أوروبا

من العنصرية إلى الشغب.. ما وراء احتجاجات فرنسا؟

موجة جديدة وعنيفة من الاحتجاجات في فرنسا تمتد لليوم السادس على التوالي عقب وفاة شاب يبلغ من العمر 17 عامًا على يد الشرطة الفرنسية، وهي الحادثة التي أدت إلى اندلاع الاشتباكات بين عدد كبير من المتظاهرين والشرطة في وسط باريس، في مشهد لم يحدث منذ 18 عامًا، ليخرج العنف عن السيطرة ويضع الرئيس الفرنسي وحكومته في موقف متوتر، في ظل تكرار مثل هذه الاحتجاجات على فترات متقاربة، الأمر الذي يكشف عمق الاستياء الشعبي، ويتحدى وجهة النظر الفرنسية التي تؤكد مرارًا أنها غير عرقية وتحترم الجميع.

ما وراء الاحتجاجات؟

تعود القصة بمقتل شاب عربي يدعى “نائل” من أصول جزائرية مغربية يبلغ من العمر 17 عامًا يوم 27 يونيو 2023 على يد ضابطين فرنسيين قاما بتوقيفه أثناء قيادته لسيارته بضاحية “نانتير” بالقرب من باريس، وعند تقدم الشاب مسرعًا في محاولة منه لعدم التوقف، أطلق الضابط النار مرة واحدة من خلال الزجاج الأمامي ليقتله فورًا. وتم توجيه تهمة القتل العمد للضابط الذي يدعي أنه أطلق النار خوفًا من أن يدهس نائل أحدًا بسيارته، وأن نائل ارتكب مخالفات مرورية من قبل وعرض حياة الآخرين للخطر، ولكن التحقيق الأولي للمدعي العام يقود إلى استنتاج مفاده أن استخدام الضابط لسلاحه لم يكن مبررًا قانونيًا.

وبموجب القانون الفرنسي الذي تم تعديله عام 2017، يُسمح للشرطة الفرنسية بإطلاق النار في خمس حالات، ويشمل ذلك عندما يتجاهل سائق السيارة أو ركابها أمرًا بالتوقف، واعتبار أنهم يشكلون خطرًا على حياة الضابط أو سلامته الجسدية أو الآخرين. وقد أظهرت دراسة العام الماضي أن إطلاق الشرطة النار المميت على سائقي المركبات المتحركة قد تضاعف خمسة أضعاف منذ تطبيق ذلك القانون، بينما تجادل وزارة الداخلية أنه لا ينبغي إلقاء اللوم على التشريع، وإنما يمكن انتقاد افتقار الشرطة إلى الكفاءة المهنية والتدريب.

حادثة تفتح ملف العنصرية في فرنسا

أثارت هذه الحادثة حالة من الغضب الهستيري بين عدد كبير من الجموع الفرنسية، خاصة وأنها ليست فردية كما يبرر المسؤولون الفرنسيون، فقد قُتل 13 شخصًا لم يمتثلوا للتوقفات المرورية على أيدي الشرطة الفرنسية العام الماضي فقط، وثلاثة أشخاص منذ بداية عام 2023. هذا بجانب العديد من القصص المماثلة على مدار الأعوام السابقة، أبرزها تلك التي حدثت عام 2005 عندما أدت وفاة اثنين من المراهقين كانا مختبئين من الشرطة إلى أعمال شغب استمرت أسابيع ودفعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد.

وربما تكون قصة “نائل” هي الأخف وزنًا والذريعة التي أشعلت موجة غضب وفوضى غير مسبوقة، وربما لاقت هذه القصة انتشارًا واسعًا بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، لتكون بمثابة تذكير قوي بالفقر والتمييز العنصري من قبل الشرطة وفرص العمل المحدودة والإرث الطويل من إهمال الحكومة وتجاهلها لفئات محددة، فبين الاشتباك المباشر مع الشرطة من قبل شباب بعمر “نائل” واستهداف منازل مسؤولين في البلاد وإيذاء أسرهم وأطفالهم، وصل عدد المعتقلين إلى أكثر من 3 آلاف شخص- أكثرهم من القصّر الذين يبلغ متوسط أعمارهم 17 عامًا-، وإصابة 522 من رجال الشرطة، وإحراق أكثر من 5600 مركبة وتخريب 1059 مبنى، وتم تسجيل 2560 حريقًا على الطرق العامة، فضلًا عن تضرر أكثر من 700 شركة ومركز تسوق وبنك، وذلك وفقًا لوزارة الداخلية الفرنسية ووزارة المالية.

وقد ردت الشرطة الفرنسية على المحتجين بنشر حوالي 45 ألف من عناصرها في جميع أنحاء البلاد الذين قاموا بإطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية، ولكن الحكومة –حتى الآن- تقاوم إعلان حالة الطوارئ، خاصة وأن أعمال الشغب تنحسر عن الأيام السابقة.

وعلى الرغم من دعوات كبار المسؤولين للصبر لإتاحة الوقت لنظام العدالة ليأخذ مجراه بعد القبض على الضابط المسؤول، لا يزال عدد كبير من الناس في جميع أنحاء فرنسا مصدومين وغاضبين، وخاصة الشبان والشابات الذين وقعوا ضحايا للتمييز من قبل الشرطة لا سيّما من أصحاب البشرة السمراء أو العرب، والذين يؤكدون أن “العنصرية” هي السبب وراء مقتل نائل.

فيشتكي عدد كبير من المهاجرين في فرنسا، وخاصة من إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي وآسيا منذ عقود من أن كل جزء من حياتهم يعاني من التمييز، ولكن لا توجد بيانات رسمية حول عدد الأشخاص من هذه الفئات الذين تم استبعادهم من قبل نظام التعليم، وعدد العاطلين منهم عن العمل، وعدد الذين يعيشون في فقر، وعدد الذين يعانون من نقص في خدمات الإسكان والرعاية الصحية، وعدد ضحايا التنميط العنصري.

وهنا يجدر الإشارة إلى تقرير صدر عام 2022 عن اللجنة الاستشارية الوطنية الفرنسية لحقوق الإنسان، والذي قدر أن 1.2 مليون شخص سنويًا كانوا على الأرجح “ضحايا هجوم عنصري أو معاد للسامية أو معاد للأجانب” في فرنسا، البلد الذي يبلغ عدد  سكانه 68 مليون نسمة، الأمر الذي ينفي تمامًا إلقاء اللوم على مثل هذه الحوادث على أنها “فردية”.

ووفقًا لدراسة استقصائية حديثة للمقيمين من العرق الأسود والمختلط في فرنسا، قال 9 من كل 10 إنهم واجهوا تمييزًا عنصريًا، وقال نصفهم تقريبًا إنهم تم إيقافهم وطولبوا بتحديد هويتهم في الأشهر الأولى من الإغلاق الوبائي خلال جائحة كورونا. ووجدت دراسة استقصائية أجرتها “رويترز” أنه في مقاطعات فرنسا الخمس التي تضم أكبر نسبة من المهاجرين ، أصدرت الشرطة غرامات ضدهم بمعدل يزيد على 50% عن أي مكان آخر في البلاد.

احتجاجات ممتدة لأبعد من باريس

ويبدو أن الاحتجاجات قد امتدت إلى أقاليم أبعد من العاصمة الفرنسية باريس، فقد تم قتل متظاهر خلال أعمال شغب في كايين، عاصمة غيانا الفرنسية، وتم اعتقال أكثر من 28 شخصًا في ريونيون، مقاطعة فرنسية في المحيط الهندي، بينما أصيب 5 من ضباط الشرطة هناك. ووقعت بعض الاشتباكات العنيفة في مدينتي مارسيليا وليون.

ولم يتوقف الأمر هنا، فقد امتدت الاضطرابات إلى سويسرا المجاورة، بعد أن امتدت إلى بلجيكا في وقت سابق هذا الأسبوع، ففي مدينة “لوزان” السويسرية، كانت هناك اشتباكات بين الشرطة ومجموعات من المتظاهرين الشباب، إذ تجمع حوالي 100 شخص في وسط المدينة الواقعة في الجزء الغربي الناطق بالفرنسية، وتم اعتقال 7 أشخاص يحملون الجنسية البرتغالية والصومالية والبوسنية والسويسرية والجورجية والصربية، بعد تحطيمهم العديد من نوافذ المتاجر.

تأثير الاضطرابات على الملف الدبلوماسي لماكرون

تشكل هذه الأزمة تحديًا جديدًا لقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعاني بالأساس من تكرار موجات الاحتجاجات والغضب من سياسات حكومته، ولعل أبرز هذه الاحتجاجات السترات الصفراء التي جذرت الانقسام بين المجتمعات الفقيرة والثرية، وتلك المتعلقة بقانون التقاعد الذي فرضه مستخدمًا سلطته الاستثنائية، ليقوم بتمريره في النهاية رغمًا عن اعتراض مئات الآلاف الذين يواصلون التظاهر حتى الآن ضده، ما يؤكد أن الانقسامات داخل المجتمع الفرنسي لن تنتهي.

وهذه المرة، يواجه ماكرون وحكومته تحديات جديدة تؤثر على مكانته الدبلوماسية، والمتمثلة في تسليط الضوء على التمييز العنصري ضد المهاجرين، وتحديدًا من شمال أفريقيا، هذا بجانب أزمة البطالة والأجور المنخفضة وانعدام الفرص، وسلوك الشرطة الذي يُعد هو جوهر الأزمة الحالية في فرنسا، سواء في حادثة “نائل”، أو احتجاجات التقاعد، أو عدم كفاءة حفظ النظام كما شوهد في نهائي دوري أبطال أوروبا العام الماضي، الأمر الذي قد يزيد من الخسائر الاقتصادية في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة ضغوطًا لتقليص فجوة الميزانية العامة إلى أقل من 3% من إجمالي الناتج المحلي، مع اقتراب ذروة موسم السياحة الصيفي أيضًا، وقد وضعت دول بما في ذلك المملكة المتحدة تحذيرات من السفر لفرنسا.

وبسبب خطورة الأزمة الحالية، قام الرئيس الفرنسي بإرجاء أول زيارة لرئيس فرنسي إلى ألمانيا منذ 23 عامًا، والتي كانت مقررة في الفترة من 2 إلى 4 من يوليو، ليجتمع مع كبار مسؤوليه لمناقشة الأزمة وفهمها بشكل أعمق؛ إذ تقرر أن يلتقي ماكرون برئيس مجلسي النواب والشيوخ في فرنسا يوم 3 يوليو، وسيلتقي يوم 4 يوليو برؤساء البلديات البالغ عددهم 220 في جميع أنحاء فرنسا الذين تعاملوا مع العنف في الأيام الماضية. وهي لقاءات تضاف إلى لقائه مع رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير العدل يوم 2 يوليو؛ لتقييم الوضع ومطالبة السلطات بذل كل الجهود لاستعادة النظام والهدوء، والذي ألقى خلاله باللوم على “وسائل التواصل الاجتماعي” لتأجيج العنف وانتشار الكراهية، منتقدًا أعمال الشغب ووصفها بأنها “لا تتمتع بأي شرعية على الإطلاق”.

ويبدو أن سبب عدم إعلان الحكومة حتى الآن حالة الطوارئ كما حدث عام 2005 هو أنها ترى أنه ليس هناك ضرورة لذلك، وأن “الرد التدريجي” على العنف من قبل رجال الشرطة ملائم، وأن الوضع يسهل السيطرة عليه، ولكن هذا لا يمنع استجابة الحكومة لإعلانه إذا خرج الأمر عن السيطرة.

وعن ردود أفعال المسؤولين في فرنسا، عبر مسؤولون كبار عن حزنهم لوفاة الصبي، فيما استنكروا في نفس الوقت بشدة طبيعة الاحتجاجات، وحذر عدد من أعضاء الحزب الجمهوري المعارض في بيانات متفرقة من أن هذا الهجوم يمثل مرحلة جديدة من “الرعب”، خاصة وأن مثل هذه الاحتجاجات تشتعل بسرعة وبحدة ولا يمكن السيطرة عليها، داعين الحكومة إلى فرض حالة الطوارئ، وتطبيق عقوبات صارمة ضد مثيري الشغب من أجل تحقيق العدالة للجميع.

وبالتأكيد استغلت المعارضة الفرنسية على طرفي الطيف السياسي الأزمة كدليل على فشل الحكومة في ضمان السلامة العامة وتضييق التفاوت الاقتصادي؛ فقد احتشد سياسيون، منهم زعيمة اليمين المتطرف “مارين لوبان”، لإدانة الهجوم الذي استهدف منزل رئيس بلدية “لاي ليه روز” إحدى ضواحي باريس، والذي تسبب في “محاولة قتل زوجته وأطفاله.

مجمل القول، يبدو أن فرنسا لا تتعلم من الإضرابات المتتالية، ويظل من الوارد ألا تكون هذه الاحتجاجات هي الأخيرة. وسيتعين على السلطات الفرنسية معالجة الأسباب المؤدية إلى هذه الاحتجاجات بدلًا من الأعراض؛ وذلك عن طريق تطوير سياسات موضوعية لمعالجة المشاكل التي يواجهها هؤلاء الشباب المحتجون، خاصة وأن هذه الفئة من أحياء الطبقة العاملة تحديدًا هي بمثابة برميل الوقود الذي باشتعاله سيحرق الجميع.

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى