ما هي تأثيرات نقل مقاتلي فاجنر إلى بيلاروسيا على التصعيد مع بولندا؟
في سياق ما اَلت إليه التطورات الأخيرة على الساحة الروسية، خاصة بعد إخماد تمرد “فاجنر” نهاية شهر يونيو 2023، نتيجة للاتفاق الذي تم التوصل إليه برعاية بيلاروسيا، والذي يقضي أحد بنوده بإبعاد مُقاتليها إلى بيلاروسيا. بدأت الدول الأعضاء في حلف الناتو والدول المجاورة لبيلاروسيا ترى أن وجود “فاجنر” في بيلاروسيا يُمثل تهديدًا مُباشرًا لأمنها، حيث تستشعر بولندا وليتوانيا وأيضًا أوكرانيا الخطر من التعرض لأي تهديدات جديدة، مما يُعني أن المرحلة القادمة قد تشهد الكثير من التعقيدات، خاصة مع تزايد أعداد مقاتلي “فاجنر” في بيلاروسيا.
ونتيجة لذلك، قررت بولندا تعزيز حدودها الشرقية من خلال زيادة عدد الأفراد العسكريين، وإضافة المزيد من الحواجز والتحصينات، الأمر الذي أثار قلق روسيا وحليفتها بيلاروسيا تجنبًا لإقدام بولنداعلى شن هجوم عسكري على أراضي بيلاروسيا، الأمر الذي دفع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للقول إن أي عدوان على بيلاروسيا سيكون بمثابة عدوان على روسيا نفسها، وأن موسكو ستُدافع عن بيلاروسيا بكل الوسائل المُتاحة.
التعزيزات العسكرية لبولندا والرد الروسي أثارا التساؤلات حول المدى التي يُمكن أن يأخذه مسار الحرب الروسية الأوكرانية في الأيام القادمة؟ وهل تتوسع باتجاه بولندا؟ وهل تُغامر روسيا بفتح جبهة قتال جديدة خاصة مع دولة عضو في حلف الناتو؟ وما هي احتمالات هذا الأمر؟
مقاتلو فاجنر.. إشكالية الدور
حتى الآن، لا يزال من الصعب تحديد عدد مقاتلي “فاجنر” الذين وفدوا إلى بيلاروسيا، وما هي طبيعة الدور الذي سيُمارسونه. وأثناء لقاء الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” مع الرئيس “بوتين” في مدينة سان بطرسبرج الروسية يوم 23 يوليو 2023، طمأن “لوكاشينكو” الرئيس “بوتين” حول وضع قوات “فاجنر”، ونقل له “المزاج السيئ” لمقاتليها ورغبتهم بالقيام بجولة إلى “بولندا”، لكنّه أضاف أن بيلاروسيا لن تسمح لهم بالانتشار بعيدًا عن أراضيها، مع إحكام السيطرة على تحركاتهم.
في السياق ذاته، أوضحت وسائل إعلام روسية أن زعيم “فاجنر” يقيم في موسكو وسان بطرسبرج؛ لحل القضايا المُتعلقة بالحفاظ على سيطرة “فاجنر” على عملياتها في دول العالم الثالث. ومن شأن التوصل إلى اتفاقيات نهائية بهذا الصدد أن تُحدد الدور الذي ستلعبه “فاجنر” في الاستراتيجية العسكرية الروسية في الفترة القادمة. في المقابل، فإن بيلاروسيا ستعمل على الاستفادة من وجود مقاتلي “فاجنر” على أراضيها، ونقل خبرتهم القتالية لقوات مينسك.
في سياق آخر، سيعمل الرئيس البيلاروسي على الاعتماد على مقاتلي “فاجنر” في حال تعرض بلاده لأي حالة من حلات عدم الاستقرار الداخلي، وربما يستخدمهم في قمع أي حركات داخلية تُهدد حُكمه. وتحسبًا لأن تسعى “فاجنر” للتمرد والانقلاب على “لوكاشينكو” نفسه، فسيعمل على تشكيل وحدات منفصلة من مقاتليها، وعدم تجميعهم في مكان واحد، بل في أماكن مُتفرقة؛ ليسهل السيطرة عليهم.
هل تتمدد الحرب إلى بولند؟
فيما يتعلق باحتمالية تمدد الحرب الروسية الأوكرانية وتوسعها باتجاه بولندا، يُمكن القول أن حتى اللحظة الراهنة لا يُمكن التنبؤ بدقة بتطور الحرب في هذا الاتجاه، على الرغم من ملاحظة نشاط متنامٍ وتحركات عسكرية مُتصاعدة في تلك المنطقة، الأمر الذي يُزيد من حِدة المخاطر.
لكنَّ تحركات فاجنر في منطقة البلقان تثير قلقًا واضطرابًا في بولندا ودول أخرى في المنطقة. ويعود ذلك إلى طبيعة الدور القتالي الذي تقوم به المجموعة، سواء في الدول الخارجية خاصة الدول الإفريقية أو ما ظهر من خلال دورها المحوري في الحرب الروسية الأوكرانية.
ومن أبرز التحركات التي أثارت القلق في بولندا هي توسيع بيلاروسيا لنشاطها العسكري على الحدود الغربية للدولة، والتي تشمل الحدود البولندية. وبالتالي يتبلور التخوف حول قيام “فاجنر” بتوجيه تهديدات مُباشرة لبولندا ودول أخرى في المنطقة، مما يزيد من المخاوف بشأن الأمن الإقليمي. وفي هذا السياق، تعمل بولندا على زيادة الحضور العسكري؛ لتعزيز الأمن والتصدي لأي تهديدات أمنية تشكل خطرًا على الدولة، وتجنب أي تصعيد يمكن أن يؤدي إلى تدهور الأوضاع الحالية.
وقد يخلط البعض بين العواقب السياسية والأمنية لقرار إبعاد مقاتلي “فاجنر” إلى بيلاروسيا، ولكن يجب الفصل بين العواقب السياسية والأمنية لهذا القرار، وتأثيره على دول الناتو وخاصة بولندا.
- من الناحية السياسية، فإن قرار إبعاد “فاجنر” إلى بيلاروسيا قرار سياسي وذلك عقب وساطة بيلاروسيا بين زعيم فاجنر “بريجوزين” والرئيس “بوتين” وبموجب هذا القرار أُخمد التمرد سريعًا وتجنبت روسيا صدامًا كان وشيك الحدوث بين فاجنر والمؤسسة العسكرية الروسية، خاصة مع تصريحات سابقة لـ “بريجوزين” هاجم فيها بأشد العبارات وزير الدفاع الروسي ورئيس أركان العمليات العسكرية الروسية.
- من الناحية الأمنية، فإن إبعاد فاجنر إلى بيلاروسيا يثير مخاوف بعض دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخاصة “بولندا” بشأن الأمن الإقليمي. وتتخوف هذه الدول من أن يستغل الرئيس البيلاروسي الأزمة الحالية لإثارة التوترات في المنطقة بشكل عام، وتعمل الدول الأعضاء في الناتو وبولندا على زيادة الحضور العسكري والاستعدادات الدفاعية في المنطقة لتحسين الأمن الإقليمي.
ولذلك، تحسبًا لأي تهديدات قد تحدث من جانب بيلاروسيا؛ اتخذت دول الناتو وبولندا عددًا من الخطوات لتحسين الأمن الإقليمي في ظل التوترات الحالية في المنطقة، من بين هذه الخطوات: أولًا، زيادة الوجود العسكري؛ إذ يزيد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من وجوده العسكري في المنطقة من خلال نشر القوات والمعدات العسكرية وتعزيز القدرات الدفاعية، وذلك لتأمين الحدود الشرقية للحلف والحفاظ على الأمن الإقليمي. ثانيًا، تعزيز التعاون الأمني؛ إذ يعمل حلف شمال الأطلسي وبولندا على تعزيز التعاون الأمني مع دول المنطقة، بما في ذلك التعاون العسكري والاستخباراتي والأمني، وذلك لتعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة التهديدات الأمنية المشتركة.
تحديات توسع الحرب الروسية الأوكرانية في بولندا
حتى الوقت الراهن، لم يحدث أي شيء يُشير إلى أن إبعاد فاجنر إلى بيلاروسيا بإمكانه إحداث تهديدًا مباشرًا لدول الناتو وبولندا، بل على العكس من ذلك فإن استمرار بولند في حشد مزيد من القوات والمعدات على حدودها مع بيلاروسيا قد يؤذن بصراع مُستقبلي، لكن روسيا ستكون حذرة في توسيع نطاق الحرب ويبدو أن هذا الأمر غير مُرجح استنادًا إلى عدد من المؤشرات منها:
أولًا: بولندا عضو في حلف شمال الأطلسي، ولديها اتفاقيات دفاعية مع الاتحاد الأوروبي. لذلك، في حالة تمدد النزاع إلى أراضيها، فإنه يمكن توقع استجابة قوية من قبل الحلفاء الدفاعيين لبولندا، وهذا يعني أن أي هجوم عليها سيشكل اعتداءً مباشرًا على دول الناتو، وقد يؤدي إلى تدخل عسكري من قبل الغرب.
ثانيًا: حتى وإن كانت بولندا تقوم بنشر تعزيزات عسكرية على حدودها مع بيلاروسيا، فليس بالضرورة أن تكون تلك التعزيزات لشن عمليات عسكرية، وربما يتمثل السبب الأهم في حماية حدودها الوطنية وأمنها الداخلي، خاصة وأن بولندا تعمل على منع تدفق اللاجئين إليها عبر بيلاروسيا.
ثالثًا: روسيا نفسها لن ترغب في فتح جبهة جديدة واسعة في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وبالتالي يبقى من غير المرجح امتداد أمد الحرب إلى بولندا.
رابعًا: بولندا دولة ذات حدود برية مباشرة مع أوكرانيا وليس لروسيا أي ذريعة مقبولة للتدخل العسكري كما فعلت في أوكرانيا، فضلًا عن أن الرأي العام والحكومة البولندية معارضان بشدة لروسيا ولن يقبلا بأي وجود عسكري روسي على أراضيهما، فضلًا عن أن بولندا تمتلك جيشًا قويًا نسبيًا وقدرات عسكرية جيدة، بالإضافة إلى دعم حلف الناتو.
خامسًا: بعد موقف مجموعة “فاجنر” الاخير في أوكرانيا، وإعلانها التمرد على النظام الروسي، لن يُغامر “بوتين” مرة أخرى في الاعتماد عليها بالقرب من مسرح العلميات الروسية؛ تجنبًا للتمرد مره أخرى، وسيعمل على تعزيز وجودها خلال الأيام القادمة في أفريقيا بشكل كبير. وهذا الأمر سيكون ذا فائدة كبيرة لروسيا؛ إذ إن فكرة ترحيل المتمردين إلى مكان -لا يُشكلون فيه تهديدًا- تُشبه ممارسة روسيا القيصرية، عندما تم إرسال أشخاص غير موالين للنظام إلى المنفى في القوقاز.
أخيرًا، يُمكن القول إن من مصلحة جميع الأطراف في المنطقة الحفاظ على الوضع الأمني، خاصة وأن أي تصعيد عسكري في المنطقة سيؤدي إلى آثار سلبية خطيرة؛ فإضافة إلى الخسائر البشرية، سيقود أي توتر إلى دمار للبنى التحتية والمرافق العامة، فضلًا عن تخوف الغرب من نزوح جماعي للاجئين والمشردين مما يزيد الأعباء الإنسانية. فضلًا عن حدوث اضطرابات اقتصادية وانهيارات مالية نتيجة توقف الأعمال والتجارة وهروب رؤوس الأموال. إضافة إلى تداعيات سلبية على الاستقرار الإقليمي وزيادة حدة التوترات بين الدول.