دلالة التوقيت: ماذا حمل لقاء “بوتين” و”لوكاشينكو” من رسائل؟
بعد أقل من يومين من تصريحات للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أعلن خلالها أن أي عدوان على بيلاروسيا سيكون بمثابة عدوان على روسيا نفسها، وأن موسكو ستُدافع عن بيلاروسيا بكل الوسائل المُتاحة؛ وذلك عقب قرار بولندا نقل وحدات عسكرية إلى حدودها مع بيلاروسيا ردًا على وصول قوات إلى بيلاروسيا من مجموعة “فاجنر”؛ زار الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” مدينة “سان بطرسبرج” الروسية يوم 23 يوليو الجاري، والتقى بالرئيس “بوتين” الذي أطلعه خلال زيارته على سير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فضلًا عن التطرق للعديد من القضايا الثنائية المُشتركة بين البلدين، وتقييم الوضع الراهن لمقاتلي “فاجنر”، مع الترتيب للتنسيق المشترك في الأيام القادمة.
توقيت زيارة “لوكاشينكو” لروسيا عقب أيام من تمكن روسيا من احتواء تمرد مجموعة “فاجنر” وإبعاد قواتها إلى بيلاروسيا، فضلًا عن التصعيد الذي يشهده الوضع في بولندا؛ يجعل للزيارة أهمية خاصة، ويحمل في الوقت نفسه عددًا من الرسائل والدلالات.
موسكو ومينسك…شراكة مُمتدة
تُعد بيلاروسيا الحليف الأوثق لموسكو، ويرتبط البلدان بشراكة طويلة ومُمتدة، وتتعمق العلاقات الثنائية لتغطي كافة المجالات تقريبًا بما فيها المجال العسكري. علاوة على ذلك، تجمع رئيسي البلدين “بوتين” و “لوكاشينكو” علاقة صداقة قوية؛ تجلت أبرز ملامحها في إعلان الرئيس البيلاروسي بالسماح لموسكو باستخدام أراضي مينسك لشن عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا في فبراير 2022. ويُجري البلدان باستمرار تدريبات عسكرية مُشتركة، وسمح الرئيس “لوكاشينكو” لموسكو باستخدام بلاده كقاعدة للأسلحة النووية الروسية، وهي الخطوة التي أثارت غضب المجتمع الغرب بشكل واسع.
ومُنذ بدء الأزمة الأوكرانية، تصدرت بيلاروسيا كثيرًا عناوين الصحف، على سبيل المثال، في نوفمبر 2022 أثار تدفق القوات الروسية وتصاعد النشاط العسكري في بيلاروسيا القلق من لعب “مينسك” دورًا مباشرًا في الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة مع بدا من تعثر للقوات الروسية على خط الأزمة. وبعد إعلان روسيا وبيلاروسيا في منتصف أكتوبر 2022، عن تشكيل قوة عسكرية مُشتركة للدفاع عن الحدود البيلاروسية، لوحظ انتشار وحدات طيران روسية في قواعد بيلاروسيا؛ الأمر الذي زاد من مخاوف أوكرانيا من قيام روسيا بشن هجوم جديد قد يستهدف مناطق في غرب أوكرانيا –انطلاقًا من الجارة الشمالية بيلاروسيا- لقطع الشرايين اللوجستية الرئيسة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات العسكرية من الغرب.
وعقب توقيع اتفاقية تشكيل القوة العسكرية المُشتركة بين روسيا وبيلاروسيا، أرسلت موسكو 9000 جندي روسي، وكذلك 170 دبابة و200 آلية أخرى و100 قطعة أسلحة ومدافع هاون. انتشرت هذه الوحدات في أربعة مواقع تدريب في شرق ووسط بيلاروسيا. وفي الوقت الذي أكدت فيه بيلاروسيا أن أهداف القوة العسكرية المٌشتركة دفاعية فقط؛ رأت كييف أن روسيا تعمل على جر بيلاروسيا بشكل مباشر للحرب.
في السياق ذاته، عملت روسيا ببطء وثبات لتعزيز وجودها العسكري في بيلاروسيا من خلال تنظيم مناورات مشتركة مفتوحة وإنشاء مرافق تدريب جديدة. واستغل الرئيس “بوتين” في ذلك عزلة “لوكاشينكو” الدولية واعتماده المطلق على موسكو لتوسيع البصمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لروسيا بسرعة في بيلاروسيا. وأدت المناورات العسكرية المتكررة والتبادل المستمر للقوات إلى وجود دائم فعلي للقوات الروسية في بيلاروسيا، مع وجود خطط لبناء قواعد روسية دائمة.
دلالات زيارة “لوكاشينكو” إلى روسيا
على الرغم من إعلان الكرملين أن زيارة “لوكاشينكو” تهدف لتطوير مجالات الشراكة بين كل من روسيا وبلاروسيا، فإنه يُمكن القول إن تلك الزيارة تحمل عددًا من الاستنتاجات منها:
● فتح جبهة جديدة للحرب الروسية: قد يُتوقع من هذه الزيارة أن يسعى الرئيس “بوتين” لحث نظيره “البيلاروسي” على فتح جبهة جديدة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، من خلال هجوم بري جديد يُجنب موسكو عملياتها المُتعثرة مُنذ شهور، ويُخفف الضغط على الجبهة الروسية خاصة مع استمرار عملية الهجوم المضاد الأوكرانية التي بدأت الشهر الماضي.
