تداعيات ملموسة: روسيا تعلق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب
قررت روسيا أمس الاثنين، تعليق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود بسبب عدم وصول شحنات الحبوب بشكل مناسب لدول العالم الثالث، مع استمرار وجود العقبات أمام صادرات الحبوب الروسية، وهو ما اعتبرته موسكو خرقًا للاتفاقية التي تم الاتفاق عليها يوليو 2022 بهدف استئناف تصدير الحبوب والأسمدة المتضررة جراء الحرب الأوكرانية، كإجراء حيوي مدعوم أمميًا لضمان تدفق الإمدادات الغذائية إلى الأسواق العالمية.
ولا تعتبر هذه المرة الأولى التي انسحبت فيها موسكو من الاتفاقية؛ إذ قررت أواخر شهر أكتوبر الماضي تعليق مشاركتها في اتفاق الحبوب، ردًا على سلسلة من الهجمات الأوكرانية بواسطة طائرات من دون طيار على سفن روسية في خليج سيفاستوبول المُطل على شبه جزيرة القرم، قبل أن تعلن لاحقًا استئناف مشاركتها في الاتفاق، فيما هددت في العديد من المناسبات بالانسحاب من الاتفاق، إلا أنها قد وافقت في مايو على تمديده لمدة شهرين حتى السابع عشر من يوليو.
لماذا تُعد الاتفاقية محورية للأمن الغذائي العالمي؟
جاء التوصل إلى اتفاقية تصدير الحبوب في وقت يعاني فيه العالم منذ فبراير 2022 من أزمة اقتصادية نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية، أسفرت عن تفاقم اضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد وتباطؤ النشاط الاقتصادي، بالتزامن مع ارتفاع المستوى العام لأسعار السلع الغذائية والأساسية والمواد الخام، فضلًا عن ارتفاع تكلفة الشحن والنقل بمختلف أنواعه، مما رفع مستوى الضغوط التضخمية التي تواجهها الدول كافة حول العالم، لا سيما تلك التي تعتمد على الاستيراد في تأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة.
واتصالًا بذلك، فقد كان لها تأثير ملموس على تعزيز حالة الأمن الغذائي الذي كان متضررًا من قبل قيام الحرب الأوكرانية، نتيجة التغيرات المناخية وارتفاع أسعار الطاقة ومدخلات الإنتاج، ولهذا فقد كانت الاتفاقية بمثابة مخرج لدعم الأمن الغذائي العالمي.
ومنذ توقيع الاتفاقية، تم تصدير حوالي 33 مليون طن متري من الحبوب من ثلاثة موانئ أوكرانية على البحر الأسود إلى 45 دولة حول العالم مما ساعد في خفض أسعار الغذاء العالمية، وقد تركزت تلك الشحنات في الذرة والقمح بما يمثل 16.9 مليون طن و8.91 ملايين طن على التوالي لتتمثل باقي الشحنات في زيت عباد الشمس والشعير وبذور اللفت. وتعتبر الصين من بين أبرز الدول المستفيدة من الاتفاقية تليها إسبانيا وتركيا وإيطاليا وهولندا ومصر.
آثار محتملة
ترتبط تداعيات قرار موسكو بالانسحاب من الاتفاقية بمكانة روسيا وأوكرانيا في تجارة الغذاء العالمية، حيث تعتبران من أهم منتجي ومصدري المحاصيل الزراعية على مستوى العالم، خاصةً الحبوب والبذور الزيتية. ويستحوذ البلدان على نحو 27% من التجارة العالمية للقمح، و23% للشعير، و14% للذرة، وفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد“، وفيما يلي استعراض للآثار المحتملة للقرار الروسي:
• ارتفاع أسعار السلع الغذائية: تُرجم الانسحاب الروسي من الاتفاقية فور الإعلان عنه في شكل ارتفاع سريع في أسعار العقود الآجلة للقمح إلى جانب الذرة وفول الصويا، ففي بورصة مجلس شيكاغو للتجارة، ارتفع سعر القمح الشتوي الأحمر الناعم تسليم سبتمبر بنسبة 1.15% إلى 6.69 دولارات للبوشل، وهو أعلى مستوى منذ الثامن والعشرين من يونيو، في حين ارتفعت العقود الآجلة للذرة تسليم شهر ديسمبر بنسبة 0.30% إلى 5.15 دولار للبوشل، فيما ارتفعت أسعار فول الصويا لشهر نوفمبر بنسبة 0.60% إلى 13.78 دولار للبوشل.
ومن الممكن أن يمحو قرار “بوتين” بعضًا من المكاسب الناتجة عن انخفاض مؤشر “الفاو” لأسعار الغذاء، حيث بلغ متوسط المؤشر في يونيو 2023 نحو 122.3 نقطة بانخفاض يبلغ 1.7 نقطة (1.4%) على أساس شهري، مواصلًا اتجاهه الهبوطي مسجلًا أدنى مستوى منذ 26 شهرًا، بدعم من انخفاض أسعار السكر والزيوت النباتية والحبوب ومنتجات الألبان.
ولهذا، فمن المرجح أن تؤدي تلك الخطوة إلى اضطراب الإمدادات الغذائية العالمية، بسبب احتمالية لجوء أوكرانيا إلى استخدام بعض طرق الشحن الأخرى مما قد يزيد من ارتفاع تكلفة النقل، وقد يجبر المزارعين على تقليل حجم محصولهم في الموسم المقبل، مما يضع مزيدًا من الضغط على الإمدادات في المستقبل القريب.
• اضطراب الأمن الغذائي في الدول النامية والناشئة: توفر روسيا وأوكرانيا غالبية إمدادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولهذا فمن شأن أي اضطراب حادث في منطقة البحر الأسود أن يؤثر بشدة على إمدادات الغذاء في دول تلك المنطقة، حيث تم شحن أكثر من 95% من إجمالي صادرات أوكرانيا من الحبوب والقمح والذرة عبر البحر الأسود، وذهب نصف هذه الصادرات إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خاصة مصر ولبنان والعراق وسوريا.
وترتيبًا على ما سبق، يهدد الانسحاب الروسي من الاتفاقية بتعريض الأمن الغذائي لتلك الدول لمخاطر جسيمة، فحتى وإن كانت غير مستفيدة بشكل مباشر من الاتفاقية، إلا أنها قد تتعرض لإضرار ملموسة جراء ارتفاع أسعار الغذاء الناجمة عن اضطراب الإمدادات الغذائية، خاصة في ظل معاناة تلك البلاد من وجود عدد من المعوقات الماثلة أمام إمكانية بحثها عن مصادر بديلة لوارداتها الغذائية، حيث إن التضخم العالمي المرتفع وارتفاع تكلفة الشحن والقيود المحتملة على الصادرات تجعل هذا التحول مكلفًا. وحتى إن حاولت تلك الدول زيادة إنتاجها الزراعي المحلي، فإنها ستواجه عوائق أخرى تتمثل في تفاقم أزمة التغيرات المناخية وزيادة أسعار مدخلات الإنتاج الزراعية كالأسمدة فضلًا عن ندرة المياه التي تعاني منها بعض الدول.
مجمل القول، لجأت روسيا مجددًا لاستخدام ما يُسمى بـ “تسليح الغذاء”، بهدف الضغط للحصول على مكاسب خاصة، تتمثل في استمرار صادراتها من الحبوب والأسمدة على الرغم من عدم استهداف صادرات هذا القطاع بصورة مباشرة بعقوبات غربية، إلا أنها لا تصل فعليًا إلى الأسواق العالمية بسبب العقوبات التي تقيد قطاع الشحن والتأمين ودخول الموانئ، ولكن يحمل هذا القرار تبعات سلبية متعددة على الأمن الغذائي العالمي وخاصة في الدول النامية والناشئة.