أوروبا

دبلوماسية قلقة.. هل يؤثر تكرار المشهد الاحتجاجي في فرنسا على سياستها الخارجية؟

يواجه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” أصعب الاختبارات السياسية له منذ بدء ولايته الثانية التي اتسمت بكثرة الاحتجاجات والاعتراضات على سياسات حكومته والطريقة التي يتم التعامل بها مع إدارة البلاد التي تعاني اقتصاديًا واجتماعيًا، ولعل آخرها التي حدثت بسبب مقتل “نائل” الشاب البالغ من العمر 17 عامًا على يد عناصر الشرطة الفرنسية. وهو الأمر الذي لم يتسبب في توترات داخلية فحسب، بل امتدت آثاره لتطال السياسة الخارجية لباريس.

استغلال داخلي للموقف المتوتر

مما لا شك فيه أن أي احتجاجات تحدث داخل بلد ما تضع حكومة هذا البلد في مأزق كبير، فهو انعكاس واضح لعدم رضا الشعب عن قرارات الحكومة، ورسالة صريحة تُترجم فيما بعد عبر مظاهر العنف والشغب التي تؤثر على الاقتصاد والبنية التحتية وتشل البلاد لفترة غير معلومة من الزمن حتى استعادة السيطرة مرة أخرى، إما بالتراجع عن تلك القرارات من قبل الحكومة أو أن يملّ الشعب ويتراجع عن الإضرابات والاحتجاجات.

وفي فرنسا، البلد التي يتكرر بها هذا المشهد، وفي عهد “ماكرون” تحديدًا؛ أصبح الرئيس الفرنسي معتادًا على الاحتجاجات المناصرة لحقوق العمال والعدالة الاجتماعية، والتي تمر بشوارع مليئة بالغاز المسيل للدموع وتنتهي بحواجز وسيارات محترقة عقب الاشتباكات مع شرطة مكافحة الشغب. ففي عام 2018، شاهدنا حركة ” السترات الصفراء” التي تشكلت اعتراضًا على زيادة ضريبة الكربون على وقود السيارات وعدم المساواة الاقتصادية، واحتدمت لتمتد طوال عام 2019 وحتى ظهور جائحة كوفيد-19 في أوائل عام 2020، حتى ألغى ماكرون في النهاية زيادة ضريبة الوقود وعرض تخفيضات على ضريبة الدخل؛ في محاولة لتهدئة غضب المحتجين. 

ومع بدء ولاية “ماكرون” الثانية وبإعلانه إقرار قانون رفع سن التقاعد من 62 عامًا إلى 64، شهدنا موجة عنيفة من الاحتجاجات والإضرابات شارك فيها ملايين المواطنين الفرنسيين اعتراضًا على تمرير القانون استمرت شهورًا، ما اضطر الرئيس الفرنسي إلى تمريره باستخدام سلطته القانونية “المادة 49.3 من الدستور الفرنسي” دون انتظار موافقة البرلمان؛ إيمانًا منه بضرورة إقرار هذا القانون لإصلاح الموازنة العامة في المستقبل. وقد حاول “ماكرون” بعدها إعطاء نفسه وحكومته فرصة لمدة 100 يوم لاحتواء أضرار الاحتجاجات واستعادة الثقة من جديد في الحكومة.

ولكن هذه المرة، لم يتظاهر الفرنسيون بسبب قرارات الحكومة بشكل مباشر، فالأمر تطور بسبب مقتل شاب من أصول غير فرنسية أيقظ غضب المهاجرين من شمال أفريقيا والمسلمين والعرب وغيرهم الذين يعانون من العنصرية والتمييز. ولعل هذا الغضب هو ذريعة لتراكمات عدة تشكلت استياءً من الرئيس الفرنسي وحكومته. وهذا الاحتقان الداخلي هو ما قد يعود بالرئيس الفرنسي خطوات للوراء تحول دون تنفيذ خطته للمضي قدمًا في أجندته الداخلية للإصلاح. 

وعليه، استفادت أطراف داخلية من تلك الفوضى؛ لإثبات وجهة النظر التي تؤكد أن “ماكرون” وحكومته الأقلية الوسطية لا يصلحون للإدارة، ومن أبرز المستفيدين نجد أننا أمام اليمين واليمين المتشدد بقيادة “مارين لوبان”، زعيمة التجمع الوطني التي حصدت أكثر من 41٪ من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ضد ماكرون، والتي تتهمه باتباع نهج متساهل في التعامل مع القانون والهجرة، وأن عليه فرض حالة الطوارئ، وهي خطوة من شأنها أن تمنح الحكومة سلطات واسعة، مثل حظر الاحتجاجات والتجمعات العامة الأخرى. وحتى أقصى اليسار قد شارك في الاتهامات، وألقى باللوم في أعمال الشغب على الفقر وإهمال الحكومة للضواحي التي يعيش بها متعددو الأعراق ذوو العلاقات المتوترة، ما يوسع الفجوة بين المواطنين والنخب الفرنسية. 

والجدير بالذكر أنه لم يسبق لرئيس فرنسي في تاريخ الجمهورية الخامسة أن حاز إجماعًا على عدم شعبيته من اليسار واليمين والوسط، كما هو عليه إيمانويل ماكرون. وقد تبدو الفوضى التي ضربت فرنسا بمثابة استعراض لمشكلات أعمق يعانيها “النموذج” الفرنسي.

تأثير الأزمات الداخلية على الحراك الدبلوماسي الخارجي

Strategic Autonomy for Europe Is a French Pipe Dream

تسببت الفوضى الأخيرة في سلسلة من التداعيات على أجندة “ماكرون” الخارجية التي يريد من خلالها إبراز صورة فرنسا على أنها قوة عظمى تتصدر المشهد السياسي والاقتصادي في مختلف القضايا حول العالم، فضلًا عن أنها تلحق الضرر بمكانة الرئيس الفرنسي دوليًا في وقت يحاول فيه أن يلعب دورًا فعالًا في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وأن يُنظر إليه على أنه الوسيط الأول في أوروبا.

فعلى إثر الاحتجاجات هذه المرة، قطع “ماكرون” حضوره القمة الأوروبية في بروكسل، وألغى المؤتمر الصحفي الخاص به، ليعود إلى باريس من أجل وضع خطة لاحتواء العنف. وقد رجحت بعض الآراء أن يفرض “ماكرون” حالة طوارئ لاستعادة السيطرة مثلما حدث عام 2005، ولكن لم يصل الأمر إلى هذا الحد، وفضّل “ماكرون” الاستخدام “المتدرج” لقوات إنفاذ القانون والنظام في الشوارع. ويبدو أن إدانة ماكرون السريعة لعملية القتل هي التي ساعدت في احتواء العنف وعدم امتداد الاحتجاجات لأيام أكثر. 

وقد ألغت الاضطرابات في مطلع العام الجاري زيارات دولية مهمة دون إرجاء لموعد آخر، ما وضع قصر الإليزيه في موقف محرج، ومن أبرزها زيارة الملك تشارلز الثالث الخارجية الأولى منذ توليه مقاليد الحكم هو وزوجته الملكة كاميلا نهاية مارس الماضي، إذ أُلغيت بسبب مخاوف أمنية تتعلق باحتجاجات المعاشات التقاعدية.

وكذا، تسببت الاحتجاجات الحالية في إرجاء الزيارة الأولى لرئيس فرنسي إلى ألمانيا منذ نحو 23 عامًا، وهي الزيارة التي كان من شأنها تعزيز العلاقات الفرنسية الألمانية التي تشوبها الكثير من الغيوم والتوترات في الفترة الأخيرة، هذا بجانب المواضيع المتشابكة التي تتعلق بسياسة الدفاع الأوروبية، وميثاق التوازن المالي داخل الاتحاد الأوروبي، والنقاشات حول احتمال انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي.

وقد أثرت الاحتجاجات المتتالية على تراجع الدبلوماسية الفرنسية إلى حد “الصوت غير المسموع” في مناطق ذات أهمية استراتيجية لفرنسا، والتي أصبحت ترى الوجود الفرنسي “عبئًا ثقيلًا” يجب استئصاله، وهنا نتحدث عن “الجزائر” التي فشل رهان فرنسا حول تحسين العلاقات معها لبسط نفوذه المتراجع في شمال أفريقيا، ووصل الأمر إلى زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى روسيا لتوطيد علاقته معها وبدء عهد جديد لها.

الأمر ذاته فعتله كذلك “مالي” ودول الساحل الأفريقي المستعمرة قديمًا من قبل فرنسا، وهي المنطقة التي يرى الخبراء أنها دليل على “الفشل” الفرنسي في المنطقة الأفريقية خلال السنوات الماضية بسبب عدم وفاء باريس بوعودها تجاه الدول الأفريقية، وأنها دليل على تخبط سياسة فرنسا الخارجية وافتقادها للرؤية الواضحة للحضور الدائم في أفريقيا؛ لانشغالها المستمر بالتخبط الداخلي. 

ولكن الرئيس الفرنسي رغم ذلك لا يستبعد نظرية المؤامرة؛ فمثلما توجد أطراف في الداخل تتمنى إضعاف موقفه واستغلال ذلك لمصلحتها، يعتقد ماكرون أن هناك أطرافًا خارجية تعمل على تأجيج الصراع الداخلي في فرنسا حتى تتعطل أجندة العلاقات الخارجية، خاصة بعد تصريحاته السابقة المثيرة للجدل التي حث فيها الغرب على عدم اتباع نهج الولايات المتحدة تجاه الصين، والتشديد على أن تعتمد أوروبا على نفسها وألا تتبع سياسة الإملاءات من قبل واشنطن، والسعي إلى مزيد من الاستقلال الاستراتيجي وتعدد الأقطاب في النظام العالمي.

وهو ما أشار إليه بالفعل عقب اندلاع الاشتباكات هذه المرة، فقد وجه أصابع الاتهام لشركات التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، وأنها تتعاون من أجل انتشار مشاهد العنف بين مستخدميها في فرنسا، خاصة تلك التي تركز على “وحشية” الشرطة، الأمر الذي يزيد المشهد الداخلي تعقيدًا، ويعقد المشهد الخارجي بانخراط دول كسويسرا وبلجيكا في الاضطرابات وأعمال العنف المماثلة.

وفي هذا السياق، استغل السياسيون اليمينيون في جميع أنحاء أوروبا الأزمة في فرنسا لمطالبة الاتحاد الأوروبي بتشديد سياسته المتعلقة بالهجرة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء البولندي “ماتيوز موراويكي” الذي يرى في الحادثة فرصة لتبرير رفض وارسو لاتفاقية الهجرة المقترحة من الاتحاد الأوروبي، والتي أيدتها غالبية الدول الأعضاء الشهر الماضي، لكن المجر وبولندا منعتاها في قمة المجلس الأوروبي. كذلك علت أصوات من النخبة الإيطالية اليمينية في حزب الرابطة لتشدد أن أعمال الشغب في فرنسا كانت “شهادة على فشل الهجرة غير المنضبطة وتحذير لبقية أوروبا”.

أما على الصعيد الاقتصادي مثلًا، فنجد أن مواقف فرنسا من الحرب الروسية الأوكرانية الذي شابه مواقف غالبية الدول الأوروبية وتداعيات هذه الحرب قد أثرت جميعها سلبًا على الاقتصاد الفرنسي، ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، ما أثر على عدم رفع الأجور، وارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة الطاقة، وبالتبعية ارتفاع قياسي للتضخم، إلى جانب الركود الذي يعصف بالبلاد، وهي دائرة مفرغة من المشكلات دون حل، ما يعني احتمالية استمرار الاحتجاجات. 

وعلى صعيد السياحة، تسببت الأزمة في زعزعة ثقة السياح للقدوم إلى فرنسا، وطالب عدد من الدول مواطنيها بعدم زيارة فرنسا. ليتراجع ترتيب فرنسا ضمن الوجهات السياحية المقصودة. وقد تسببت أعمال العنف والشغب كذلك في تدمير مباني الخدمات العامة والبنية التحتية والمواصلات، ما يكلف الحكومة الفرنسية مبالغ طائلة لإعادة الإصلاح في وقت قياسي، في الوقت الذي تستعد فيه فرنسا لاستضافة الألعاب الأوليمبية العام المقبل، وهو ما يفتح الأبواب للشكوك والتساؤلات حول مقدرة فرنسا على استضافة حدث بهذا الحجم. مجمل القول، يرى الكثيرون في الداخل الفرنسي وخارجه أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد استنفد كثيرًا من رأس المال السياسي الذي اكتسبه بعد إعادة انتخابه، ويبدو أن ولاية ماكرون الثانية ستلحق بمثيلتها الأولى، وستخاطر مرة أخرى بأن يتم تمييزها عن طريق استكشاف الأخطاء وإصلاحها ومحاولة استرضاء كافة الأطراف بدلًا من تنفيذ الأجندة المقررة مسبقًا؛ فعدم سيطرة “ماكرون” على الداخل الفرنسي المتوتر تجعل صورة فرنسا الدبلوماسية في الخارج مهزوزة، وقد تنبئ باقتراب اليمين المتطرف من السلطة.

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى