الأمريكتانإسرائيل

توترات عديدة.. ما هي الخيارات الأمريكية للتعامل مع أزمة التعديلات القضائية الإسرائيلية؟

أقر الكنيست يوم 24 يوليو 2023 الجزء الأول من التعديلات القضائية التي كان يدفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي أثارت الكثير من الجدل في الشهور الأخيرة سواء داخل إسرائيل أو خارجها؛ لكونها تقيد السلطة القضائية وقدرتها على مراقبة الحكومة، بالإضافة إلى إعطاء السياسيين حصانة خاصة، مما دفع الشعب الإسرائيلي إلى الاحتجاج.

دفع هذا الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إعلان رفضه لمثل هذه التعديلات في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة، وهو ما لم يقبله المسؤولون الإسرائيليون، حيث صرح أكثر من مسؤول إسرائيلي برفض التدخلات الأمريكية في السياسات الداخلية لتل أبيب، مع التأكيد أن إسرائيل مستقلة بذاتها ولن تقبل التدخل الخارجي حتى من أقرب أصدقائها. وبالرغم من هذا الرفض الواضح للتدخل الأمريكي إلا أن السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض أصدرت تصريحًا بعد موافقة البرلمان بتأكيد الرئيس بايدن على أهمية اتخاذ القرارات بإجماع الأغلبية العظمى، حيث حصل القرار على موافقة 64 نائب من أصل 120 في ظل رفض المعارضة المشاركة في التصويت.

أبعاد الأزمة الإسرائيلية

أصر “نتنياهو” على الدفع لتطبيق هذه التعديلات بالرغم من مواجهته الكثير من الضغوط الداخلية وأيضًا الخارجية، ومن الممكن تفسير هذا الإصرار برغبته الشديدة في التمسك بالحكم وتطبيق سياساته بشأن المستوطنات في الضفة الغربية بشكل حر تام، هذا بالإضافة إلى اتهامه في بعض قضايا الفساد، حيث ستمنحه هذه التعديلات حصانة كبيرة بصفته السياسي والمسؤول الأول في إسرائيل. وسينتج عن تطبيق هذه القرارات مواجهة نتنياهو للعديد من المخاطر على مختلف الأصعدة سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية.

فمن الناحية السياسية يواجه “نتنياهو” انخفاضًا كبيرًا في شعبيته، سواء بين أفراد الشعب الإسرائيلي أو السياسيين غير اليمينيين، حيث أظهرت استطلاعات الرأي بعد يوم واحد من قرار الكنيست توقعًا بانخفاض كبير في عدد مقاعد الائتلاف الحاكم في حالة إعادة الانتخابات. ويضع هذا الوضع تل أبيب في خطر الدخول في أزمة دستورية رفض المحكمة العليا للقانون مع تمسك الحكومة به، حيث بدأت بالفعل العديد من مجموعات المجتمع المدني مثل “الحركة من أجل جودة الحكم” التوجه لرفع دعوى ‏لدى المحكمة العليا لفحص مدى قانونية هذه التعديلات. بالإضافة إلى خطر توتر العلاقات مع أهم حليف لإسرائيل وهي الولايات المتحدة، بسبب ابتعاد إسرائيل عن الهوية الديمقراطية التي تدعم شراكتهما.

أما من الناحية الأمنية فتواجه إسرائيل خطرًا كبيرًا وهو انقسام بين صفوف الجيش، حيث أبلغ حوالي 700 طيار احتياط من بينهم 200 ضابط في سلاح الجو الإسرائيلي قادتهم بأنهم لن يواصلوا التطوع في الخدمة عقب إقرار البند الأول في خطة الإصلاح القضائي، بالإضافة إلى تهديد أكثر من 10 آلاف عسكري احتياطي بالامتناع عن الخدمة العسكرية احتجاجًا على التغييرات القضائية. ويشكل هذا الوضع غير المسبوق خطرًا كبيرًا على الأمن الإسرائيلي، خاصة في ظل توتر الأوضاع الخارجية وعدم امتلاك تل أبيب علاقات جيدة على الصعيد الخارجي في ظل رفض واشنطن لهذه التعديلات.

