تعد العلاقات المصرية اليونانية نموذجًا فريدًا للتعاون متعدد الأوجه والاتجاهات بين الدول الأوروبية والعربية، وكذا مثالًا مهمًا للشكل الذي ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط. الطابع التاريخي لهذه العلاقات ربما يرتبط بشكل أو بآخر بالحضارات التي قامت على أراضي كلا البلدين، والتي جعلت جذور العلاقات بينهما تعود إلى نحو 300 عام قبل الميلاد، وهو ما أسهم -بجانب الروابط الجغرافية والاقتصادية والروابط الإنسانية التي نُسجت بين الشعبين نتيجة وجود جاليات كبيرة من كلا البلدين على أراضي البلد الآخر- في تشكيل هذا النموذج من العلاقات الإيجابية والبناءة بين القاهرة وأثينا.
وحقيقة الأمر أن هذه العلاقات بين مصر واليونان قد تلقت دفعات كبيرة إلى الأمام منذ عام 2014، فقد وضعت القاهرة نصب أعينها تقوية علاقاتها على كافة المستويات مع جيران الشمال (اليونان – قبرص)، في إطار من الصداقة والعلاقات الودية التي تشمل التعاون في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقد نجحت مصر بشكل كبير في تقديم نموذج حي لكيفية التعايش والتعاون بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ما تعزز بالتقارب الملحوظ في الرؤى خلال السنوات الأخيرة، بين مصر واليونان، تجاه الملفات الإقليمية والقضايا الأساسية الملحة.
وتعد القمة المصرية اليونانية التي احتضنتها مدينة العلمين الجديدة اليوم، بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أحدث نتائج ودلائل هذه العلاقات المميزة بين الجانبين، خاصة أن هذه الزيارة تعد الأولى لرئيس وزراء اليونان للمنطقة، بعد إعادة انتخابه وتشكيل حكومته الجديدة.
الآليات الثنائية للتعاون المشترك بين القاهرة وأثينا
بشكل عام، شهدت العلاقات المصرية اليونانية نقلة نوعية على مختلف الأصعدة، خاصة السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية، وتوالت على مدار السنوات الماضية الزيارات الرئاسية والدبلوماسية بين البلدين، سواء كانت هذه الزيارات ضمن إطار العلاقات الثنائية بين الجانبين، أو في إطار القمم الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص التي تستضيفها الدول الثلاث بالتناوب، وهي آلية تعاون نموذجية كان لها دور أساسي في تطوير وتحسين العلاقات بين مصر وأثينا، وإدامة التواصل بينهما، حيث انعقدت حتى الآن تسع قمم ثلاثية سابقة بين الدول الثلاث.
كانت الأولى في شهر نوفمبر من عام 2014 بالعاصمة المصرية، فيما انعقدت القمة الثانية في أبريل من العام التالي 2015 في قبرص، ثم القمة الثالثة في ديسمبر من العام نفسه في أثينا، والقمة الرابعة في القاهرة في أكتوبر 2016، وانعقدت القمة الخامسة في شهر نوفمبر عام 2017 في قبرص، ثم القمة الثلاثية السادسة في اليونان في أكتوبر عام 2018، والقمة السابعة في القاهرة في أكتوبر عام 2019، ثم القمة الثلاثية الثامنة في نيقوسيا في أكتوبر 2020، ثم القمة التاسعة في اليونان في أكتوبر 2021.
لم تكن هذه القمم سببًا في تعزيز واستمرار التعاون الثنائي والثلاثي بين الدول الثلاث فقط، بل أسهمت أيضًا في تنفيذ قرارات مهمة على المستوى المحلي والإقليمي، خاصة فيما يتعلق بالحدود البحرية والطاقة؛ ففي القمة الثالثة التي احتضنتها العاصمة اليونانية أثينا في ديسمبر 2015، نوقش ملف ترسيم الحدود البحرية بين الدول الثلاث، وإمكانية استغلال الموقع الجغرافي الحيوي للدول الثلاث من أجل دفع التعاون بين قارتي أفريقيا وأوروبا في مجالات النقل والتجارة والطاقة، وهو محور ظل أساسيًا في المناقشات التي تضمنتها القمم التالية، وصولًا إلى ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان عام 2020.
خلال القمة الثلاثية السادسة التي احتضنتها اليونان في أكتوبر 2018، اتُفق على تدشين منتدى غاز شرق المتوسط ومقره القاهرة، ليكون مظلة لتعزيز التعاون في مجال الطاقة في منطقة شرق المتوسط، وهي خطوة كان لها تأثير جيو سياسي واقتصادي مهم؛ نظرًا لأنها مثلت تأسيسًا لأول منصة إقليمية توافقية تعاونية في مجال الطاقة، وكانت إحدى ثمار التطور الإيجابي في العلاقات المصرية اليونانية.
