مُعضلة بعثات حفظ السلام الأممية في أفريقيا: انسحاب “مينوسما” من مالي نموذجًا
قرر مجلس الأمن الدولي إنهاء ولاية بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) اعتبارًا من 30 يونيو 2023، ووقف عملياتها ونقل مهامها وسحب أفرادها بحلول 31 ديسمبر 2023، بعد عقد كامل منذ عام 2013، وستستغرق مغادرة الخوذات الزرقاء بشكل نهائي ستة أشهر. وفقًا لهذا القرار تتعاون الحكومة الانتقالية في مالي مع الأمم المتحدة في عملية الانسحاب الأخيرة؛ لضمان النقل السلس للمهام، وانسحاب منظم وآمن لأفراد البعثة وأصولها خلال الأشهر المقبلة.
وقد قرر المجلس كذلك أنه حتى 30 سبتمبر 2023 يُسمح للبعثة بالاستجابة للتهديدات الوشيكة بارتكاب أعمال عنف ضد المدنيين، والمساهمة في إيصال المساعدة الإنسانية بقيادة مدنية آمنة. وقرر كذلك أنه حتى 31 ديسمبر 2023، يُسمح للبعثة بأداء وظائف أخرى في حدود قدراتها ومنطقة عملها، بما في ذلك توفير الأمن لموظفي الأمم المتحدة ومرافقها وقوافلها ومنشآتها ومعداتها. ضمن هذا الإطار، عانت بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من مشكلة الموافقة في جمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي، وضغوط جديدة بسبب فقدان الثقة الكبير بين عملياتها الثلاث الكبرى لتحقيق الاستقرار وبين البلدان المضيفة لها.
دوافع مختلطة
انطلاقًا من مسببات ودوافع عديدة، قرر مجلس الأمن الدولي إنهاء تفويض بعثة “مينوسما”، وفي مقدمة هذه الأسباب: القصور في أداء البعثة، وتداعيات التحقيق في مذبحة “مورا”، وأزمة الثقة بين البعثة الأممية والحكومة الانتقالية بعد فترة من توتر العلاقات بينهما. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:
• قصور أداء مهام بعثة “مينوسما”: كان الهدف من البعثة تحقيق الاستقرار وحماية المدنيين في المناطق السكانية وتحديدًا في شمال البلاد، وإعادة بناء قطاع الأمن، وتنفيذ برامج نزع السلاح وإعادة الدمج، وتسهيل الحوار الوطني وعملية المصالحة، وضمان انتخابات نزيهة، فضلًا عن مُعالجة القضايا الهيكلية بما في ذلك، مؤسسات الدولة الضعيفة، والحوكمة غير الفعالة، وهشاشة التماسك الاجتماعي، ومشكلات التهميش بين المجتمعات في المناطق الشمالية من قبل الحكومة المركزية. بالإضافة إلى ذلك، تمثلت أهم ركائز البعثة في جهود مكافحة الإرهاب، وإعادة بناء الجيش المالي، ومتابعة تنفيذ اتفاق السلام والمصالحة لعام 2015.
على الرغم من الأهداف والركائز المحددة لمهام عمل البعثة، لا تزال أعمال العنف مستمرة وتوسعت من شمال إلى وسط وجنوب البلاد. مما خلق شبكة متداخلة من الأنشطة الإرهابية، وتفاقم الاشتباكات القبلية والعرقية، وتزايد الأعمال الانتقامية من القوات الحكومية، وظهور مليشيات الدفاع الذاتي، وتصعيد أعمال العنف الطائفي بمستويات غير مسبوقة.
ولكن عزز تصاعد التحديات تفويض مدة البعثة بشكل تدريجي، وكان عملها بالأساس جنبًا إلى جنب عملية برخان الفرنسية التي كانت مسؤولة عن مكافحة الإرهاب، ولكن انسحاب الأخيرة زاد من تعقيد مهام البعثة. علاوة على ذلك، صعوبات انتشار “مينوسما” نتيجة عدم وجود قدرات تشغيلية وشبكات استخباراتية. ومع التحول في أولويات البعثة، تقلصت رغبة الدول المساهمة بقوات في البعثة من الاستمرار في عملها ووجودها في مالي.
• تداعيات مذبحة “مورا “: أدى نشر تقرير مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان حول مذبحة “مورا” في مارس 2022، قبل أسابيع قليلة من التصويت على تجديد مدة البعثة، إلى تقويض الحجة الأساسية لصالح تمديد وجود “مينوسما”. وعلى الرغم من جهودها لإثبات فاعليتها، فقد أكدت البعثة أن استمرار وجودها سيكون بمثابة رادع للعنف الشديد الذي يستهدف المدنيين. لكن التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة، بالتعاون مع قسم حقوق الإنسان في البعثة، اتهم القوات المسلحة المالية وقوات “فاجنر” الروسية بالمشاركة في الإعدام الجماعي لعدة مئات من المدنيين في بلدة “مورا” وسط البلاد. في حين نفت السلطات المالية هذه الاتهامات، لكنها لم تنشر نتائج تحقيق مستقل أجراه القضاء المالي، وشجبت تحقيق الأمم المتحدة ووصفته بأنه تجسس يهدف إلى تقويض قرار باماكو بالانحياز إلى روسيا.
• أزمة الثقة بين الحكومة الانتقالية وبعثة “مينوسما”: تأتي نهاية مهام البعثة بعد سنوات من التوترات والقيود الحكومية في مالي التي أعاقت عمليات حفظ السلام الجوية والبرية منذ انضمام قوات “فاجنر” في عام 2021، حيث قطعت السلطات الانتقالية العلاقات مع فرنسا وتحالفت مع روسيا، ولا سيما قوات فاجنر. لتصل إلى النقطة الفاصلة في 16 يونيو 2023 بطلب باماكو من مجلس الأمن الدولي سحب بعثة “مينوسما”. ضمن هذا السياق، تأرجحت العلاقة بين الحكومة المالية والبعثة خلال الفترة الأخيرة، حيث مُنعت البعثة من الوصول إلى المواقع الرئيسة للتحقيق في قضية الجرائم ضد المدنيين، وفُرضت عليها قيود على الرحلات الجوية والدوريات البرية.
ارتدادات خطرة
تبرز مخاوف بشأن تصاعد التهديدات المتعددة التي تواجه مالي ومنطقة الساحل الأفريقي ككل، بما في ذلك تنامي موجات الإرهاب، وتحديدًا جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، وتنظيم داعش في غرب أفريقيا (ولاية الساحل). ذلك إضافة إلى: تفاقم الأزمات الإنسانية، والتغير المناخي، ومستويات الفقر، ومخاطر حماية المدنيين، فضلًا عن المخاطر اللوجستية الكبرى في عملية انسحاب قوات البعثة. فخلال العقد الماضي، شهدت مالي والمنطقة تصاعدًا في الاشتباكات والهجمات التي شنتها الجماعات الإرهابية والحركات المسلحة التابعة لها؛ إذ قُتل 303 من أفراد حفظ السلام وفقًا لبيانات البعثة، وسيتم توضيح أهم تداعيات الانسحاب في التالي:
• تفاقم الأزمات الأمنية: تنتشر البعثة بشكل رئيس في المراكز الحضرية التي يقع معظمها إلى جانب العاصمة (باماكو) شمال نهر النيجر، ولها تسع قواعد في مدن شمال البلاد مقابل اثنتين في الوسط. على الرغم من أن هذه المناطق الحضرية ليست الأهداف الأساسية للجماعات الإرهابية، فإن وجود “مينوسما” قد لعب دورًا في تقليص نفوذها المحتمل هناك. بالتالي انسحاب قوات البعثة من هذه المناطق سيخلق فراغًا أمنيًا، ويوفر بيئات حاضنة للجماعات الإرهابية، مما يزيد من مخاطر السيولة الأمنية.
• احتمالية تكرار سيناريو مدينة “جيبو”: وهي المدينة الواقعة في شمال بوركينا فاسو، حيث يُواجه السكان حصارًا إرهابيًا منذ أكثر من عام وقد يدفع انسحاب قوات البعثة الجماعات الإرهابية إلى إعادة تقييم استراتيجيتهم وفرض حصار على المراكز الحضرية في مالي. مع ذلك، يبدو أن السلطات المالية تعتقد أن القوات المسلحة المالية بدعم من حلفائها الروس يمكنها الحفاظ على سيطرتها كما فعلت بعد مغادرة قوة برخان الفرنسية عام 2022، لكن الحكومة المالية لم تكشف بعد عن خطتها لملء الفراغ بعد انسحاب “مينوسما”.
• صعوبة توصيل المساعدات الإنسانية: لعبت الأصول الجوية للبعثة منذ 2022 دورًا مهمًا في الحفاظ على الروابط بين العاصمة والمناطق الشمالية. وسهلت البعثة سفر ممثلي الحكومة إلى هذه المناطق ومنحت العاملين في المجال الإنساني الوصول إلى المناطق التي كانت معزولة في السابق أو كانت تحت تأثير الجماعات الإرهابية مثل مدينة “ميناكا”. على الرغم من الجهود المبذولة لتجهيز وتعزيز الجيش المالي، وإطلاق شركة طيران مالي تخدم المناطق الداخلية عام 2020، فمن المرجح أن يصبح السفر بين باماكو والمناطق الشمالية أكثر صعوبة، بينما تظل الرحلات البرية طويلة ومحفوفة بالمخاطر بعد عملية الانسحاب.
• تقويض عملية السلام الجارية منذ توقيع اتفاق السلام والمصالحة لعام 2015 بين الحكومة المالية وتنسيقية حركات أزواد (التحالف الرئيس للجماعات المتمردة السابقة)؛ فبعد أيام قليلة من إعلان الحكومة قرارها بطلب انسحاب البعثة، أعلنت الحركات الموقعة ضمن الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية أن هذا الطلب كان ضربة قاتلة للاتفاق، وعملية السلام متوقفة منذ شهور بسبب الخلافات بين الحكومة والجماعات المسلحة. على هذه الخلفية، يشعر العديد من شركاء مالي والمراقبين بقلق متزايد من أن الاتفاق قد ينهار خلال الأشهر المقبلة. ذلك بالإضافة إلى احتمال استئناف الأعمال العدائية بين الحكومة والجماعات المشاركة في عملية السلام، ويرجع ذلك إلى أن مهمة البعثة الرئيسة كانت مراقبة اتفاق السلام.
حاصل ما تقدم، تُواجه مالي سيناريو أمنيًا متدهورًا؛ مع تجدد أعمال العنف، وتصاعد الاشتباكات القبلية والهجمات الإرهابية الأخيرة، في ظل لجوء مالي لطلب دعم من قوات فاجنر الروسية، ومخاوف زيادة المخاطر الأمنية مع تنامي نشاط وتوسع الجماعات الإرهابية، والتخوف من “أفغنة” الوضع الأمني في البلاد، مما يزيد من ضبابية المشهد بشأن آفاق السلام والأمن في البلاد ومنطقة غرب أفريقيا ككل.