● طمأنة بوتين على وضع قوات “فاجنر”: عقب التمرد الأخير الذي شنته مجموعة “فاجنر” نهاية الشهر الماضي، والذي سُرعان ما تم احتواؤه عقب وساطة الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” والذي تم بموجبه التوصل إلى اتفاق يُقضي بإبعاد قوات “فاجنر” وقائدهم “يفغيني بريغوزين” إلى بيلاروسيا. لكنًّ الرئيس الروسي “بوتين” بالتأكيد يخشى تمردهم مرة أخرى. وفي هذا السياق طمأن “لوكاشينكو” الرئيس “بوتين” حول وضع قوات “فاجنر”، ونقل له “المزاج السيئ” لمقاتلي فاجنر ورغبتهم بالقيام بجولة إلى “بولندا”، كرد من الجانبين على بولندا ونقلها وحدات عسكرية إلى الحدود البيلاروسية، لكنه طمأن “بوتين” بأن بيلاروسيا تُسيطر على الوضع، ولن تسمح لهم بالانتشار بعيدًا عن بيلاروسيا.
● تخزين الأسلحة النووية: قامت روسيا في الفترة الأخيرة بنقل أسلحة نووية إلى بيلاروسيا، وربما خلال الاجتماع أن يكون الرئيسان قد تطرقا إلى مُناقشة بعض الخيارات المُتعلقة بتخزين الأسلحة النووية وحمايتها وتأمينها.
● رفض تقسيم أوكرانيا: تطرق الرئيس البيلاروسي إلى العديد من القضايا، بما في ذلك مسار العملية العسكرية الروسية الخاصة، وعدم وجود نتائج من الهجوم المضاد للقوات المسلحة لأوكرانيا، وزيادة النشاط العسكري لحلف شمال الأطلسي في بولندا. وقد طلب الرئيس البيلاروسي من الرئيس الروسي موافقته على تقديم الدعم لسكان غرب أوكرانيا؛ وذلك تحسبًا لاحتمال تدخل بولندا والغرب عسكريًا في أراضيهم، حيث يتخوف “لوكاشينكو” من قيام الغرب باقتطاع الغرب الأوكراني وضمه تحت مظلة الناتو، ومن ثم التدخل المباشر في أوكرانيا، وهذا سيناريو غير مقبول، داعيًا بوتين إلى التفكير في هذا الأمر.
● التأكيد على التنسيق المُشترك: جاءت تلك الزيارة في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات البيلاروسية توترًا مع “بولندا”، مع التخوف من دخول “الناتو” على خط الأزمة للدفاع عن حليفته، ومن ثم جاء هذا اللقاء ليعيد “بوتين” تأكيد دعمه لبيلاروسيا في مواجهة أي استفزازات أو تهديدات غربية. إذ يُدرك الكرملين أن الغرب يهدف إلى فتح جبهة جديدة لروسيا على الحدود الأوكرانية، وأيضًا لزعزعة استقرار حكم الرئيس “لوكاشينكو”، وبالتالي يأتي هذا الاجتماع للتأكيد على التنسيق المُشترك ضد أي استفزازات غربية على أي من الدولتين.
● تهديد لبولندا: على هامش اجتماع الرئيسين صرح الرئيس “بوتين” بأن “بولندا حصلت على أراض كبيرة في المناطق الغربية بفضل ستالين، وإذا نسيت وارسو ذلك فإن روسيا تذكّرها بهدية ستالين لها”، وذلك في إشارة إلى أن روسيا بإمكانها أن تقوم بتوجيه ضربة نوعية لبولندا إذا ما استمرت وارسو في خطواتها التي تراها موسكو استفزازية على حدود بيلاروسيا.
في الأخير، تأتي هذه الزيارة للتأكيد على أن بيلاروسيا ليست وحدها، وأن روسيا تمد يد العون والمساعدة لحليفتها وتقف بجانبها. وللتأكيد على أهمية “فاجنر” خاصة في الفترة المُقبلة، وقد يتم استخدامها من قبل روسيا وبيلاروسيا كرأس حربة للرد على أي استفزازات من جانب بولندا أو دول البلطيق، خاصة مع قيام بولندا الفترة الأخيرة بتعزيز قواتها العسكرية على الحدود مع بيلاروسيا، وبالتالي قد يتم الاعتماد على فاجنر من خلال أمرين: الأول، إما مساعدة قوات بيلاروسيا خاصة فيما يتعلق بعمليات التدريب لما لـ “فاجنر” من خبرة قتالية كبيرة في هذا المجال وتفوق عسكري اكتسبته من خلال المعارك التي خاضتها؛ والأمر الثاني، أن يتم الاعتماد من قبل روسيا وبيلاروسيا على قوات فاجنر في التسلل إلى بولندا ودول البلطيق للقيام بعمليات نوعية. وإرسال رسالة مفادها أن الدولتين “روسيا” و “بيلاروسيا” يقفان على أرضية مُشتركة، وعلى أتم الاستعداد لمواجهة أي استفزازات غربية.