خطوات واسعة لتعزيز التعاون بين القاهرة وأثينا
على المستوى الثنائي، سعت القاهرة خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية والسياسية بينها وبين أثينا، والتي تعود لعام 1833، حيث استمر التواصل بين البلدين على المستوى الرئاسي والحكومي، وكان آخر فعاليات هذا التواصل الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس عبد الفتاح السيسي برئيس الوزراء اليوناني لتهنئته بتوليه فترة رئاسة ثانية، وكذا الزيارة التي أجراها في أبريل الماضي إلى اليونان وزير الخارجية سامح شكري، والتي أكد خلالها على التطور الكبير في العلاقات المصرية اليونانية على مدار السنوات التسع الأخيرة. وقد أشار الوزير شكري خلال هذه الزيارة، إلى رغبة كلا البلدين في تعزيز التعاون في العديد من المجالات، والتي تشمل الربط الكهربائي البلدين، والربط الكهربائي من خلال اليونان إلى القارة الأوروبية، والاستفادة من الزخم الذي تولد من مؤتمر الدول الأطراف باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (cop27) والذي عقد في مصر، بالإضافة إلى الاعتماد المتزايد على الطاقة الجديدة والمتجددة والطاقة النظيفة.
ملف التعاون في مجال الغاز والكهرباء بين البلدين ربما يمكن اعتباره من أهم الملفات التي تجمع بينهما خلال المرحلة السابقة؛ ففي أكتوبر 2021، وقعت مصر مذكرة تفاهم للربط الكهربائي من اليونان، ومذكرة مماثلة مع قبرص، بهدف إنشاء شبكة ربط مباشر لتبادل الكهرباء بين البلدان الثلاثة، لتحسين أمن الإمداد بالطاقة، وإنشاء خطوط نقل كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقة المتجددة.
تعد هاتان المذكرتان جزءًا من اتفاقية إطارية حول الطاقة وقعتها الدول الثلاث عام 2019، تحت اسم مشروع “يورو أفريكا”، بإجمالي استثمارات يبلغ 4 مليارات دولار، وتستندان إلى اتفاقيات ترسيم المناطق البحرية بين الدول الثلاث، وتعد هذه الخطة الأولى من نوعها بين أفريقيا وأوروبا، خاصة أنها ستستخدم لنقل الطاقة الكهربائية المصرية المولدة حصرًا بوسائل صديقة للبيئة.
تنص كلا المذكرتين على مد خط لنقل الطاقة الكهربائية من مصر إلى قبرص ثم إلى اليونان، بطول نحو 1650 كيلومترًا بقدرة 2000 ميجاوات، حيث سيتم ربط مصر بقبرص بخط يبلغ طوله 498 كيلومترًا، ثم توصيل قبرص بجزيرة كريت اليونانية بخط يبلغ طوله 898 كيلومترًا، ويصل عمق مد الكابلات إلى 3000 متر تحت مستوى سطح البحر في بعض المناطق بين جزيرة كريت وقبرص. سيتم الشروع قريبًا في المرحلة الأولى من هذا المشروع بقيمة 2.5 مليار يورو، بإنشاء ومد خطوط التواصل بين الشبكات الكهربائية للدول الثلاث.
على المستوى العسكري والأمني، تصاعدت بشكل لافت العلاقات بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالمناورات العسكرية المشتركة، وعلى رأسها مناورات “ميدوزا” البحرية والجوية التي تتم بشكل شبه دوري بين البلدين، بجانب عشرات التدريبات البحرية والجوية العابرة.
وقد وقع الجانبان في أبريل 2021 -بمشاركة قبرص- اتفاقية للتعاون العسكري الثلاثي؛ بهدف توسيع التعاون العسكري وقابلية التشغيل البيني بين القوات المسلحة للدول الثلاث، من خلال المزيد من التدريبات المشتركة وأنشطة التدريب، وهو ما تم تعزيزه في سبتمبر 2022، بتوقيع القاهرة وأثينا بروتوكول لدعم التعاون الثنائي بينهما في مجالات التدريب والتأهيل العسكري، ثم توقيع مذكرة تفاهم في شهر نوفمبر من نفس العام، لتقديم كل أوجه الدعم بين الجانبين، بما يحقق التكامل في مجال البحث والإنقاذ الجوي والبحري.
الملفات التي تحظى باهتمام كلا الدولتين، على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، والتي تتنوع بين ملف الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب، وملف أمن الطاقة، والملفات الإقليمية المرتبطة بالأوضاع السياسية في عدد من الدول من ليبيا غربًا إلى سوريا شرقًا، وصولًا إلى ملفات التعاون الثنائي بين البلدين؛ تفرض جميعها على مصر وأثينا تعزيز العلاقات الحالية بينهما، ونقلها إلى آفاق اوسع وأرحب، في ظل حالة التعاون والتضامن التي تسعى القاهرة إلى تعميمها في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ما إن تم بشكل كامل سينعكس بشكل إيجابي على الحالة العامة في دول هذا الحوض على كافة المستويات.