أوروبا

“تدنيس الكتب المقدسة” بين حرية الرأي وخطاب الكراهية والعنف

شهدت الأسابيع الماضية، عدة حوادث خاصة بتدنيس الكتب المقدسة، كان أخرها حينما أقدم عدد من الأشخاص على حرق نسخ من المصحف الشريف أمام السفارتين المصرية والتركية في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، ولم تكن تلك الحادثة التي قوبلت بإدانات واسعة هي الأولى، فطالما كررت مثل تلك الأفعال في العاصمتين الدنماركية والسويدية، مع الرد بعدم إمكانية منع هذا الفعل بزعم حرية الرأي والتعبير. وفي هذا الصدد يسعى المقال إلى فهم أسباب الظاهرة وأبعادها وتداعياتها المختلفة.

استهجان عالمي شديد

استنكرت مؤسسة الأزهر الشريف في بيان شديد اللهجة في 26 يوليو 2023،  تمرير دولتي السويد والدنمارك قرارات تفتح الأبواب لسياسات العنصرية والهمجية ونشر العنف ضد الإسلام، وذلك من خلال السماح بحرق المصحف الشريف واستفزاز قرابة ملياري مسلم حول العالم، كما طالبت مؤسسة الأزهر، الشعوب العربية والإسلامية باستمرار مقاطعة المنتجات السويدية والدنماركية مهما كانت صغيرة، ودعت حكومات العالم الإسلامي ومنظماته الإسلامية، لضرورة التضامن لاتخاذ موقف موحَّد ومدروس تجاه انتهاكات هذه الدول التي لا تحترم المقدسات الدينية، ولا تفهم إلا لغة المادة والمصالح الاقتصادية. وفي نهاية البيان تعجبت المؤسسة من صمت المجتمع الدولي عن هذه الجرائم الدولية الخطيرة، وما يتضمنه هذا الصمت من تشجيع لهذه الدول على الاستمرار في ارتكاب جريمة العداء السافر للإسلام والمسلمين.

كذلك أعلنت وزارة الخارجية المصرية، عن استدعاء القائم بأعمال سفارة السويد في القاهرة بمقر وزارة الخارجية، وأبلغته إدانة مصر ورفضها الكامل -حكومة وشعبًا- للحوادث المؤسفة والمتكررة لحرق نسخ من المصحف، وأضافت الوزارة عبر بيان لها على صفحتها الرسمية، بأن الدولية المصرية سبق وقد حذرت من التداعيات الخطيرة والسلبية لتكرار تلك الأحداث المرفوضة، وما تؤدي إليه من تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وإثارة خطاب الكراهية والتطرف، وتشجيع المساعٍ والأفكار الهدامة الهادفة إلى هدم روابط التواصل الحضاري بين شعوب ومجتمعات العالم.

وبدورها أعلنت خارجية دول “قطر- السعودية – إيران“، عن استدعاء السفير القائم بأعمال سفارة السويد لتسليمه مذكرة احتجاج بعد منح السلطات السويدية تصاريح رسمية لحرق وتدنيس نسخ من المصحف. فيما نددت الخارجية” الأردنية- التركية – الفلسطينية” وأكدت أن هذا التصرف تعبير عن الكراهية والعنصرية تجاه الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم.

وتوالت الردود العالمية بعد بيان مؤسسة الأزهر ووزارة الخارجية المصرية، حيث أكد الاتحاد الأوروبي، رفضه القوي والحازم لأي شكل من أشكال التحريض على الكراهية الدينية وعدم التسامح؛ في أعقاب الأعمال الأخيرة التي نفذها أفراد في أوروبا وتسببت في الإساءة للعديد من المسلمين، وقد صرح في هذا الشأن “جوزيب بوريل” الممثل الأعلى الأوروبي للشؤون الخارجية، بأن حرق نسخ من القرآن الكريم أو أي كتاب مقدس هو اعتداء واستفزاز واضح، وأن الوقت قد حان للوقوف معًا من أجل التفاهم والاحترام المتبادلين. 

فيما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدين جميع أعمال العنف ضد الكتب المقدسة، واعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي. وجدير بالذكر أن قرارات الجمعية العامة لا تتمتع بالقوة الإلزامية للدول مثلما يحدث مع قرارات مجلس الأمن، ولكنها في النهاية يمكن أن تتحول إلى قرار من مجلس الأمن أو تأخذ صيغة معاهدة تلتزم بها الدول. أيضًا أعربت وزارة الخارجية الأمريكية عن استيائها، وصرحت بأن حرق النصوص الدينية فعل غير محترم وأمر مهين.

لماذا السويد والدنمارك تحديدًا؟

تظل أغلب حوادث تدنيس الكتب المقدسة مرتبط بالعاصمتين السويدية والدنماركية، ويمكن أن نرجع ذلك إلى عدة أسباب:

أولًا: صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في كلتا الدولتين، مثل حزب الديمقراطيين السويديين، والذي يمثل أكبر أحزاب اليمين وثاني أكبر حزب في السويد، كما يعرف أيضًا بكونه موحدًا للأطياف المختلفة من الوسط اليميني المتطرف في السويد بما في ذلك الفاشيين وأنصار “القومية البيضاء”، وتعتمد أسس خطابه السياسي على تعزيز العصبية القومية ومناهضة الهجرة واللجوء وتصاعد العداء ضد الإسلام، في ذات السياق في الدنمارك أيضًا، يتزعم “راسموس بالودان” وهو زعيم حزب هارد لاين اليميني المتطرف، عدة احتجاجات أحرق فيها نسخًا من القرآن الكريم، ومع نمو معدلات الهجرة من الدول العربية إلى الدول الأوروبية يزيد تنامي أفكار اليمين المتطرف وانتشاره، مما يؤدي إلى تنامي الكراهية تجاه المسلمين ومقدساتهم فيما يعرف بظاهرة الإسلاموفوبيا.

ثانيًا: الإطار القانوني والدستوري لكلا الدولتين فيما يخص حرية الرأي والتعبير بشكل مطلق، حيث إنها لا تجرم أو تحرم حرق الكتب المقدسة بشكل عام، فعلى سبيل المثال، وافقت الشرطة السويدية في ذات الشهر على طلب مواطن سويدي بحرق “التوراة” أمام السفارة الإسرائيلية في ستوكهولم، وعلى أثرها أدانت قيادات سياسية ودينية إٍسرائيلية سماح السويد بهذا التجمع. واعتبر المسؤولون الإسرائيليون القرار بمثابة “جريمة كراهية“، مطالبين بـ “احترام الكتب المقدسة“، هذا الفعل وإن كان نادر الحدوث مقابل تكرار حوادث حرق المصحف، ولكنه دليل علي التوجه والمزاج العام للدولتين، بعدم المعاقبة على تلك الأفعال منذ إلغاء قانون التجديف “قانون ازدراء الأديان” في السبعينيات والذي كان يعتبر حينها جريمة يعاقب عليها بالإعدام، ويبدو أن هناك حساسية وتخوفًا واضحًا تجاه إعادة الصورة الذهنية لهذا القانون لدى الغالبية العظمى من المواطنين.

ثالثًا: يضطلع جهاز الشرطة في البت سواء بالمنع أو السماح بتنظيم التظاهرات العامة، والحالة الوحيدة للمنع هو وجود خطر على الأمن المجتمعي، وبالفعل منعت الشرطة السويدية سابقًا طلبين لتنظيم تجمعات لحرق نسخ من المصحف، وذلك بعد أن وصلت الشرطة إلى خلاصة مفادها بأن أحداثًا مثل هذه ستزيد من خطورة وقوع أعمال إرهابية ضد السويد، لكنها قوبلت بالرفض من المحكمة العمومية لعدم تقديم الشرطة أدلة مقنعة، لذلك فإن تلك الأفعال من المرجح تكرارها وذلك لأن القانون يحظر الاعتداء على الأشخاص لأسباب دينية، ولكنه يسمح بالتطاول على المعتقدات والآراء الدينية بما فيها الكتب المقدسة.

مصالح مهددة

تصدرت ظاهرة إحراق الكتب المقدسة اهتمامات وسائل الإعلام السويدية، والتي كشفت عن تخوف من تداعيات تلك القضية على المجتمع السويدي وتمثلت أهم تلك المخاوف في إبطاء عملية الناتو السويدية،  بجانب التوتر الدبلوماسي الواقع في العديد من الدول التي قامت بسحب أو تسليم مذكرة احتجاج للسفير، والذي يترتب عليه أيضًا تكبد السويد خسائر اقتصادية ناجمة عن المقاطعة التجارية لمنتجاتها، إضافة إلى تخوف الإعلام من الخطر الذي قد يلحق بالمواطنين السويديين في الخارج وحدوث أفعال إرهابية ضدهم، كرد فعل على تلك الحوادث المتكررة التي تثير الغضب في نفوس ما يقارب من ملياري مسلم. 

وبناء عليه، فقد أكدت بعض القنوات والصحف السويدية أنه وفقًا للدستور “فمن الممكن فرض قيود على حرية التعبير في مواقف معينة“، ولذلك حان الوقت برأيها “لمراجعة التشريع وقدرة الشرطة على منع الإجراءات التي يمكن أن تضر بشكل خطير بمصالح السويد”. ويمكن القول بأن هناك فرصة حقيقية لكلا الدولتين في مراجعة موقفهما تجاه ازدراء الأديان تحت مصطلح “حرية الرأي”، خاصة في ظل استهجان شعبي داخلي وضغوط دولية ومصالح اقتصادية مهددة.  

أخيرًا، تعتبر حرية التعبير إحدى ركائز المجتمعات الحرة والديمقراطية وهي حق مكفول للجميع، وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 19 على حرية التعبير بأن “لكل إنسان حق في حرية التعبير؛ ويتضمن هذا الحق حرية التماس المعلومات والأفكار بجميع أنواعها وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، دونما اعتبار للحدود، إما شفاهة، وإما خطيًا أو في شكل مطبوع، وإما في قالب فني، وإما بأي وسيلة أخرى يختارها”. 

وعلى الرغم من ذلك فهناك عدة قيود مسموح وضعها لتلك المادة منها حظر المادة 20 “الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف” وهو ما يمثل الحد الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه “أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الأصل أو نوع الجنس أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية“، وبناء عليه، تأتي حتمية مواجهة خطاب الكراهية وذلك لتداعياته الخطيرة على المجتمعات من انتشار التطرف العنيف، إضافة إلى بث روح العنصرية والتفريق تجاه الأقليات مما يترتب عليه تهديد السلم والأمن للمجتمعات.

آلاء برانية

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى