التصدع الإسرائيلي.. ومآلات الصورة الزاهية
أحدث شريحة إسرائيلية دخلت على خط الاحتجاجات الداخلية، هي مجموعة من “كبار علماء الذرة” كما أسمتهم وسائل الإعلام الإسرائيلية هددوا بالانسحاب من مناصبهم، احتجاجًا على إقرار الكنيست للتعديلات القضائية الأخيرة. لم يطرح الأمر كقرار جماعي سيخرج باسمهم، إنما هناك مجموعة من عشرة علماء خبراء نوويين بالفعل باعتبارهم مسؤولين عن تطوير القدرات النووية الإسرائيلية بحسب مناصبهم التي يشغلونها، حيث دار حديث بينهم مؤخرًا حول ما إذا كان من الصواب، استمرارهم في تلك المناصب داخل إدارة الدولة الإسرائيلية الحالية.
في تعبير لافت ودال؛ ذكر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تعليقه على الأحداث الداخلية، التي تصاعدت بشدة بعد تمرير الجزء الأول من التعديلات القضائية التي يتبناها ائتلافه الحاكم. وقال نصًا “أمد يدي في دعوة للسلام والاحترام المتبادل بيننا، دعونا نتوصل إلى اتفاقات”، وهو هنا لا يتحدث للفلسطينيين كما يبدو للوهلة الأولى من الصياغات، بل إلى داخل المجتمع الإسرائيلي وللقوى السياسية المعارضة. وهذا يعكس جدية حالة الانقسام التي ضربت الداخل الإسرائيلي، وحجم الهزة العميقة التي بات المجتمع أسيرًا لها، فيما اندفعت الفوضى ككرة الثلج التي تكبر كل يوم.
للمرة الأولى على سبيل المثال، تجمع عشرات الآلاف خارج الكنيست ابتداء من صباح يوم التصويت بينما كانت الحكومة تستعد لتمرير ما أسمته بـ”قانون المعقولية”، ظل تدفق المتظاهرون إلى الطرق المحيطة بالكنيست، وحرص الجمع على الإمساك بأيدي بعضهم البعض لمنع ضباط حرس الحدود من إخلائهم. مما تسبب في اشتباكات عنيفة عندما اضطرت الشرطة لاستخدام خراطيم المياه، لإخلاء المتظاهرين من الطرق المؤدية لمقر الكنيست، وخلق حالة عبر عنها النواب بالداخل أنهم تحت حالة “حصار”، وتزايد البعض منهم وتحدث لوسائل الإعلام واصفًا المشهد على غرار هجوم يناير ضد مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة.
من أبرز مظاهر الانقسام الحاد وحالة الفوضى التي تحاصر فعليًا الحكومة الحالية ما شهدته مدينة تل أبيب، حيث تجمع حوالي (15,000 شخص) في شارع كابلان بالقرب من مقر الجيش الإسرائيلي في البداية، قبل أن يبدأ المتظاهرون في التدفق نحو طريق أيالون السريع لإغلاقه. وأشعل النشطاء النيران في طرق كابلان وأيالون في الوقت الذي كان الهم الرئيس لقوات الشرطة فتح الطرق السريعة، بعد أن أصبحت عمليات إغلاق الطرق ظاهرة متكررة مع تصاعد الاحتجاجات، مثلما جرى بعد التصويت في خروج المتظاهرين إلى شوارع القدس الغربية، وأغلقوا طريق بيجن السريع وهو الطريق السريع الوحيد في المدينة لمدة ثلاث ساعات، قبل توجههم للتظاهر خارج المحكمة العليا.
حالة إغلاقات الطرق لم تقتصر على تل أبيب والقدس فقط، بل امتدت إلى مناطق عدة في حيفا ورعنانا وأماكن أخرى ليصبح الأمر أقرب لتسمية الأمن لها بـ”الظاهرة المتكررة”، وخطورتها أن أثرها الذي يشل الحياة العامة في تلك المدن ومحيطها، يتسبب في امتداد أثر الأحداث الصاخبة إلى مدى أبعد كثيرًا من مواقع الاحتجاجات. هذا تسبب في الحالة العصبية التي انتابت قوات الأمن ودفعها لتصعيد آليات المواجهة مع التظاهرات واستهداف المشاركين فيها، ومؤخرًا استبدلت المواجهة بخراطيم المياه الاعتيادية برش المواد الكيميائية ذات الروائح الكريهة، فضلًا عن القوة المفرطة ضد قيادات تلك الاحتجاجات وعناصر الإعلام بالخصوص. الاشتباكات المتبادلة؛ أسفرت عن إصابات في صفوف رجال الشرطة تجاوزت 15 شرطيًا في تل أبيب والقدس وحدهما، بعد لجوء المتظاهرين إلى استخدام الزجاجات المعبأة بالرمال كسلاح لمقاومة عنف الشرطة ضدهم.
المعارضة الإسرائيلية التي منيت بالهزيمة داخل تصويت الكنيست، وهناك عدد من أعضائها آثر الانسحاب من الجلسة مسجلًا موقفًا سياسيًا، اعتبروه كاشفًا لحجم التدليس الذي يمارسه الائتلاف الحاكم. الوزير بن غفير وصف النجاح في التصويت بـ”مجرد البداية” وهو يخطط مع أعضاء الحكومة لما بعده بالتأكيد، فيما ترى المعارضة أن إزالة معيار “المعقولية” يفتح الباب على مصراعيه، أمام حالات الفساد والتعيينات غير اللائقة للمقربين وأعضاء أحزاب بعينها، حيث يظل معظمهم غير مؤهلين لشغل المناصب المهمة. ويستشهد أصحاب هذا الطرح بنموذج كاشف يتردد على نحو واسع، عندما ألغت المحكمة العليا هذا العام تعيين رئيس الحكومة لرئيس حزب شاس “آرييه درعي” وزيرًا للداخلية والمالية، معتبرة أن التعيين “غير معقول” بسبب إدانته السابقة بمخالفات ضريبية. لهذا اعتبر يائير لبيد يوم التصويت “يوم حزين” وهزيمة كاملة للديمقراطية الإسرائيلية، كذلك شاركه بيني غانتس رئيس حزب “الوحدة الوطنية” المعارض الذي صرح بأنه ربما نكون قد خسرنا معركة لكننا سننتصر في الحرب!
هذه التعبيرات السياسية التصعيدية ليست بها مبالغات، بالنظر إلى ما يجري على الأرض ولحجم ردود الأفعال والتقييمات السلبية العديدة للأمر. ربما في زاوية جديدة وغير متوقعة؛ أعلنت عديد المؤسسات المالية الأمريكية الكبرى تقديرات صادمة لها علاقة بالواقع الاقتصادي والمالي لإسرائيل. فقد خفض بنك الاستثمار الأمريكي الشهير “مورجان ستانلي” يوم الثلاثاء الماضي الائتمان السيادي لإسرائيل إلى “مكانة سلبية”، مشيرًا في حيثياته إلى زيادة “عدم اليقين” بشأن التوقعات الاقتصادية للأشهر المقبلة. في ذات التوقيت تقريبًا أصدر بنك “سيتي” الأمريكي هو الآخر، مذكرة عاجلة لعملائه المؤسسين جاء فيها أن البيئة في إسرائيل “أكثر خطورة”، بعد أن أقرت الحكومة مشروع قانون يمنع المحاكم من ممارسة المراجعة القضائية بشأن معقولية قراراتها، ونصح فيها المستثمرون بشكل مباشر بتجنب الاستثمار داخل إسرائيل حتى استقرار الأوضاع.
في الوقت الذي جاءت تلك التقديرات الأمريكية مفاجئة على نحو ما، كانت هناك هواجس تتنامى منذ أشهر داخل أروقة وكالات التصنيف الائتماني الأخرى، “ستاندرد آند بورز” حذرت من تدهور الحكم في إسرائيل وإضعاف محتمل للسلطة القضائية والقوة المؤسسية في البلاد، وأثارت مخاوف عدة بشأن التوترات الاجتماعية والسياسية المحلية المتزايدة. وفي ذات السياق أصدرت وكالة “موديز” في أبريل الماضي تقرير يحذر من أن التصنيفات الائتمانية لإسرائيل ستتعرض لـ”ضغط هبوطي” إذا تحولت التوترات الداخلية إلى أزمة سياسية واجتماعية طويلة الأمد.
هذا التقدير الأخير لموديز صدر في إبريل من هذا العام، ويحذر فيه من طول الأمد، الذي طال بالفعل ليصل إلى شهر أغسطس متجاوزًا الأربعة أشهر من التصعيد والشروخ التي باتت أعمق مما تصورته الحكومة الإسرائيلية، ومما يحاول الائتلاف أن يسوقه داخليًا وخارجيًا. حتى باتت معها الصورة الزاهية التي تحاول تصديرها طوال الوقت محل شك واسع حتى لأقرب حلفائها، واشنطن أكثر قلقًا وغضبًا مما تحاول هي الأخرى أن تبديه في مواجهة ما يجري، وتستشعر الخطر الحقيقي الذي تواجهه الدولة الإسرائيلية في صلب ما يقوم عليه مشروعها.