القضية الفلسطينية

العدوان الإسرائيلي على جنين.. الدوافع والمآلات

شن الجيش الإسرائيلي فجر الاثنين عملية واسعة تستهدف مدينة جنين ومخيمها شمالي الضفة الغربية المحتلة، شملت هجومًا بريًا وجويًا أسفر عن سقوط عشرات الضحايا. وتعد العملية هي أوسع وأعنف تحرك عسكري في الضفة الغربية منذ عملية “السور الواقي” التي شهدها المخيم في أبريل 2002، إبان انتفاضة الأقصى، وأطلق عليها الرئيس ‏الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في حينه “جنين جراد” نسبة إلى حصار مدينة ستالينجراد الروسية التي ‏صمدت في الحرب العالمية الثانية بعد الحصار الألماني الطويل لها‎.‎ 

وقد شارك في العملية العسكرية من 1000 إلى 2000 جندي إسرائيلي، وأطلق عليها في إسرائيل اسم “المنزل والحديقة”، وتم التأكيد على أن الغرض من العملية يرتكز في الأساس على ‏إحباط البنى التحتية للفصائل المسلحة، واعتقال العناصر الفلسطينية المسلحة في جنين‎ التي تراها إسرائيل “معقل الإرهاب الفلسطيني”.

وعلى ما يبدو أن العملية العسكرية الإسرائيلية، المستمرة حتى اللحظة، تتسم بالخصوصية، سواء من حيث توقيتها أو أهدافها أو طبيعة الاجتياح برًا وجوًا من خلال استخدام الطائرات المسيرة، لذلك يجدر إلقاء الضوء على الدوافع الإسرائيلية ومآلات التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي بعد العملية.

تفاصيل العملية

وفقًا لما أعلنه الجيش الإسرائيلي، بدأت العملية بعد الساعة الواحدة صباحًا من خلال هجمات بطائرات بدون طيار ‏على ‏ما أطلقت عليه إسرائيل “البنية التحتية الإرهابية” في منطقة جنين، أعقبها توغل للقوات البرية. وقال ‏مسؤولون ‏عسكريون إن العملية تركزت على أهداف للمسلحين في مخيم جنين الذي يقطنه من 14 إلى 17 ألف فلسطيني. وأطلقت الطائرات المسيرة الإسرائيلية صواريخ أصابت مركز عمليات مشترك يستخدمه بعض عناصر المقاومة داخل مخيم جنين، واستهدفت القوات الإسرائيلية أيضًا منشأة ‏لإنتاج ‏الأسلحة وتخزين العبوات الناسفة. وفي أعقاب ذلك، ترددت أصداء إطلاق النار في المخيم ‏مع ‏دخول القوات الإسرائيلية والمدرعات، وأعلن الجيش الإسرائيلي أنه عثر على مخابئ أسلحة ومئات العبوات ‏الناسفة ‏وقاذفات صواريخ وصادرها.‏

وعقب بدء الاجتياح الإسرائيلي على جنين، حاصرت القوات الإسرائيلية مخيم جنين من مختلف الجهات ومنعت سيارات الإسعاف من ‏الوصول إلى ‏المصابين‎، وألحقت الجرافات أضرارًا جسيمة بممتلكات المواطنين، ودمرت العديد من المركبات والطرق ‏الرئيسة ‏المؤدية إلى المخيم.‏ فضلًا عن ذلك، حاصرت القوات الإسرائيلية مسجد الأنصار بمخيم جنين، وتبادلت والمسلحين الذين تحصنوا في المسجد إطلاق النار ووقعت مواجهة ‏طويلة ‏انتهت باعتقال بعض عناصر المقاومة وهروب آخرين. وقال الجيش الإسرائيلي إن قواته رصدت، بناء على ‏معلومات ‏استخبارية، أن الطابق السفلي من المسجد يضم حفرتين تحتويان على عبوات ‏ناسفة ‏وأسلحة ومعدات عسكرية.

وقد شارك في العملية ما يقرب من 2000 جندي، وهو رقم كبير نسبيا مقارنة بعشرات أو مئات الجنود الذين يشاركون ‏يوميًا في اقتحام المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية‎. واستعان جيش الاحتلال في العملية بالجرافات المجنزرة العملاقة “دي 9″، وهي آليات ثقيلة لم يستخدمها ‏في تجريف المناطق الفلسطينية منذ الانتفاضة الثانية، وأحدثت تلك الآليات دمارًا كبيرًا غير معهود منذ ‏سنوات‎. ذلك بالإضافة إلى نحو 150 آلية عسكرية اقتحمت المخيم والمدينة‎.‎ وللمرة الأولى، شاركت 6 طائرات مسيرة في قصف أهداف في المخيم. بالإضافة إلى ذلك، فجرت القوات الإسرائيلية 10عبوات ناسفة، تزن الواحدة منها 30 كجم، داخل معمل المتفجرات في جنين.

وحتى اللحظة، يهاجم الجيش الإسرائيلي أهدافًا جديدة في مخيم جنين، وتم الإعلان عن استعداد نحو ألف جندي إسرائيلي لبدء المرحلة الثانية من العملية، فيما أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني عن إخلاء نحو 3000 فلسطيني من جنين بعد تهديد الجيش الإسرائيلي بقصف المخيم.

وعلى الرغم مما شهدته مدينة جنين خلال الأشهر الماضية من مواجهات بين الفلسطينيين والقوات ‏الإسرائيلية، إلا أن العدوان الجاري يعد الأكثر عنفًا، خاصة مع شن إسرائيل لغارات جوية مكثفة تعد الأولى منذ ما يقرب من عقدين ‏من ‏الزمن، وإرسالها مئات من القوات البرية إلى الشوارع الضيقة والأزقة في مخيم جنين للاجئين، وهو ما يدفع بمخاوف ‏متزايدة من ‏ تنامي نمط الهجمات الانتقامية في الفترة القادمة بصورة قد تخرج عن نطاق السيطرة‎.‎

الدوافع والأهداف

يمكن القول إن هناك أهدافًا ودوافع معلنة لقيام إسرائيل بشن عدوانها على جنين، وأخرى غير معلنة يمكن قراءتها من خلال السياق المحيط بالعملية. فعلى المستوى الرسمي، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن المعادلة تغيرت ومن لم يفهم ذلك سابقا سيفهم في الأيام القادمة، متوعدًا أن يضرب “الإرهاب في كل مكان”. وفي السياق ذاته، قال قائد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، آفي بلوت، إن العملية العسكرية في جنين ‏تهدف إلى إحداث تغيير في الوضع هناك‎‎، مشيرًا إلى أن مدينة جنين، وتحديدًا المخيم، تعد معقلًا ‏للإرهاب وأساس تصدير الإرهاب إلى الضفة الغربية بأسرها وإلى الداخل الإسرائيلي أيضًا.

في السياق ذاته، أعلنت إسرائيل أن هناك قرارًا بقلب الوضع رأسًا على عقب في الضفة الغربية وخاصة جنين، مع تصاعد الهجمات الفلسطينية خلال الفترة الأخيرة.‎ ونقل الإعلام الإسرائيلي أنه تم إقرار العملية قبل 10 أيام من قبل المستوى السياسي. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن إسرائيل لديها أهداف محددة داخل مخيم جنين، وخاصة إلغاء الاعتقاد السائد بأنه مكان آمن “للإرهابيين”، ويمكن للأمر أن يستغرق ساعات أو يومًا أو يومين.

وحسبما أعلن قائد الجيش الإسرائيلي، فإن أهداف العملية تتلخص في بسط السيطرة العملياتية‎ وتحييد الإرهابيين واعتقالهم، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للمسلحين ومصادرة الوسائل القتالية. فيما أعلن قائد القيادة المركزية، اللواء يهودا فوكس، أن الهدف من العملية هو ضرب البنية التحتية للمقاومة في جنين وزيادة الحرية العملياتية للجيش الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية، وضرب بنية إنتاج المتفجرات والعبوات الناسفة وضرب المسلحين.

أما فيما يتعلق بالدوافع غير المعلنة، فمن الواضح أن حكومة “نتنياهو” تسعى بكل الوسائل إلى تصدير أزمة التعديلات القضائية التي تواجهها في الداخل والتي تهدد مصير تلك الحكومة ومستقبل إسرائيل ككل، حيث يأس القادة الإسرائيليون من معارضة الفئات المختلفة بالداخل لسياسات الحكومة وسيطرة اليمين المتشدد على مفاصلها، وبالتالي أصبح لا مفر من لجوء “نتنياهو” إلى افتعال الأزمات الخارجية المتتالية محاولًا الخروج من تلك الأزمة. 

ويمكن القول إن عملية جنين تأتي في هذا السياق، خاصة وأنها سبقت الاحتجاج الكبير الذي كانت المعارضة في إسرائيل تنوي تنظيمه في مطار “بن غوريون”؛ رفضًا لمساعي “نتنياهو” وحلفائه الدفع قدمًا بالتعديلات القضائية التي جرى وقفها قبل أشهر تحت ضغط الاحتجاجات. وبالفعل، حدثت احتجاجات في مطار “بن غوريون” لكن الأنظار تحولت إلى ما يحدث في مخيم جنين، وظهر ذلك ‏من تقديم وسائل الإعلام لأحداث جنين وإبرازها مقارنة بمنح احتجاجات المطار مساحة أقل‎.‎

في السياق ذاته، مع تصاعد الهجمات الفلسطينية في الأشهر الأخيرة، تعالت الأصوات داخل الحكومة الإسرائيلية لشن عملية ‏عسكرية واسعة النطاق، وقام بعض أعضاء الائتلاف اليميني المتشدد بالضغط من أجل رد عسكري أكثر عدوانية على الهجمات على الإسرائيليين، وكان يكرر هذا المطلب وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بعد كل ‏هجوم فلسطيني‎. وبعد إطلاق إسرائيل للعملية، كان من الواضح أنها لاقت دعمًا سياسيًا واسعًا، حيث أعرب زعيم المعارضة، يائير لبيد، ‏عن دعمه للعملية.‎

لذلك من المرجح أن يكون العدوان الإسرائيلي على جنين قد تم إرضاءً لحلفاء “نتنياهو” المتشددين في الحكومة، خاصة مع تداول وسائل الإعلام الإسرائيلية لمعلومات تفيد باحتمالات قيام نتنياهو بالتخلي عن الجزء الأكثر إثارة للخلاف من خطته لتعديل النظام القضائي، وهو البند الذي يمنح الكنيست صلاحية إلغاء قرارات المحكمة العليا، وكذلك إعادة النظر في بند آخر مثير للخلاف يتعلق بمنح الائتلاف الحاكم مزيدًا من الصلاحيات في تعيين القضاة، وهو الأمر الذي يعارضه أعضاء ائتلاف “نتنياهو” المتشددين الداعمين لإجراء التعديلات القضائية في إسرائيل بشدة، وقد هدد بعضهم بالاستقالة حال تراجع نتنياهو عن إجراء تلك التعديلات.

من جانب آخر، تعد إسرائيل جنين معقلًا للإرهاب في الضفة الغربية، ويقول ‏مسؤولون عسكريون إسرائيليون إن أكثر من 50 هجوما بالرصاص نفذت من منطقة جنين ضد أهداف ‏إسرائيلية في الأشهر الستة الماضية.‏ ومنذ مارس 2022، أطلق الجيش الإسرائيلي في ظل حكومة نفتالي بينيت السابقة عملية “كاسر الأمواج” لمواجهة العمليات الفلسطينية المتصاعدة، وكانت غالبية هذه الهجمات تنطلق من جنين ومخيمها ونفذت العديد منها في قلب إسرائيل، وقد ساهمت الهجمات الإسرائيلية المتكررة في تطور قدرات الفصائل الفلسطينية في جنين، وبرز ذلك جليًا خلال العملية العسكرية التي شنت في جنين خلال يونيو الماضي. وبالنسبة لإسرائيل يعد هذا التطور أمرًا في غاية الخطورة، ويبدو أن ذلك كان الدافع الفعلي وراء شن العملية الأكبر منذ عقدين، والتي تستهدف من خلالها محاولة القضاء على عناصر المقاومة الفلسطينية في الضفة وتقليص عدد العمليات التي تخرج من جنين.

ختامًا، يمكن القول إن عملية “المنزل والحديقة” في جنين لن تستمر طويلًا، لكن يرجح أن تكثف القوات الإسرائيلية قصفها لأهداف محددة حتى يتم تحقيق نجاح ظاهري للعملية يمكن لحكومة نتنياهو استخدامه في مواجهة حالة الغليان المستمرة في الداخل الإسرائيلي، ومن المؤكد أن تستمر حالة التأهب الإسرائيلي لما بعد انتهاء العملية؛ خشية انخراط إسرائيل في مواجهة متعددة الجبهات؛ إذ يمكن أن تتلقى ردودًا من الجبهة الخارجية قد تتمثل في حزب الله، أو من الداخل برد فعل عنيف من الفصائل الفلسطينية سواء في قطاع غزة أو في قلب المدن الإسرائيلية. وهو ما يرفع من التقديرات التي تشير إلى اتجاه المشهد الفلسطيني الإسرائيلي نحو مزيد من التعقيد في ظل اتساع دائرة العنف والتي قد يصعب احتواؤها إذا استمر الإصرار الإسرائيلي على استخدام سياسات ترتكز على القتل والاعتقال والتهجير والاستيطان. 

ولا شك أن ما حدث خلال العملية الحالية يشكل انتهاكًا صريحًا للمواثيق الدولية وقواعد القانون الدولي بما فيها القانون الدولي الإنساني، ويدخل في إطار ارتكاب إسرائيل لجرائم الحرب دون رادع، وهو ما يدفع بضرورة قيام أطراف المجتمع الدولي بواجبهم من خلال الضغط على الحكومة الإسرائيلية المتشددة للتراجع عن سياساتها وبذل المزيد من الجهد لحماية الفلسطينيين ومنحهم حقوقهم المشروعة.

هبة شكري

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى