفريقية، إلا أن النفوذ الأفريقي السياسي والثقافي قد تراجع بشكل كبير، وأصبح ماكرون يخوض “معركة وجود” في أفريقيا، خاصة وأنه اعترف بنفسه أوائل هذا العام بتراجع مكانة فرنسا في أفريقيا على الأصعدة الاقتصادية والاستراتيجية، ما يجعلنا نتيقن من أن استعادة فرنسا لكامل نفوذها في القارة الأفريقية هو أمر غير مطروح.

ولكن ربما لا تزال هناك فرصة أمام ماكرون لنجاح السياسة التي يريد تطبيقها من أجل السيطرة على الوضع والبدء من جديد واستغلال الفضاء السياسي الذي خلقته فرنسا، ولعل الشرط الرئيس يكمن في “الاعتراف” بأخطاء الماضي وتعويض الأفارقة عن فترة الاستغلال ورد اعتبارهم- وهو مطلب أفريقي ثابت-، ومعاملة الدول الإفريقية كشركاء متساوين في مجال التعاون العسكري والاقتصادي، وقد يكون ذلك من خلال عقد مفاوضات وقمم تجمع دول الساحل وعدد من الدول الأفريقية، للتوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف، مع العلم أن فرنسا هذه المرة ليست في موضع قوة يمكنّها من فرض مطالب، وإنما سيتعين عليها الانصياع للشروط الأفريقية الجديدة، خاصة وأنه تلوح في الأفق التهديدات بالقفز على مراكب القوى الأخرى التي تمد يدها بالفعل لتنمية غرب أفريقيا مقابل تحقيق الاستفادة الاقتصادية، وبالتالي تحقيق الربح لجميع الأطراف، بالإضافة إلى أن فرنسا لا تمتلك حاليًا الأدوات اللازمة لتحل محل الصين أو روسيا أو تركيا، ولا تخطط لأن تكون القوة المهيمنة في إفريقيا، ولكنها بالتأكيد تريد أن يكون لها دور حازم في “إبعاد” الدول الأفريقية عن القوى الأخرى.

في غضون ذلك، تدرك باريس أن المعركة ضد المسلحين في إفريقيا، والتي كانت بالغة الأهمية لسياستها الخارجية في القارة، لا يمكن كسبها إلا من خلال البراعة العسكرية ومبادرة السلطات المحلية، ومعالجة الفساد، وتحسين حياة المدنيين، ولهذا فإنها أصبحت تدرك أن التركيز المفرط على مكافحة التمرد كما فعلت في الماضي لن يفيد، وبدلًا من ذلك، ستكون هناك حاجة إلى استراتيجية أكثر شمولًا.

وحول الوضع الحالي في النيجر، يُستبعد تمامًا أن تكرر فرنسا ما فعلته في تشاد حين تدخلت عسكريًا لمهاجمة المعارضين، وهذا يعزز مبدأ التعلم من الأخطاء، ففرنسا تريد إعادة تعزيز موقفها مجددًا ولهذا قد نشهد اتجاهًا فرنسيًا لتكوين علاقات مع شركاء جدد كدول مثل كوت ديفوار والسنغال والجابون، خاصة وأن هذه الدول لا تزال في وضع يسمح لها بالترحيب بالقوات الفرنسية دون المخاطرة بالاضطرابات السياسية الداخلية، هذا بالإضافة إلى إعادة التفكير في شكل الدبلوماسية العامة التي من شأنها تسهيل عودة ظهور فرنسا كجهة فاعلة كاملة في إفريقيا، وإلا ستفشل أي محاولة لفتح فصل جديد في علاقات فرنسا مع الدول الأفريقية.

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى