قراءة في الجولة الخليجية لرئيس وزراء اليابان
أجرى رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا”، جولة خليجية شملت الإمارات والسعودية وقطر في منتصف الشهر الجاري؛ بهدف معالجة عدد من القضايا واستكشاف الآفاق الجديدة في العلاقات بين اليابان ودول الخليج، حيث التقى “كيشيدا” في السعودية بولي العهد “محمد بن سلمان” حيث ناقش الزعيمان جوانب العلاقات المتعددة وكذا أبعاد التعاون في الاقتصاد والتبادل التجاري وتعميق الاستثمارات وزيادة وتيرتها. وركزت المناقشات كذلك على التعاون في إطار خطة “رؤية 2030” للمملكة العربية السعودية، والتي تهدف إلى تنويع ركائز اقتصاد البلاد من خلال تقليل الاعتماد على الدخل من إنتاج الهيدروكربونات.
وحول العلاقات اليابانية – الإماراتية، شهد العام الماضي الإعلان عن الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الإمارات واليابان، مما يمثل تطورًا مهمًا في العلاقات الثنائية، خصوصًا في مجالات الاقتصاد، والتجارة، والتكنولوجيا، والطاقة، والفضاء، والتعليم. علاوة على ما تقدم، تتطلع الإمارات إلى مشاركة اليابان النشطة في مؤتمر المناخ COP28 في دبي في وقت لاحق من هذا العام، خصوصًا أن اليابان والإمارات تتفقان على الابتكار والتعاون في مجال تغير المناخ من خلال تأمين إمدادات الطاقة التي تعتمد على التكنولوجيا الخضراء.
وفي هذا السياق، تعمل اليابان بنشاط على تطوير تقنيات طاقة متجددة وأكثر اخضرارًا، وتهدف إلى أن تكون محايدة للكربون بحلول عام 2050. مع الوضع بالحسبان أن مجال الفضاء من أهم المجالات التي تتعاون فيها البلدان، حيث عملت اليابان والإمارات معًا لاستكشاف الفضاء، وإجراء العديد من الاختبارات العلمية التي ستسهم في التطورات النوعية في مجالات العلوم.
ومن هنا، يمكن القول إن هناك حرصًا يابانيًا على تعميق العلاقات مع الخليج كمنظومة أو كوحدة واحدة، وقد بدت انعكاسات ذلك في اجتماع بين رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي، حيث أكد البيان الختامي أن إعطاء الأولوية لاستئناف مفاوضات التجارة الحرة مع اليابان له أهمية كبيرة، وجانب حاسم في الأنشطة الخارجية لمجلس التعاون الخليجي. وفي السياق ذاته، أعلن مجلس التعاون الخليجي واليابان عن استئناف المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة، التي من المتوقع أن تعزز الشراكة الاستراتيجية بين اليابان ودول المجلس، وتعزز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل لكل من الدول العربية واليابان.
وعند التعاطي مع الحالة اليابانية في مسألة الطاقة، نجد أن موقف اليابان يكشف عن وجود انقسام في نهجها يفرق بين منهجها والمنهج الغربي، وهو ما يؤثر على مسألة الحد من الانبعاثات الكربونية في القارة الآسيوية، ويعمق الفجوة بين اليابان ودول مجموعة السبع.
وفي هذا السياق، اقترحت المملكة المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا تخصيص عام 2030 كجدول زمني واضح للتخلص التدريجي من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، لكن اليابان قاومت تحديد موعد نهائي. وطلبت اليابان اعتبار الهيدروجين والأمونيا حلًا منخفض الكربون لتوليد الطاقة، لكن المفاوضين الأوروبيين والأمريكيين انتقدوا الطلب. كما دعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى وضع أهداف كمية لاعتماد السيارات الكهربائية. ولكن طوكيو التي كانت صناعة سياراتها تحت التهديد من صعود السيارات الكهربائية، اعترضت مرة أخرى. وتتقدم اليابان بطرح في هذا الإطار يعتمد على فكرة أساسية مفادها “مسارات مختلفة لتحقيق نفس الهدف” وهو بلوغ صفر انبعاثات بحلول عام 2050.
وتعتمد طوكيو في طرحها على عدد من الروايات، أولها وأهمها أن الطبيعة الجغرافية التي تسودها التضاريس الجبلية والشواطئ شديدة الانحدار، تجعل من الصعوبة تعميم فكرة الطاقة النظيفة على كل مناطقها، ويضاف إلى ذلك الكثافة السكانية العالية، فضلًا عن أن كارثة فوكوشيما رفعت وتيرة الاعتماد على الطاقة الأحفورية، وعمومًا فإن طبيعة اليابان تفرض عليها قيودًا تتعلق بأن احتياجاتها للطاقة تختلف كمًا وكيفًا عن الغرب.
وتعارض مجموعة السبع الكبار الطرح الياباني في هذا الإطار، وتصر على أن طوكيو تمتلك من المقومات ما يؤهلها لإنتاج كل طاقتها الكهربية من الشمس والرياح، ولكن هذا ليس الوضع في مناطق أخرى في آسيا تعاني بالفعل من نقص الأراضي المسطحة والنمو الذي يزيد الطلب على الطاقة، بدرجة تتجاوز إمكاناتها في الطاقة المتجددة.
بينما يمثل النهج الحالي للسياسة الخارجية اليابانية تحولًا ينبغي الالتفات له، فقد كانت اليابان إلى أمد قريب لا تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية في سياستها المعروفة بالحياد، أو ممارسة دور أمني أو عسكري ينافس الوجود الأمريكي أو الروسي أو الصيني في بعض المناطق ومنها المنطقة العربية، وإنما تهدف إلى تحقيق شراكات استراتيجية تضمن لها عوائد اقتصادية مباشرة. ومع وجود شينزو آبي انقلبت اليابان على سياستها الانكماشية، وانعكس ذلك مؤخرًا في زيادة اليابان لإنفاقها العسكري.
حيث يمكن استشفاف قلق طوكيو من الناحية السياسية والاقتصادية من زيادة إنفاقها العسكري، فقد ارتأت اليابان أن مصالحها السياسية والاقتصادية، باتت مهددة إذا لم تقدم الحكومة اليابانية على تبني سياسات جديدة تتلاءم مع المتغيرات في المنطقة، وبطبيعة الحال فإنه في عالم يتجه لحالة من التعددية القطبية، ومن ثم فإن الولايات المتحدة ليست القوة الدولية الوحيدة التي تسعى لتقوية علاقاتها مع الخليج، وإنما تظهر اليابان كمنافس قوي ومن هنا تبرز أهمية فهم المنظور الاستراتيجي للعلاقات اليابانية- الخليجية من الناحية المستقبلية من خلال عدد من النقاط:
– مسألة التكنولوجيا والطاقة المتجددة ستشكل حجر زاوية في التقارب الخليجي – الياباني في المستقبل، ذلك أنها من أهم مصادر تنويع الدخل القومي التي تستهدفها منطقة الخليج مستقبلًا، علاوة على ذلك فإن اعتماد اليابان على مصادر الطاقة التقليدية حتى الآن بشكل كبير، يجعل من الأهمية القصوى ليس فقط الحفاظ على مستوى علاقاتها بدول الخليج وإنما رفعها للمستوى الاستراتيجي.
– طبيعة هذه العلاقات المستقبلية أيضًا محكومة بعلاقات اليابان بمحيطها الآسيوي، ومستويات توظيف الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحديثة في دول الغرب الآسيوي والشرق الآسيوي، والترتيب الجديد في النظام الدولي ومدى انخراط اليابان في هذا النظام الجديد بل وموقعها فيه.
وبالاعتماد على الزاوية الأخيرة تحديدًا، يمكن التعويل على البراجماتية في العلاقات المستقبلية بين اليابان والخليج، على اعتبار أن المستوى الراهن من العلاقات يحقق للطرفين بعض الفوائد ولكن الفائدة القصوى لا زالت معلقة على رفع العلاقات لمستوى استراتيجي، وهو ما يبقى مرهونًا بدوره بالأوضاع الإقليمية في منطقة الخليج وكذا الأوضاع الاقتصادية، حيث تحرص العواصم الخليجية على الابتعاد عن فكرة الاقتصاد الريعي، فضلًا عم أن التقارب بين العواصم الخليجية والصين يخلق لطوكيو منافسًا آخر على قدر من العداء، ومن زاوية أخرى فإن المستوى الاستراتيجي للعلاقات اليابانية- الخليجية، يظل رهينة الأوضاع الدولية التي تتجه إلى تعددية قطبية لا تزال اليابان تتلمس طريقها فيها، وإن كانت سمتها الأبرز التحالفات الأمنية مع الغرب للضغط على التنين الصيني، ولتلخيص الرؤية المستقبلية فإن العلاقات بين اليابان والخليج مستقبلًا ستنتمي لعصر ما بعد النفط منهية فرضية النفط مقابل التكنولوجيا.