وتؤدي هذه المخاطر السياسية والأمنية بشكل طبيعي إلى خسائر اقتصادية، حيث بدأ المستثمرون الأجانب في القلق إثر الاحتجاجات والتوترات السياسية والذي نتج عنه انخفاض قيمة الشيكل في مقابل الدولار الأمريكي، بالإضافة إلى أن نحو 80% من الشركات الناشئة الإسرائيلية الجديدة اختارت نقل أعمالها خارج إسرائيل هذا العام بعدما كانت النسبة 20% في 2022. أيضًا قد أعلن بنك “مورجان ستانلي”، خفض التصنيف الائتمان السيادي لإسرائيل إلى سلبي مصرحًا بأن “هناك شكوكًا متزايدة فيما يتعلق بالتوقعات الاقتصادية لإسرائيل في الأشهر المقبلة” بالإضافة إلى أنه ينصح “بتجنب الاستثمار في إسرائيل في ظل حالة عدم اليقين”، وهو ما سيؤثر بشكل واسع على الاقتصاد الإسرائيلي.

تعد المخاطر الاجتماعية وجهًا آخر مهمًا من المخاطر التي تواجه تل أبيب؛ فإصرار كل من حكومة نتنياهو ومؤيديها من اليمينيين المتطرفين على هذه التعديلات يساعد في زيادة الغضب الشعبي الكبير الذي لا يزال في حالة ازدياد، وهو ما يهدد بخطر الحرب الأهلية كما صرح إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وهو الشيء الذي يهدد أمن واستقرار إسرائيل بشكل أكبر. من المتوقع أيضًا ازدياد معدلات الهجرة من إسرائيل إثر هذه الأوضاع، حيث كشفت استطلاعات الرأي بعد قرار الكنيست أن 28% من الشعب يفكرون بمغادرة إسرائيل، حيث أنهم يعتبرون هذا القرار بداية تحول إسرائيل إلى دولة ديكتاتورية بعدما كانت تصف نفسها بالدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.

موقف “بايدن” والولايات المتحدة من الأزمة

أظهر الرئيس الأمريكي جو بايدن رفضه لهذه التعديلات بوصفه لها بالـ”مؤسفة”، وكذلك بنصيحة “نتنياهو” بالتمهل ومراجعة حساباته، أو عدم اتخاذ أي قرار إلا بعد موافقة الأغلبية العظمى. ومن المعروف أهمية كل من واشنطن وتل أبيب لبعضهما البعض؛ فإسرائيل تعد الحليف الأول والأساسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والضمان الأساسي لواشنطن بوجودها وسيطرتها في المنطقة، ومن الجانب الآخر يعد الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي لإسرائيل هو الضامن الأساسي للأمن الإسرائيلي؛ إذ إنها لا تمتلك علاقات جيدة مع معظم الدول المجاورة لها سواء الدول العربية أو إيران مما يجعلها دائمًا في وضع مهدد.

وبالرغم من أن عدم تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية لحلفائها من المفترض أن يكون من أساسيات السياسة الخارجية الأمريكية، فإن طابع العلاقات الأمريكية الإسرائيلية يجعل السياسات الداخلية لتل أبيب تؤثر بشكل مباشر في مصلحة واشنطن والعكس صحيح. ولا تعد هذه المرة الأولى التي يحدث فيها خلاف أو ضغط من إحدى الجانبين على الآخر لتغيير سياسة أو موقف معين، لكن يختلف الوضع هذه المرة لعدة أسباب، ومن أهمها أن شكل الحكم الديمقراطي يعد أساس الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فمن الصعب على الولايات المتحدة التي تعد الداعم الأول للحكم الديموقراطي أن تكون حليفًا وشريكًا كبيرًا لدولة لا تطبق معايير هذه الديمقراطية. 

يمثل كذلك إصرار “نتنياهو” والائتلاف الحاكم الشديد على تطبيق هذه التعديلات تحديًا كبيرًا أمام “بايدن”؛ إذ إنه لا يستطيع أن يتخلى عن رفضه لهذه التعديلات خاصة بعد إعلانه المتكرر لهذا، وفي المقابل لا يستطيع التخلي عن الشراكة مع إسرائيل أو اتخاذ أي إجراء من شأنه تقليل النفوذ الأمريكي في تل أبيب وبالتالي في المنطقة، في ظل احتقان الوضع في الشرق سواء من الحرب الروسية الأوكرانية أو توتر العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين، أو حتى اقتراب إيران من امتلاك أسلحة نووية. هذا بالإضافة إلى التوجه الجديد إلى الشرق واستبدال الدولار في هذه المنطقة، وهو ما يجعل الولايات المتحدة غير قادرة على خسارة علاقاتها مع إسرائيل أو حتى تقليلها بأي درجة. 

وعلى الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة، فإن اقتراب الانتخابات الرئاسية يضع “بايدن” تحت ضغط آخر؛ إذ إن تصرفه وما ستفضي إليه هذه الأزمة سيؤثر بشكل كبير في حملته الانتخابية، لأن شكل العلاقة مع إسرائيل مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للشعب الأمريكي، وحدث من قبل عدم فوز الرئيس الأمريكي بانتخابات الولاية الثانية لأسباب من أهمها الدخول في خلاف مع إسرائيل، مثل ما حدث مع جيمي كارتر وجورج بوش الأب، يضاف إلى ذلك العلاقة الجيدة “لترامب” المرشح الأساسي ضد “بايدن”، والجمهوريين بشكل عام، مع “نتنياهو” والائتلاف الحاكم وهو ما سيدعم مرشح الحزب الجمهوري في حالة تصادم “بايدن” مع إسرائيل.

ويعد الأمل الوحيد “لبايدن” في إقناع “نتنياهو” بالتخلي عن التعديلات أو إرجائها هو فكرة التطبيع مع السعودية؛ فقد صرح “بايدن” بأن هناك تقدمًا في المحادثات مع السعودية بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الثانية للرياض خلال 3 أشهر. وأكد السفير السعودي في واشنطن بأن التطبيع مع إسرائيل غير ممكن إلا في حالة التوصل لحل سلمي مع الفلسطينيين، مما يشير إلى أنه من الصعب أن تقبل السعودية بالتطبيع في ظل تطبيق هذه التعديلات التي ستساعد حكومة نتنياهو على تنفيذ وعودها في الاستيلاء على الضفة الغربية. من الممكن أن يستغل “بايدن” هذه النقطة -حسب مصادر أمريكية- لتحييد السلطات الإسرائيلية عن تطبيق هذه التعديلات في سبيل ضمان التطبيع مع السعودية الذي يعد هدفًا مهمًا لإسرائيل.

 بالرغم من ذلك، من الممكن أن يكون الوضع معكوسًا؛ إذ إن مطالب السعودية للموافقة على التطبيع تتكون بشكل أساسي من جزأين: الجزء الأول هو الوصول لحل سلمي للقضية الفلسطينية وضمان عدم مهاجمة الفلسطينيين أو التضييق على السلطات الفلسطينية، وهو عكس أهداف الحكومة الإسرائيلية حيث يرغب
“نتنياهو” بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية للسيطرة عليها بشكل تدريجي؛ أما الجزء الثاني فهو رغبة السعودية في عمل اتفاقية أمنية متبادلة مع واشنطن وتطوير برنامج نووي مدني، وهو ما ترفضه إسرائيل وأيضًا الولايات المتحدة؛ خوفًا من بداية سباق تسلح نووي في المنطقة. من الممكن أن يكون رفض “نتنياهو” للتدخل الأمريكي والإصرار الشديد على تطبيق التعديلات هو ما إلا عملية ضغط على “بايدن”، ليسرع عملية التطبيع مع السعودية بدون حصول الرياض على كل مطالبها.

ختامًا، يزداد الوضع الداخلي الإسرائيلي في الاحتقان وعدم الاستقرار، ولم تظهر إلى الآن علامات تسوية من الحكومة أو بدايات لتقبل الشعب لتعديلات؛ إذ تخطت الأزمة مجرد احتجاجات على قرار حكومي إلى غضب شعبي ورفض تام لتغيير هوية وشكل النظام، بشكل لم تشهده إسرائيل من قبل. بالرغم من ذلك تتمسك الحكومة الإسرائيلية بهذه التعديلات بإصرار شديد وضع أهم شريك لها تحت ضغط كبير في محاولة التعامل مع الموقف، وأصبح الرئيس الأمريكي نتيجة لهذا في وضع لا يحسد عليه؛ إذ إن أي تصرف له الآن بإمكانه تهديد مستقبله السياسي بشكل كبير، من جانب ومن الجانب الآخر يهدد قوة العلاقات مع أهم حليف في المنطقة في ظل ارتفاع الأزمات والتوترات مع القوى الأخرى في الشرق. 

لا يملك “بايدن” الآن أي أدوات إقناع أو ضغط حقيقية إلا ورقة التطبيع مع السعودية، وإذا استطاع التفاوض مع الرياض بشكل سريع والوصول لشكل يرضي الطرفين سيتمكن من التخلص من هذه الأزمة لأن التطبيع مع السعودية هدف مهم بالنسبة لإسرائيل، ومن المرجح أن يكون الرئيس الأمريكي نصح الحكومة الإسرائيلية بالتمهل وعدم اتخاذ قرار إلا بالحصول على الأغلبية العظمى حتى يكسب بعض الوقت للتفاوض مع الرياض، لكن إذا لم ينجح في المحادثات مع السعودية فلا توجد مؤشرات لأي حلول أخرى في يد الرئيس الأمريكي.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى