في زيارة هي الأولى منذ حوالي 10 أعوام، بدأ الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 12 يوليو الجاري جولة خارجية في أفريقيا شملت 3 دول هي على الترتيب: كينيا، وأوغندا، وزيمبابوي. وترتكز هذه الزيارة على أهداف اقتصادية أكثر من كونها سياسية، وجاءت في وقت تشهد فيه الدبلوماسية الناعمة الإيرانية تحولاتٍ كبرى في إطار سياسة “التوجه نحو الشرق” التي تتبناها حكومة المحافظين الحالية في طهران، والتي شرعت في تنفيذها أولًا عن طريق تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى، ثم الدول العربية، ومن ثم بالتزامن مع ذلك الدول الأفريقية.
مكانة أفريقيا في السياسة الخارجية الإيرانية
تحتل أفريقيا مكانة مهمة في السياسة الخارجية الإيرانية منذ عام 1979 وحتى الآن. وعلى الرغم من اختلاف الرؤية والأهداف الإيرانية من وراء تعميق العلاقات مع الدول الأفريقية فإن أهميتها لدى طهران لم تتراجع، بل تعززت كثيرًا وبقوة ولا تزال.
الرؤية الأولية: الدعم السياسي
فقد كانت الجمهورية الإسلامية ترغب من الدول الأفريقية أول الأمر دعمها سياسيًا في ظل الاختلاف مع القوى الكبرى الغربية وأغلب دول الشرق الأوسط حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي وانتهاء الحرب مع العراق 1988. أما مع مطلع التسعينيات، وتوجه حكومتي الرئيسين الأسبقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي (1989 – 2005) إلى تنمية الداخل والاقتصاد المحلي، فقد بدأت أهمية الدول الأفريقية تتعاظم في السياسة الخارجية لطهران، ولكن على المستويات الاقتصادية وليست السياسية فقط.
أما خلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد (2005 – 2013)، فإن أفريقيا أضحت بالفعل تحتل مكانة غير مسبوقة لدى الدولة الإيرانية. وكان من أبرز مؤشرات هذا الاهتمام آنذاك الزيارات المتعددة التي قام بها “نجاد” إلى الدول الأفريقية؛ فقد بدأ عامه الأول في الحكم بعقد لقاء مع رئيس دولة مالي في يونيو 2005، أي بعد الإعلان عن فوزه مباشرة وقبل دخوله القصر الرئاسي بشكل رسمي. وقد توالت زيارات “نجاد” إلى أفريقيا، وحتى خارج أراضي هذه القارة في المحافل الدولية.
وقد انشغلت السياسة الخارجية الإيرانية في هذا الصدد بتعزيز علاقاتها مع أفريقيا جنبًا إلى جنب مع دول بعينها في أمريكا اللاتينية أبرزها على الإطلاق فنزويلا. وهي خطوات جاءت لتعزيز الاقتصاد الداخلي وإيجاد حلفاء سياسيين لإيران في ظل عزلة سياسية كانت إلى وقت قريب مع العالم الغربي والعربي. وهنا، ليس من قبيل المصادفة أن يزور الرئيس الإيراني دولًا ثلاثًا أيضًا في أمريكا اللاتينية شهر يونيو الماضي هي (فنزويلا ونيكاراجوا وكوبا) ويقوم بجولات ثلاث في أفريقيا الشهر الذي يليه يوليو. أي أن هذه التحركات تشير إلى أن متخذ قرار هذه الجولات وهدف هذه الرحلات واحد، وهو فتح آفاق جديدة للاقتصاد الإيراني.
تطور الرؤية الإيرانية للقارة الأفريقية لتشمل الاقتصاد والسياسة
وفي الوقت الراهن، تنظر طهران إلى الدول الأفريقية على أنها مصدر مهم للمواد الخام والمعادن، وإلى قدراتها التي تتمتع بها من حيث الزراعة والاقتصاد والتجارة، وهو ما يقودنا مباشرة إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها إيران وتحتم عليها بالتالي اللجوء إلى دول العالم المختلفة لتنويع مصادر عوائدها وتجارتها، ومن بينها الدول الأفريقية. فتحتل أفريقيا 20% من مساحة الأراضي في العالم و14% من سكان العالم، ومن بين 54 دولة في أفريقيا، تستحوذ 11 منها على احتياطيات كبيرة من النفط تصل إلى 9.87 مليارات برميل.
وتحتوي أفريقيا أيضًا، حسب بيانات رسمية إيرانية، على: 96% من الماس، و90% من مادة الكروم، و65% من الذهب، و30% من اليورانيوم حول العالم. هذا إلى جانب العديد من المعادن الأخرى ذات الأهمية البالغة مثل: الحديد، والنحاس، وحتى الفحم الحجري. وتنظر الحكومة الإيرانية كذلك إلى أهمية هذه القارة من حيث وجود ممرات ملاحية مهمة بها مثل مضيق باب المندب ورأس الرجاء الصالح.
وإن كانت هذه تتصل بالجوانب الاقتصادية، فإن الجوانب السياسية تُعد ذات أهمية كبيرة لإيران أيضًا في ظل عضوية مختلف الدول الأفريقية في منظمات دولية متعددة يمكن أن تستفيد منها إيران في دعمها إياها. وعلى سبيل المثال، تتمتع 27 دولة أفريقية بعضوية منظمة التعاون الإسلامي، ما يصل إلى نصف أعضائها تقريبًا.
ولا تنفصل الأهمية الأمنية والعسكرية للقارة عن تلك السياسية، فإذا كان الاقتصاد لا ينفصل عن الأمن والسياسة بوجه عام، فإن إيران بحاجة إلى التعاون الأمني مع دول القارة، خاصة تلك الواقعة إلى الشرق منها، بجانب أن التعاون الدفاعي وتصدير إيران أسلحة إلى هذه الدول بات مؤخرًا يستحوذ على أهمية واضحة لدى صانعي القرار في طهران، ولعل الطائرات المسيرة تأتي ضمن أبرز هذه المعدات الإيرانية العسكرية التي يمكن تصديرها إليها.
مكانة أفريقيا في قائمة الاقتصاد الإيراني
لقد جاءت زيارات الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى دول أفريقيا الثلاث بعد أقل من 3 أشهر على بيانات مهمة أصدرها “اتحاد التجار الإيرانيين والأفارقة” في طهران يوم 27 أبريل 2023 تخص المعاملات التجارية بين إيران ودول القارة في العام الميلادي السابق 2022، جاء فيه ما يلي:
- صدرت إيران خلال عام 2022 سلعًا إلى 49 دولة أفريقية.
- استوردت إيران خلال 2022 سلعًا من 23 دولة في أفريقيا.
- بلغ حجم الصادرات الإيرانية إلى الدول الأفريقية في العام نفسه مليونين و452 ألف و12 طنًا من السلع بقيمة مليار و183 مليون و224 ألف و873 دولار أمريكي.
- بلغ حجم الواردات الإيرانية من دول القارة 92 ألف و898 طن من السلع، بقيمة 95 مليون و316 ألف و440 دولار، وهو ما يمثل زيادة 59% عن العام 2021.
وأشارت البيانات الرسمية الإيرانية إلى أن الدول الأفريقية السبع الأولى في استيراد السلع من إيران عام 2022 جاءت على النحو التالي:
- جنوب أفريقيا: بقيمة 305 ملايين و411 ألف دولار (بارتفاع 20% عن عام 2021).
- موزمبيق: 190 مليون و517 ألف (بارتفاع 94%).
- غينيا: 165 مليون و14 ألف دولار (بانخفاض 53% عن عام 2021).
- السودان: 142 مليون و702 ألف دولار (بارتفاع 96%).
- نيجيريا: 129 مليون و332 ألف دولار (ارتفاع 3%).
- كينيا: 53 مليون و203 آلاف دولار (بانخفاض 31%).
- ساحل العاج: 41 مليون و605 آلاف دولار (ارتفاع 183%).
وحسب هذه البيانات أيضًا، فقد جاءت الدول الأفريقية السبع الأكثر تصديرًا لإيران في عام 2022 على النحو التالي:
- من إجمالي 54 دولة أفريقية، تصدر 23 منها سلعًا إلى إيران.
- تجيء تنزانيا في المرتبة الأولى من حيث التصدير لإيران بقيمة 20 مليون و899 ألف دولار (بارتفاع 43% عن عام 2021).
- كينيا (التي كانت المقصد الأول لزيارة الرئيس الإيراني): 17 مليون و277 ألف دولار (ارتفاع 174%).
- جنوب أفريقيا: 16 مليون و637 ألف دولار (ارتفاع 158%).
- غينيا: 9 ملايين و136 ألف دولار (ارتفاع 22%).
- جزيرة سيشل: 7 ملايين و285 ألف دولار (ارتفاع 82%).
- جمهورية مصر العربية: 5 ملايين و727 ألف دولار (ارتفاع 60%).
- الكونغو: 4 ملايين و742 ألف دولار (ارتفاع 1424%).
وأوضحت البيانات أنه على الرغم من أن دول (بوروندي، وبوتسوانا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وسيراليون) لم تكن من بين الدول الأفريقية التي صدرت إيران إليها سلعًا في 2021، إلا أنها انضمت لقائمة الدول الأفريقية المعنية.
لماذا زار الرئيس الإيراني “رئيسي” أفريقيا ؟
لا تنفصل تلك الزيارات الثلاث التي قام بها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى دول أفريقية عن تلك المساعي الإيرانية الجارية والرامية إلى الانفتاح على الدول العربية مؤخرًا. حيث تهدف جميعها إلى تعزيز العلاقات مع دول العالم الخارجي؛ من أجل إيجاد طرق ومسارات جديدة لتنفس الاقتصاد الإيراني الصعداء في ظل المعاناة التي يمر بها منذ سنوات، خاصة منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في مايو 2018 خروج واشنطن من الاتفاق النووي وإعادته عقوباتٍ واسعة وجديدة عليها. يعني هذا أن خيار إيران تعميق علاقاتها مع بكين وموسكو ودول آسيا الوسطى والدول العربية لا ينفصل عن بعضه البعض، بل يأتي في نسيج واحد يرمي إلى ما تمت الإشارة إليه.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه المساعي الإيرانية تُعد جزءًا لا يتجزأ بالتالي من رؤية الحكومة الحالية برئاسة إبراهيم رئيسي في طهران لمستقبل أي اتفاق نووي قادم بين إيران والقوى الكبرى. حيث باتت “طهران- رئيسي” ترى على ما يبدو أنه حتى إذا ما تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد، فإن إمكانية أن يحقق مثل هذا الاتفاق فوائد اقتصادية حقيقية للداخل الإيراني أمر محل شك؛ نظرًا للتجربة التي مرت بها بعد اتفاق 2015. وإن كانت هذه التجربة قد عززت بالأساس من نفوذ التيار المحافظ في إيران.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس الإيراني “رئيسي” قبل انطلاق زياراته وبما لا يدع مجالًا للشك على أن الهدف الرئيس من زيارته أفريقيا حاليًا اقتصادي بالدرجة الأولى. فقبل زيارته كينيا، صرّح “رئيسي” يوم 11 يوليو الجاري قائلًا إن “حصة إيران في الاقتصاد الأفريقي يجب أن تزيد”، موضحًا أن “حصتنا من الاقتصاد الأفريقي ضئيلة جدًا، وحجم الاقتصاد الأفريقي يبلغ تريليون و200 مليار دولار، بينما حصتنا منها لا تتجاوز مليارًا و200 مليون دولار”.
وأشار الرئيس الإيراني إلى أن مجالات التعاون المشترك بين إيران والقارة متنوعة، من بينها: الزراعة، وتصدير الخدمات الفنية والهندسية، مشددًا على أن “الدول الإفريقية مستعدة ومهتمة للغاية بالعمل مع إيران”.
هل حققت زيارة الرئيس الإيراني أهدافها؟
استطاع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، تحقيق الرؤى الأساسية من وراء زيارته للدول الأفريقية الثلاث، وأن يسير في إطار أهداف حكومته الرامية إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع الخارج مقابل “عدم الثقة” في الاتفاق النووي المحتمل. فقد أبرم “رئيسي” في كينيا وأوغندا وزيمبابوي اتفاقيات تجارية واقتصادية مهمة مثلت الهدف الرئيس لهذه الجولات.
وعلى سبيل المثال، وقع “رئيسي” خلال زيارته لكينيا على 5 وثائق تعاون ومذكرات تفاهم في مجالات متنوعة من بينها: الاتصالات، والثقافة، والاقتصاد، والتعليم المهني، والطب البيطري، ومصايد الأسماك. وشدد الرئيس الكيني، وليام روتو، من جانبه على أن “كينيا ترحب برجال الأعمال والمستثمرين الإيرانيين”، وذلك في الوقت الذي اتفق فيه الطرفان على “قيام إيران ببناء مصنع لتجميع السيارات في كينيا”، علاوة على إنتاج سيارات إيرانية بأسماء سواحيلية في تلك الدولة. وتعهد الرئيس الكيني بتعزيز العلاقات مع إيران في المستقبل القريب.
أما في أوغندا، فقد شددت طهران وكامبالا على أن الطرفين تحدثا بشأن تعزيز التعاون في مجال الطاقة والنفط على وجه الخصوص ومشاركة إيران خبراتها مع أوغندا بشأن المسائل التقنية والهندسية المتعلقة بمصفاة النفط والتكنولوجيا ذات الصلة، حيث تخطط طهران لمساعدة أوغندا في مشروع بناء مصفاة لتكرير النفط بعد اكتشاف آبار جديدة يتطلب إنشاء خط أنابيب بطول 1443 كيلومترًا.
ويُتوقع في الوقت ذاته أن “رئيسي” قد توصل إلى اتفاقات مماثلة مع زيمبابوي، تلك الدولة التي تتمتع بعلاقات تجارية جيدة مع الجمهورية الإسلامية. ولعل أهم مؤشرات ذلك حفاوة استقبال الرئيس الزيمبابوي، إيمرسون منانجاجوا، لنظيره الإيراني في المطار ومشاركة أشخاص يحملون الأعلام الإيرانية في مطار “روبرت موجابي” الدولي في العاصمة هراري، وتأكيد “منانجاجوا” في بداية لقائه إبراهيم رئيسي على أنه “يشاطر الرئيس الإيراني الكثير من وجهات النظر”.