أوروبا

أسباب وتداعيات صعود التيار اليميني في إسبانيا

أقيمت الانتخابات التشريعية المبكرة في إسبانيا يوم الأحد 23 يوليو 2023 وهي التي دعا إليها رئيس الوزراء، بيدرو سانشيز، بعد أن خسر حزبه “العمال الاشتراكي” في الانتخابات الإقليمية والبلدية في شهر مايو الماضي، والتي حقق فيها حزب “فوكس” اليميني نتائج فاقت كل التوقعات. وأسفرت الانتخابات التشريعية عن تفوق حزب الشعب المحافظ (يمين الوسط) مع حصول حزب “فوكس” (أقصى اليمين) أيضًا على تأييد متزايد، ولكن بدون حسم الأغلبية الكافية لتشكيل الحكومة؛ فقد حصد حزب الشعب 136 مقعدًا، بينما نجح الحزب الاشتراكي في الحصول على 122، هذا بالإضافة إلى حصول حزب “فوكس” على 33 مقعدًا، وحزب سومار (أقصى اليسار) على 31 مقعدًا، مما يعني أن كلا التيارين سيحاولان كسب تأييد الأحزاب الوسطية التي حصلت على باقي المقاعد للوصول للأغلبية الكافية أو الدخول في انتخابات جديدة في حالة فشل كل منهما في ذلك.

ويشكل صعود الأحزاب اليمينية في إسبانيا امتدادًا لما يحدث في العديد من الدول الأوروبية، حيث ظهر تقدم اليمين في نتائج انتخابات مختلفة (رئاسية/ برلمانية/ محلية)، إلى حد تشكيل أول حكومة إيطالية يمينية في سبتمبر 2022، بجانب مشاركة اليمين أيضًا إما في دعم حكومات مثل السويد، أو اشترك في حكومات مثل فنلندا وألمانيا، بخلاف استمرار حكومات أخرى يمينية تخطى وجودها عقدًا من الزمان مثل حالة فيكتور أوربان في المجر، أو تقترب من العقد مثل حزب العدالة والقانون في بولندا.

أسباب صعود التيار اليميني

تعددت مسارات صعود اليمين في أوروبا، فلم يتوقف الأمر عند دول الجنوب، خاصة دول شمال المتوسط التي تعاني من أزمات هيكلية، فسرها اليمين على أنها نابعة من سياسات الهجرة، والبقاء في الاتحاد الأوروبي؛ لكن دولًا مثل السويد وفنلندا اللتين تحققان أعلى معدلات رفاهية صعد فيها اليمين كبديل للأحزاب المعتدلة.

وبملاحظة تواريخ الاستحقاقات الانتخابية، نجد أنها أجريت إما في العام الأول من الحرب الروسية الأوكرانية أو عامها الثاني، وهو ما يشير إلى التأثر التدريجي بتداعيات هذه الحرب. ففي الانتخابات الفرنسية، كانت برامج المرشحين مرتبطة إما بمواقفهم من الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا أو التداعيات الاقتصادية وكيفية معالجتها. ومع استمرار الحرب، تدفقت موجات من اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، مما عزز موقف اليمين، وهو ما اتضح جليًا في انتخابات فنلندا التي برز فيها اللجوء كقضية محورية، ثم تشكيل الحكومة بمشاركة حزب “الفنلنديين” اليميني.

وقد تختلف حالة الناخبين من دولة لأخرى في التصويت للأحزاب التقليدية، وكذلك للأحزاب اليمينية، سواءً تبعًا للقيم الثقافية المنتشرة، من حيث الحنين للجذور القومية والتاريخية، أو للأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية. ويمكن توضيح أبرز عوامل صعود اليمين مؤخرًا في أوروبا عمومًا وإسبانيًا على وجه الخصوص، فيما يلي:

التحالفات السياسية: في الانتخابات التشريعية الإيطالية عام 2018، صعد حزب “رابطة الشمال” وحركة “خمس نجوم” (الشعبوية) إلى سدة الحكم عبر تحالف ثلاثي ضم معهما حزب “فورزا إيطاليا” برئاسة برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا الراحل، وصُنفت هذه الحكومة على أنها شعبوية تضم اليمين واليسار، لكنها سرعان ما تفككت بخروج حزب “رابطة الشمال” ودخول الحزب “الاشتراكي”، وبذلك يدعم حزب غير يميني حكومة شعبوية. ولا تُعد الحالة الإيطالية استثناءً، فقد شهدت انتخابات السويد عام 2022 حصول حزب “الديمقراطيين السويديين” على المرتبة الثانية خلف الحزب “الاشتراكي”، وبالطبع لم يتعاونا لتشكيل حكومة، لكن حزب “المعتدلين”، الذي جاء في الترتيب الثالث، اتفق على الحصول على دعم “الديمقراطيين السويديين” لتشكيل حكومة أقلية؛ نظرًا لأن الأحزاب الليبرالية وأحزاب الوسط رفضت أن تشارك في حكومة بها يمين متطرف.

في المقابل، بدت الحالة الفنلندية الأكثر اندماجًا بين يمين الوسط واليمين، حيث شكلا معًا ائتلافًا رباعيًا ضم بجوارهما حزبين “الليبراليين” و”الديمقراطيين المسيحيين”، وذلك عقب الانتخابات التي أُجريت في أبريل 2023، والتي جاء فيها حزب “الفنلنديين” في المرتبة الثانية بنسبة 20.1%، خلف حزب “الائتلاف الفنلندي” الذي حصل على 20.8%.

وفي الجانب الإسباني نجد أن تحالف حزب الشعب مع حزب “فوكس” كان عاملًا رئيسًا في تفوق التيار اليميني بشكل واضح في الانتخابات المحلية في مايو الماضي، بالرغم من رفض العديد من التيارات لحزب “فوكس” لتطرف أفكاره الشديد. ومن الجانب الآخر، يفسر البعض الصمود غير المتوقع لحزب العمال الاشتراكي في الانتخابات التشريعية بالموعد المبكر المفاجئ للانتخابات، إلا أنه لا يمكن إغفال دور تحالف الحزب الحاكم مع حزب “سومار” ومحاولة كسب رضى الأحزاب الوسطية.

التصويت العقابي: وهو عبارة عن تحول الناخبين تجاه تيار أو حركة أو حزب ليس إيمانًا به، بقدر ما هو عقاب لحزب آخر لم يلتزم ببرنامجه الانتخابي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك الانتخابات الإسبانية سواء الانتخابات المحلية التي أُجريت في شهر مايو الماضي أو الانتخابات التشريعية الأخيرة واللتين شهدتا تقدم حزب الشعب المحافظ وحزب “فوكس”، وتراجع الحزب “الاشتراكي”. ونفس الحال في انتخابات اليونان عام 2019، حين صوت الناخبون لصالح حزب “الديمقراطية الجديدة” على حساب الحزب “الاشتراكي”. وفي فرنسا لم يمنح الناخبون الرئيس إيمانويل ماكرون حرية تشكيل حكومة منفردًا، بل دعموا التيار الشعبوي بتياريه اليساري (حركة فرنسا الأبية)، واليميني (حزب “التجمع الوطني”).

الأوضاع الاقتصادية: أثرت الحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من تداعيات اقتصادية في الانتخابات الأوروبية التي أُجريت منذ اندلاع الحرب. وانقسمت الأحزاب اليمينية في رؤيتها لهذه الحرب ما بين تحميل الولايات المتحدة المسؤولية مع رفضها التدخل العسكري الروسي، أو خفض الدعم لموسكو والتعبير عن التضامن مع أوكرانيا. ففي إسبانيا، ازدادت أسعار السلع الأساسية خاصة السلع الغذائية وسلع الطاقة بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلى قلة الحبوب، وموارد الطاقة المختلفة، ولم تستطع حكومة “سانشيز” التوصل إلى حل كافٍ من شأنه معالجة أزمة التضخم، وهو نفس الحال في معظم الدول الأوروبية.

وفي هذا السياق، بدأ التفكير أكثر في التركيز على القضايا الداخلية مثل تعزيز القدرة الشرائية، وخفض الضرائب، وتحقيق العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى إلقاء اللوم على سياسات الاتحاد الأوروبي في الأزمة بدلًا من الحرب الروسية الأوكرانية. فجذبت هذه الأفكار العديد من الناخبين الأوروبيين نحو اليمين، مما أكسبه قوة رفعت أسهمه في مختلف الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة في أوروبا.

كسب تأييد الأسرة التقليدية: حيث يُعرف عن الأحزاب اليمينية أنها، بالإضافة إلى كونها قومية، فهي كذلك متدينة، حيث يرفض أغلبها عدة ظواهر مثل الإجهاض، والإلحاد، والمثلية الجنسية، وأي قيم أخرى تخالف العقيدة الدينية. لذا يبرز اليمين على أنه حارس قيم التدين والأسرة التقليدية التي تعيش في كنف الدين والأعراف التقليدية والتي بالطبع لها مواقف معارضة لما يخالف الدين أو القيم الأسرية.

تداعيات صعود التيارات اليمينية

يصاحب عادة تغير الأنظمة السياسية الحاكمة في الدول تحولات داخلية بها، وتأثيرات في علاقاتها الخارجية، وأحيانًا معالجة متباينة للأزمات. وفيما يخص صعود اليمين وتولي بعض أحزابه الحكم في عدة دول أوروبية، ثمة تداعيات متوقعة يمكن إجمالها فيما يلي:

مزيد من التشدد بشأن الهجرة واللجوء: تُعد قضية الهجرة واللجوء هي المكون الرئيس لليمين في أوروبا، والذي يُعرف عنه شعارات “لا للاتحاد الأوروبي، لا للهجرة واللاجئين”. ومن هنا انطلقت برامج الأحزاب اليمينية لتحميل مسؤولية التراجع الاقتصادي في دولها لوجود لاجئين، كما هو الحال في إيطاليا واليونان على وجه الخصوص، أو تعارض خطط الاتحاد الأوروبي ونظام الحصص القائم على تقاسم أعباء اللاجئين. 

ففي الخامس من يونيو 2023، بعدما أعلنت الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي عن التوصل إلى اتفاق حول نظام للهجرة يُلزم دول المتوسط مثل إيطاليا واليونان بترتيبات جديدة مع فرض قيود أكثر على اللاجئين، صوتت كل من بولندا والمجر ضد هذه المقترحات، وامتنعت عن التصويت دول أخرى مثل بلغاريا، ومالطا، وليتوانيا، وسلوفاكيا. وأعلنت زعيمة حزب “الفنلنديين” اليميني، ريكا بورا، أنها ترغب في إحداث نقلة نوعية في الهجرة، تجعل حصة بلادها تصل إلى 500 لاجئ فقط.

ومن الملفت صعود هذا التيار في إسبانيا في ظل رئاستها للمفوضية الأوروبية، حيث تعاني مدريد من مشكلة اللاجئين بشكل كبير وتهتم بالتحالفات مع دول شمال افريقيا للتصدي للهجرة غير الشرعية، وبالرغم من هذا إلا أنه لم يكن كافيًا لحل المشكلة أو حتى تخفيف الغضب الخاص بهذا الملف، مما جعل اهتمام حزب الشعب بتقليل اللاجئين ومحاولة القضاء على الهجرة غير الشرعية مغريًا للناخبين الإسبان.

تصاعد العنف والعنصرية: سبق أن برر رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، في عام 2015، رفضه استقبال لاجئين، بالخشية من اختلاط العرق المجري بالأعراق الأخرى. وفي ألمانيا، بحسب تقرير رئيس وكالة الاستخبارات المحلية، توماس هالدينوانج، فإن حوالي 10 آلاف من أصل 28,500 عضو في حزب “البديل” متطرفون، وقد نُسب لبعض أعضائه الاشتراك في محاولة الانقلاب التي جرت في 7 ديسمبر الماضي. وشهدت ألمانيا عام 2021 تسجيل الشرطة لما يفوق 55 ألف جريمة ذات دوافع سياسية أو دينية، منها حوالي 22 ألف جريمة اُرتكبت بدوافع يمينية متطرفة.

دعم التقارب مع روسيا: بعد انتصار رئيس الوزراء المجري، أوربان، العام الماضي، صرح بأن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، “خصم له”، وهو ما يُعبر عن تضامنه مع روسيا التي لطالما رفض أوربان استمرار العقوبات الغربية ضدها. وكذلك يدعو حزب “البديل من أجل ألمانيا” إلى تحسين العلاقات مع موسكو. ويدعم هذا الاتجاه في ألمانيا استطلاعات رأي تقول إن ثُلث الألمان لا يحبذون سياسات المستشار شولتس في الحرب الأوكرانية، وأن 55% ممن تم استطلاع رأيهم يرغبون في بذل برلين وحكومتها المزيد من الجهود لوقف الحرب وإنهاء القتال.

وعلى الرغم من عدم وضوح موقف التيار اليميني الإسباني من الحرب الروسية الأوكرانية بشكل كامل، فإنه لم يمتنع عن استغلال الأزمة في زيادة شعبيته، حيث اتهم أعضاء بالأحزاب اليمينية حكومة “سانشيز” بالموالاة لبوتين وعدم دعم أوكرانيا بشكل كامل، ولكن في نفس الوقت رفض رئيس حزب فوكس تحميل بوتين مسؤولية الأزمة الاقتصادية، وحملها بدلًا من ذلك لسياسات الحكومة الإسبانية والاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمة، مما يشير إلى تقارب التيار اليميني في إسبانيا مع روسيا ولكن بشكل غير كامل.

ختامًا، يمكن القول إن موجات صعود اليمين في أوروبا مستمرة ولها الكثير من الأسباب، وصارت لا تتوقف على الحالة الاقتصادية أو وجود وباء أو حرب؛ بل إن الحنين للقومية والبطولات التاريخية والاعتزاز بالقيم الثقافية التقليدية تمثل عوامل متحكمة أيضًا في مسارات اليمين. ومن شأن هذا الصعود أن يؤثر في قضايا عديدة، وسيكون من بين الخاسرين في هذا الصعود، اللاجئون في أوروبا الذين يضيق عليهم الخناق يومًا بعد آخر. 

ومن جانب آخر، لا يعني هذا ضعف التيار اليساري أو استبعاده بشكل نهائي، ففي الانتخابات الإسبانية التي لم تحسم مستقبل المشهد السياسي بعد، يتضح أن التيار اليساري ما زال قادرًا على المواجهة حيث استطاع بشكل فاجأ الجميع الحصول على نسبة مرتفعة من المقاعد، وفتح الباب لكل الاحتمالات؛ سواء قدرة أي من التيارين على استقطاب الأحزاب الوسطية، أو حتى قدرتهما على التوافق على حكومة مشتركة بينهم، على الرغم من كون هذين الاحتمالين هما الأبعد، واقتراب احتمال إقامة انتخابات جديدة للواقعية بشكل أكبر. لكن هذا لا ينفي أن المتغيرات سواء الداخلية أو الخارجية بإمكانها التأثير على الوضع في أي لحظة، وأن حتى في حالة استطاعة التيار اليساري الحفاظ على الحكم في إسبانيا، لن يخفي هذا الزيادة الكبيرة في شعبية التيار اليميني في إسبانيا، وأوروبا بشكل عام.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى