تداعيات خطرة… انقلاب النيجر والنشاط الإرهابي في منطقة الساحل الأفريقي
استمرارًا لسلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل الأفريقي خلال السنوات الأخيرة، شهدت النيجر في 26 يوليو 2023 انقلابًا عسكريًا بعد قيام قوات الحرس الرئاسي بالتحفظ على الرئيس النيجري “محمد بازوم” واحتجازه في القصر الرئاسي بالعاصمة نيامي وقطع الطرق المؤدية إليه، مُعللين تحركاتهم باستمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وتطرح الأحداث الأخيرة في النيجر جملة من التساؤلات حول تداعياتها المحتملة على نشاط التنظيمات الإرهابية المتمركزة في المنطقة، والجهود المحلية والإقليمية والدولية المعنية بمحاربة الإرهاب في أفريقيا بشكل عام وفي منطقة الساحل الأفريقي على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن “تأثير الدومينو” الذي تشهده الأخيرة فيما يتعلق باستمرار ظاهرة الانقلابات العسكرية منذ عام 2020 في كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد، يواكبه بالتوازي تفاقم في النشاط الإرهابي داخل هذه الدول، وتسارع وتيرة الزحف الجهادي بمنطقة الساحل الإفريقي التي باتت مسرحًا لوجستيًا رئيسًا للتنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيمي داعش والقاعدة.
تداعيات خطرة
رغم كون النيجر واحدة من دول الساحل التي تشهد أراضيها نشاطًا متزايدًا للتنظيمات الإرهابية لا سيما تلك التي تنتشر على حدودها المتاخمة لمالي وبوركينا فاسو أو ما يُسمي بـ “منطقة المثلث الحدودي” أو “ليبتاكو-غورما”، إلا أنها كانت تعتبر – مُقارنةً بالدول الأخرى –الأكثر استقرارًا، واعتمدت عليها القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا كشريك رئيس في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل. لكن مع انتقال عدوى الانقلابات إلى النيجر من جوارها الجغرافي تتصاعد المخاوف الأمنية من تنامي واستفحال الخطر الإرهابي في المنطقة، نظرًا لما قد يترتب عليه من تداعيات سلبية تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي، أبرزها ما يلي:
• تردي الوضع الأمني وانتشار الفوضى: في أعقاب الانقلاب الذي شهدته النيجر انتشرت في العاصمة نيامي أعمال شغب وحرق واسعة النطاق نفّذها متظاهرون غاضبون من الانقلاب، ويُرجح استمرار حالة الفوضى خلال الفترة المقبلة على خلفية التطورات المزمع حدوثها، وربما يتسع مداها لتدخل في حالة من الفراغ الأمني التي عادةً ما تصاحب بيئات ما بعد الانقلابات، وهو ما قد تجد فيه التنظيمات الإرهابية بيئة مواتية لممارسة نشاطها وتعزيز صفوفها، مُستغلة في ذلك أيضًا انشغال قوات الأمن النيجرية في أحداث الانقلاب كونها أحد الأطراف الرئيسة به، وكذا انصراف الأولويات الأمنية الحالية لسلطات الانقلاب عن محاربة التنظيمات الإرهابية حتى يتسنى لها توطيد سلطاتها في العاصمة.
• تنامي النشاط الإرهابي في النيجر: مع تردي الوضع الأمني وانتشار الفوضى في النيجر على خلفية الانقلاب الأخير، من المرجح أن يتفاقم النشاط الإرهابي في البلاد خلال الفترة المُقبلة، لا سيما في ظل وجود جملة من المُحفزات. الأول، حالة الهشاشة الأمنية في المناطق الحدودية، وهو ما يُتيح للتنظيمات الإرهابية النشطة في دول الجوار الجغرافي مساحة حركة أكبر للتحرك والانتشار وتوسيع نطاق نفوذها في منطقة الساحل، فعلى طول حدودها الشمالية مع الجزائر تواجه النيجر مخاطر تمدد العناصر الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وكذا خطر تنظيم داعش الذي ينشط على حدودها الشمالية الشرقية مع ليبيا، فضلًا عن تهديد جماعة بوكو حرام الممتدة على طول حدودها الجنوبية الشرقية مع تشاد ونيجيريا، إلى جانب تمدد نشاط الجماعات التابعة لتنظيمي داعش والقاعدة عبر حدودها مع مالي وخصوصًا في منطقة المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو. والثاني، معاناة النيجر من ارتفاع معدلات الأمية والفقر والبطالة وكذا التداعيات الخطرة المرتبطة بالتغيرات المناخية، وكلها مُحفزات رئيسة لاستمرار الخطر الإرهابي في البلاد، خصوصًا أن هذا الوضع مرشح لأن يزداد خلال الفترة المقبلة بعد إقدام العديد من الدول على تعليق مساعداتها التنموية للنيجر في أعقاب الانقلاب الأخير.
والثالث، استمرار موجات النزوح الجهادي للعناصر الإرهابية وذويهم جراء حالة الاقتتال الدائرة بين التنظيمات الإرهابية النشطة في المنطقة، مثلما هو الحال في الصراع الدامي بين تنظيم داعش وجماعة بوكو حرام في نيجيريا والذي يفضي بتداعياته السلبية على الوضع الأمني في النيجر؛ حيث أسفر هذا الصراع عن نزوح المئات من عناصر وعائلات بوكو حرام شمالًا إلى النيجر فرارًا من ضربات ولاية تنظيم داعش في غرب أفريقيا، وهو ما يمثل عبء أمني إضافي إلى جانب الأعباء الإنسانية على السلطات النيجرية، لكون هؤلاء النازحين عناصر إرهابية بالأساس وليسوا نازحين عاديين. ناهيك عن موجات النزوح الداخلي التي تشهدها النيجر هربًا من أعمال العنف التي ترتكبها التنظيمات الإرهابية في منطقة تيلابيري ومنطقة المثلث الحدودي؛ إذ يعاني هؤلاء من أوضاع إنسانية متردية تجعلهم أكثر قابلية لاستقطابهم من قبل التنظيمات الإرهابية.
• زيادة حدة التنافس الجيوسياسي في المنطقة: ذهبت بعض التقديرات إلى أن عملية الانقلاب الأخير في النيجر جاءت كشكل من أشكال التمرد على التواجد الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، باعتبار النيجر الشريكة الأولى الآن لفرنسا في منطقة الساحل والصحراء، بعد خروج قواتها من مالي وتراجعها في بوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى. وهو ما يتصل بالتنافس الجيوسياسي بين فرنسا وروسيا في القارة السمراء الذي تصاعدت حدته خلال عام 2022؛ حيث سعت الأخيرة لاستغلال حالة السخط الشعبي تجاه وجود القوات الفرنسية وقرار بعض الدول مثل مالي وبوركينا فاسو إنهاء التواجد الفرنسي على أراضيها، وانتهاء عملية برخان في نوفمبر 2022، لتعزيز حضورها في منطقة الساحل عبر نشر قوات فاجنر في مالي منذ ديسمبر 2021 وأصبحت الشريك الأمني المفضل للبلاد، كذلك تشارك تلك القوات في عمليات ضد الجماعات الجهادية في بوركينا فاسو.
وقد يعيق هذا التنافس المحتدم الجهود المبذولة لمجابهة الإرهاب في منطقة الساحل، حيث تخضع مجالات التعاون بين الدول المتجاورة في هذا الشأن للانقسامات بين تلك الدول التي تدعمها روسيا أو فرنسا. فعلى سبيل المثال، في أعقاب الانقلاب الذي شهدته مالي عام 2021، والذي تصاعدت على إثره حدة التوترات بين باريس وباماكو وإقدام الأخيرة على تعزيز تعاونها الأمني مع روسيا، رفضت بعض دول الجوار وجود قوات فاجنر الروسية على طول حدودها مع مالي، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت الأخيرة إلى الإعلان في 15 مايو 2022 عن انسحابها من كافة أجهزة مجموعة دول الساحل الخمس (G5) وهيئاتها بما فيها “القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب”، وهو ما أثر سلبًا على جهود مكافحة الإرهاب المشتركة في منطقة غرب أفريقيا بشكل عام وفي الساحل الأفريقي بشكل خاص.
• احتمالية الاستعانة بقوات فاجنر الروسية: على خلفية تصاعد حدة التنافس الجيوسياسي بين روسيا وفرنسا في منطقة الساحل، ثمّة مؤشرات على احتمالية اتجاه سلطات الانقلاب في النيجر إلى ضفّة المعسكر الروسي وانتهاج خطى الجارتين مالي وبوكرينا فاسو في طرد القوات الفرنسية واستبدالها بقوات فاجنر الروسية، ومن ذلك: قيام المتظاهرين المؤيدين للانقلاب العسكري في النيجر برفع العلم الروسي وترديد هتافات مؤيدة لقوات فاجنر إبان المظاهرات التي شهدتها عدة مناطق منها، مقر الحزب الحاكم ومقر السفارة الفرنسية في نيامي، كما توالت تحذيرات سلطات الانقلاب لفرنسا من التدخل في الشأن الداخلي للبلاد، واتخذت قرارًا بوقف صادرات الذهب واليورانيوم إلى باريس.
ويُمكن القول إن احتمالية استعانة سلطات الانقلاب في النيجر بقوات فاجنر الروسية تنطوي على جملة من السلبيات التي من شأنها مفاقمة الخطر الإرهابي في البلاد في الفترة المقبلة بدلًا من تطويقه، بعضها يتعلق بفقدان القوات النيجرية للدعم الاستخباراتي والمادي الذي تقدمه القوات الفرنسية، والبعض الآخر يتعلق بالشكوك المثارة حول مدى نجاعة الاستعانة بقوات فاجنر في جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل؛ حيث أفادت العديد من التقارير بأن استعانة بعض البلدان مثل مالي وبوركينا فاسو بهذه القوات أدى إلى مفاقمة الانتهاكات وأعمال العنف الجهادي في المنطقة ضد المدنيين، وهو ما وظفته التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في متن إصداراتها الجهادية وجهودها الدعائية الرامية إلى تجنيد عناصر جديدة في صفوفها، وتعميق النزاعات المحلية والطائفية، وبناء مشاعر مناهضة للأنظمة.
• تفاقم الخطر الإرهابي في منطقة الساحل الأفريقي: يزيد الوضع الأمني المضطرب في النيجر من الخطر الإرهابي المتزايد في منطقة الساحل التي تذهب كافة المؤشرات باتجاه تحولها إلى مركز ثقل للنشاط الإرهابي في أفريقيا، كما أنها تُعد المنطقة الأكثر تضررًا من الإرهاب على مستوى العالم بحسب النسخة العاشرة من مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023، وذلك في ظل وجود جملة من العوامل المحفزة لاستمرار المعضلة الأمنية، وفي مقدمتها استمرار الصراعات وحالة عدم الاستقرار السياسي في العديد من دول المنطقة مثل السودان وليبيا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا، وهو ما تجد فيه التنظيمات الإرهابية بيئة مواتية لممارسة نشاطها وتعزيز صفوفها، حيثُ أثبتت الشواهد التاريخية أن الاضطرابات والصراعات السياسية بشكل عام تخلق سياقات مُحفزة لتنامي ظاهرة الإرهاب، وهو ما تُجسده الحقائق الميدانية المرصودة، فوفقًا لنسخة المؤشر – التي سبقت الإشارة إليها –كان الصراع هو المُحرّك الرئيس للإرهاب منذ عام 2007؛ فمن بين 137009 حالة وفاة مرتبطة بالإرهاب بين عامي 2007 و 2022 حدث 132863 منها في بلدان متورطة في نزاع.
• إعاقة جهود النيجر مع شركائها الإقليميين والدوليين في مكافحة الإرهاب: مما لا شك فيه أن الأوضاع السياسية المضطربة التي تشهدها النيجر حاليًا ستؤثر سلبًا على جهود نيامي المشتركة مع دول جوارها الجغرافي في دحر الخطر الإرهابي، خصوصًا مع ظهور بوادر تحول النيجر من شريك رئيس في الترتيبات الإقليمية والدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب إلى طرف معزول إقليميًا، وهو ما يمكن ملاحظته في سلسلة الضغوط التي جاءت في ردود الأفعال الإقليمية والدولية على الانقلاب، حيثُ أعلن الاتحاد الأوروبي وقف كافة أشكال التعاون المالي والأمني مع النيجر إلى أجل غير مسمى، وبالمثل قامت فرنسا بتعليق جميع مساعدتها التنموية لنيامي، كما قررت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” تعليق كافة الأنشطة التجارية والمساعدات المقدمة إلى النيجر. ويُمكن القول إن استمرار فرض العقوبات على سلطات الانقلاب في النيجر والتلويح بالتدخل العسكري الخارجي، وتعليق المساعدات المالية والتنموية والأمنية المُقدمة للبلاد يُعزز من قدرة التنظيمات الإرهابية في الفترة المقبلة على التمدد والانتشار، في سيناريو يشبه ما حدث في باقي دول المنطقة؛ حيثُ تمكنت الأفرع التابعة لتنظيمي داعش والقاعدة من مد رقعة تمركزاتها الجغرافية بشكل كبير، منذ أن تسببت الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو في انخفاض المساعدات الأمنية الدولية المقدمة لهما.
ختامًا، يضاف الانقلاب الأخير والاضطرابات السياسية التي تشهدها النيجر حاليًا، إلى جملة المؤشرات الدالة على أن منطقة الساحل الأفريقي ينتظرها “سيناريو مُرعب” يُنذر باحتمالية مُفاقمة النشاط الإرهابي في الفترة المُقبلة، وذلك في ظل وجود جملة من المحفزات التي قد تستثمرها التنظيمات الإرهابية ومنها: استمرار حالة الفوضى والاضطرابات والسيولة الأمنية جراء الصراعات والانقلابات المتتالية التي تشهدها دول المنطقة، فضلًا عن الهشاشة الأمنية للمناطق الحدودية ونشاط الهجرة غير النظامية وأنشطة التهريب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وهو ما تجد فيه التنظيمات الإرهابية النشطة على الجغرافيا الأفريقية – وفي مقدمتها داعش والقاعدة بمفارزهما المختلفة – مساحة حركة أكبر لممارسة نشاطها ومضاعفة تعدادها البشري.