مستقبل المفاوضات النووية بعد استبعاد المبعوث الأمريكي لشؤون إيران روبرت مالي
توارى المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، روبرت مالي، عن الأنظار منذ نهاية مايو 2023، وهو ما استُقبل بنوع من الحسرة لدى وسائل الإعلام الإيرانية؛ لأن الرجل كان من أشد المؤيدين في الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والقوى الكبرى، ليس فقط منذ توليه المسؤولية في يناير 2021، أي قبل عامين ونصف، بل وقبل ذلك بكثير، وكان كذلك أحد مهندسي “خطة العمل الشاملة المشتركة” أو ما يُعرف باتفاق 2015 النووي في لوزان.
وليس عجبًا في الوقت الراهن أن نرى حملات تأييد كبرى للعودة إلى المفاوضات النووية في فيينا خلال الأيام القليلة الأخيرة على الصفحات الأولى للصحف الإيرانية اليومية، وذلك مثل صحيفة “آرمان امروز” في عددها الصادر يوم الأحد 23 يوليو 2023 تحت عنوان “إزاحة الستار عن المحاور الأربعة للمفاوضات الإيرانية الأمريكية”.
إذ قد يشير هذا إلى أن المخاوف بدأت تتصاعد في الداخل الإيراني، ولدى الأمريكيين المؤيدين للاتفاق النووي أيضًا، بشأن ظهور تحديات جديدة أمام المفاوضات النووية في فيينا والملف النووي الإيراني برمته بعد “الإجازة” التي منحتها الخارجية الأمريكية لروبرت مالي مؤخرًا.
ماذا حدث لمبعوث الولايات المتحدة لشؤون إيران “روبرت مالي”؟
بدا واضحًا منذ أن عقدت نائبة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، يوم 16 مايو 2023 جلسة سرية مشتركة مع نواب أمريكيين بشأن “مسار المفاوضات مع إيران”، أن مبعوث الولايات المتحدة لشؤون إيران قد توارى عن أنشطته المعنية. وفي الوقت نفسه، فعلى الرغم من أن المعلومات غير مكتملة حتى الآن بشأن إبعاد روبرت مالي عن المشهد الإيراني داخل أروقة الدبلوماسيين الأمريكيين، يبدو أن “الإفصاح عن معلومات” لم يكن مصرحًا بها كان السبب وراء منح “مالي” إجازة رسمية.
فقد كان الرجل، حسب وسائل إعلام إيرانية وأمريكية، منفتحًا على الحوار مع إيرانيين في الولايات المتحدة (مسؤولين وأفرادًا غير مسؤولين ولكنهم معنيون بالملف الإيراني) ومسؤولين آخرين داخل إيران، ويبدو أن هذا الأمر كان سببًا في استبعاده مؤخرًا من منصبه. ولعل مثل هذه الاتصالات لم تكن جديدة على الدبلوماسي “مالي” ذي الخبرة والتجربة الطويلة في عمليات التفاوض ليس فقط فيما يتعلق بالملف الإيراني، ولكن أيضًا فيما يخص قضايا أخرى مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وعلى أي حال، نشرت صحيفة “طهران تايمز” الإيرانية الناطقة بالإنجليزية تقريرًا مثيرًا للجدل قبل أيام قالت فيه إن “روبرت مالي كان على اتصال مشترك مع أشخاص مختلفين ودوائر اتصال أخرى من أجل تحقيق تقدم في سياسات واشنطن إزاء إيران، وكانت له جلسات مع هؤلاء الأشخاص”. وأوضحت أن من بين هؤلاء الأشخاص أفراد لهم باع فيما يخص الدبلوماسية الأمريكية إزاء إيران.
ولم يقتصر الأمر، حسب الصحيفة، على لقاءات مع دبلوماسيين إيرانيين، مثل ممثل إيران لدى الأمم المتحدة “أمير سعيد إيرواني”، أو أمريكيين معنيين، بل شمل الأمر “محللين” للشأن الإيراني على وسائل الإعلام. وتضيف الصحيفة الإيرانية بشأن السبب وراء إبعاد روبرت مالي قائلة “من المحتمل أن مالي لم يعمل في اتصالاته بهؤلاء الأفراد وأحاديثه معهم على صون مبادئ رعاية المعلومات، وأنه قد طرح نقاطًا لم يُصرّْح له بها رسميًا”.
وإن كان هذا الأمر صحيحًا، فإن هدف مالي بالضبط كان دفع المفاوضات النووية قدمًا بعد تعثرها منذ شهر سبتمبر 2022، وهو ما يُعد تكتيكًا تفاوضيًا كان يرمي من ورائه إلى التأثير على فريق التفاوض النووي الإيراني، وهو ما قاده بالأساس إلى عقد لقاء مع أفراد مؤثرين في هذا الصدد مثل:
● سفير إيران لدى الأمم المتحدة “أمير سعيد إيرواني”، الذي التقى به “مالي” سرًا وتفاوض معه.
● “علي واعظي”، أحد أبرز الباحثين الإيرانيين، وكان عضوًا في منظمة مجموعة الأزمات الدولية –Crisis Group.
● “تريتا بارسي” الباحث الإيراني المولد الذي يحمل الجنسية السويدية ويقيم في الولايات المتحدة وهو أيضًا مؤسس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي (National Iranian American Council).
● “ولي رضا نصر”، وهو أمريكي من أصل إيراني يعمل أستاذًا جامعيًا في الوقت الحالي لدى “مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة” التابعة لجامعة “جونز هوبكنز” الأمريكية، وهو عضو في واحدة من أشهر مراكز الفكر العالمية وهو مركز “بروكينجز-Brookings” الأمريكي.
ويُحسَب لهؤلاء الأفراد جميعهم أنهم على اتصال قوي بأعضاء الحزب الديمقراطي الأمريكي بوجه عام، سواء في عهد باراك أوباما السابق أو إدارة جو بايدن الحالية. وفي الواقع، فإن مثل هؤلاء الأفراد الإيرانيين وغيرهم يلعبون دورًا مؤثرًا في العلاقة بين فريق التفاوض النووي الإيراني والسياسيين الديمقراطيين في الولايات المتحدة.
وهو ما يبرهن على أن مقصد روبرت مالي من هذه اللقاءات كان إحداث تقدم في المفاوضات النووية، ولكن يبدو أن “طرح معلومات غير مصرح بها”، كما تشير العديد من التقارير الإعلامية الأمريكية والإيرانية، كان السبب الرئيس وراء استبعاد “مالي” في الوقت الراهن. ولعل ما قد يؤيد هذا هو إسناد ملف روبرت مالي مؤخرًا إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “أف بي آي-FBI”.
خلاف بين الكونجرس ووزارة الخارجية الأمريكية
لم يصمت الكونجرس الأمريكي إزاء التطورات ذات الصلة بملف روبرت مالي، خاصة النواب الجمهوريون الذين طلبوا الحصول على الوثائق والمستندات ذات الصلة بملف روبرت مالي من وزارة الخارجية الأمريكية من أجل التحقيق فيها. ولكن، قوبل هذا الطلب برفض قاطع من جانب الخارجية الأمريكية، في الوقت ذاته الذي أكد فيه رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، مايكل ماكول، على أنه لن يجيب على أية تساؤلات بشأن ملف “مالي”. وقد دعا هذا النواب الجمهوريين إلى توجيه انتقادات لإدارة بايدن.
ولكن، على الرغم من إلغاء تصريح روبرت مالي الرسمي بالعمل مبعوثًا لإيران وإزالة صورته من حساب “تويتر” الخاص ببعثة الولايات المتحدة لشؤون إيران، فإن صديقه ووزير الخارجية الأمريكي الحالي، أنتوني بلينكن، قد أثنى على عمله خلال السنوات الماضية وقال “ما يمكنني قوله هو أنني أعرف روبرت مالي منذ سنوات، وهو شخص كرّس حياته وعمله بشكل مثير للإعجاب لحماية بلدنا”.
أمننة المفاوضات النووية: مستقبل مباحثات فيينا بعد إبعاد روبرت مالي
تشير التطورات المذكورة بشأن قضية روبرت مالي إلى أن الأخير لن يعود لمنصبه، ولعل من أبرز هذه المؤشرات تحقيقات مكتب “FBI” وإزالة صورة مالي من حساب “تويتر” الخاص ببعثة الولايات المتحدة لشؤون إيران. ومن هذا المنطلق نتطرق فيما يلي لطبيعة مسار المفاوضات النووية المستقبلي بين الولايات المتحدة وإيران في ضوء رحيل مبعوث واشنطن روبرت مالي.
خلفاء “مالي”
كان روبرت مالي من أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين في التعامل مع الملف الإيراني، حيث كان قد نسج علاقات جيدة للغاية مع مسؤولين إيرانيين وغيرهم من الإيرانيين الأمريكيين المعنيين والمؤثرين في الملف الإيراني، وليس فقط ملف المفاوضات النووية. وقد أكسب هذا “مالي” هو الآخر تأثيرًا في المفاوضات النووية جعلته في الواقع أحد محركيها البارزين خلال العامين الماضيين.
أما مع استبعاد مالي، فقد برزت على السطح وتولت شخصيات بديلة تبدو أقل تعاملًا منه مع مؤثرين في الشأن الإيراني في الداخل والخارج وهي أيضًا لا تُبدي، على ما يبدو حتى الآن، مرونة في التعامل مع طهران مثل “مالي”. وهي شخصيات أكثر قربًا من مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي، جيك سوليفان الذي يوصَف في الداخل الأمريكي بأنه “منافس” لروبرت مالي، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بدوره إزاء إيران.
وجاء أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين في هذا الشأن على النحو التالي:
“إبرام بالي”: وهو الذي تولى مسؤوليات روبرت مالي بالوكالة. وحسب تقارير، فإن “بالي” لا يتمتع بشبكة علاقات في مجال إيران مثل تلك التي يتمتع بها روبرت مالي. وكان في السابق مساعدًا لنائبة الرئيس الأمريكي الحالي، كامالا هاريس. وهو يتخذ سياسات تميل إلى الحزم بشكل أكبر إزاء إيران، وكان قد أعلن أن مكتب الولايات المتحدة الخاص بشؤون إيران سوف يواصل نهج السياسات الأمريكية حيال طهران. وأكد “بالي” على تويتر على أن واشنطن “سوف تواصل التعاون مع الشركاء من أجل تقييد النشاط الإيراني المزعزع للاستقرار، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتشجيع نزع فتيل التوترات، وتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط”. وتشير التقارير إلى أن “بالي” مقرب من سوليفان وفريقه المعارض نوعًا ما لسياسات سلفه روبرت مالي حيال طهران.
ولعل ما قد يدل مبكرًا على نهج “بالي” في التعامل مع إيران تلك التغريدة التي نشرها على تويتر قبل أيام داعيًا فيها إلى إلغاء استضافة العاصمة طهران لقمة ستعقدها “المنظمة البحرية الدولية- IMO” خلال “يوم الملاحة البحرية العالمي” في 28 سبتمبر 2023، قائلًا في رسالته “إن الدولة التي تهاجم بشكل مستفز السفن التجارية الأجنبية لا يمكن لها أن تستضيف اليوم العالمي للملاحة البحرية”، مضيفًا “نحن نفتخر بأننا وقفنا إلى جانب أعضاء مجلس المنظمة البحرية الدولية لنؤكد على تعهدنا بتحرير الملاحة البحرية”.
بريت ماكجورك: بالتزامن مع الجدل المثار حول قضية روبرت مالي، أوفدت الولايات المتحدة الدبلوماسي الأمريكي المخضرم “بريت ماكجورك” إلى سلطنة عُمان لإجراء محادثات غير مباشرة مع الإيرانيين بشأن الملف النووي والمفاوضات المعنية. ويُعد “ماكجورك” من أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين الذين خدموا في مناصب ذات صلة في إدارات متعاقبة. فقد شغل منصبًا في مؤسسات الأمن القومي الأمريكي خلال إدارة جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب. وعُين أيضًا في وقت سابق ممثلًا خاصًا لرئاسة الجمهورية في التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” في عام 2015 وبقي به حتى 2018.
وكان “ماكجورك” من أبرز مهندسي خطط الرئيس الأسبق بوش لتعزيز الحضور العسكري الأمريكي في العراق عام 2007، وعمل مساعدًا لوزير خارجية الولايات المتحدة في شؤون العراق وإيران بين (أكتوبر 2014 – يناير 2016). وخلال هذه الفترة كان قد أجرى مفاوضات سرية مع طهران قادت في النهاية إلى عمليات تبادل سجناء بين البلدين. وعلى غرار إبرام “بالي”، يُعد “ماكجورك” من المقربين للفريق المنافس لروبرت مالي والمختلف عنه في التعامل مع إيران، وهو أيضًا مقرب من المؤسسات الأمنية أكثر من الدبلوماسية.
مستقبل أكثر ضبابية حتى نوفمبر 2024؟
يبدو مما سبق أن بدائل روبرت مالي يتسمون بما يلي:
● علاقات أقل تشعبًا مع “المؤثرين” في الشأن الإيراني الذين لهم خبرة طويلة في التعامل مع الدبلوماسيين والسياسيين الإيرانيين ومن بينهم بالطبع فريق التفاوض النووي الإيراني الذي يقوده الدبلوماسي الإيراني علي باقري كني.
● تبني وجهات نظر أكثر حزمًا تجاه إيران.
● القرب من المعسكر غير المتوافق مع نهج سياسات روبرت مالي السابقة في التعامل مع إيران والرامية إلى إنجاز التوصل لاتفاق نووي في أسرع وقت.
وعليه، قد تزيد هذه الانطباعات من ضبابية الموقف حيال المفاوضات النووية بين إيران والدول الكبرى، والمتوقفة منذ سبتمبر العام الماضي، وذلك خلال الأشهر المقبلة حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2024 والتي يُتوقع بعدها أن تحدث انفراجة حقيقية في المفاوضات النووية والاتفاق النووي المعني، خاصة إذا ما فاز الرئيس بايدن بولاية ثانية.