هل تتجه العلاقات الأمريكية الصينية نحو ذوبان الجليد أم إلى حقبة من إدارة الخلافات؟
وسط ديناميكيات العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة والصين، وتعدد نقاط الخلاف بين القوتين اللتين تخوضان منافسة شرسة على الهيمنة والنفوذ والوضع في تايوان مرورًا بالمطالبات الإقليمية الصينية في بحر الصين الجنوبي وصولًا إلى معركة الرقائق الإلكترونية؛ بدأ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 18 يونيو الجاري زيارة إلى بكين تستمر يومين، وهي أول زيارة يقوم بها دبلوماسي أمريكي كبير منذ خمس سنوات.
ربما جعل التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين الذي يشمل التكتيكات الجيواقتصادية السلام العالمي واهيًا، مما أدى إلى عدم القدرة على التنبؤ بهيكل النظام العالمي. وأدى صعود الصين في العدسة الجيواقتصادية إلى تحويل النظام العالمي من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، مما أعطى الولايات المتحدة منافسة مريرة وصعبة في النظام السياسي الدولي. وسط صعود النفوذ الصيني. لذا، استجابت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بشكل مختلف وفقًا للتحديات التي يفرضها الظهور الصيني.
في عام 2011، نشرت إدارة أوباما استراتيجية السياسة الخارجية “محور آسيا”. وانخرطت هذه السياسة استجابة للتقدم الصيني في النفوذ العسكري والاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وبالمثل، موازنة النفوذ العسكري والاقتصادي الأمريكي في المنطقة. ركزت الولايات المتحدة على تعزيز تشكيل تحالفها في المنطقة مع كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا، وتكثيف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة من خلال زيادة الأصول البحرية واتفاقية التجارة الحرة والمشاركة الدبلوماسية الموسعة في المنطقة الآسيوية.
أما إدارة ترامب، فقد اتبعت نهجًا أكثر تصادمية، مما أدى إلى حرب تجارية بين القوتين، وتّر العلاقات بين البلدين وجعلها أكثر تعقيدًا. اعتبارا من إدارة بايدن، لا يمكن إنكار أنها واصلت السير على سياسة إدارة ترامب، ولكن بنوع من الدبلوماسية والمصالح المتبادلة المتعلقة بالمنطقة، وركزت على تحقيق توازن في التعامل مع المنافسة والتعاون.
في نوفمبر عام 2022، التقى قادة أكبر اقتصاد في العالم لأول مرة شخصيًا على هامش قمة مجموعة العشرين؛ سعيًا إلى إدارة الخلافات بينهما مع التنافس على النفوذ العالمي في ظل التوترات الاقتصادية والأمنية المتزايدة. ومن المرجح أن يحضر رئيسا البلدين قمة مجموعة العشرين المقبلة في سبتمبر المقبل في نيودلهي. فضلًا عن أن الرئيس الصيني مدعو إلى سان فرانسيسكو في نوفمبر عندما تستضيف الولايات المتحدة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ.
قراءة في الخطاب الرسمي بين واشنطن وبكين حول الزيارة
أصدرت وزارتا الخارجية الصينية والأمريكية بيانات صحفية في 14 يونيو تفيد بأن بلينكن سيجرى زيارة إلى الصين. وأشار البيان الأمريكي إلى أن “بلينكن سيلتقي مسؤولين بارزين في جمهورية الصين الشعبية حيث سيناقش أهمية الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة لإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشكل مسؤول”. وإثارة القضايا الثنائية ذات الاهتمام المشترك والتعاون المحتمل بشأن التحديات المشتركة العابرة للحدود”.
في المقابل، أبدت الصين ترحيبًا فاترًا بالزيارة، وجاء البيان الصيني مقتضبًا للغاية ونص على أنه “وفقا لما تم الاتفاق عليه بين الصين والولايات المتحدة، سيزور وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الصين في الفترة من 18 إلى 19 يونيو”. وحذف البيان العبارة الرئيسة التي تُستخدم للإعلان عن زيارات وزارء الخارجية وهي: أن المسؤول الزائر جاء “بدعوة من مستشار الدولة ووزير الخارجية تشين جانج”.
تجنب البيانان الأمريكي والصيني الإشارة إلى المسؤولين الذين سيلتقي بهم “بلينكين” أثناء وجوده في بكين. وترك الباب مفتوحًا أمام التكهنات بهل سيلتقي بلينكن الرئيس الصيني، أو كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي. وعلى الرغم من أنه قد التقى وانغ يي يوم 18 يونيو، فإن هذا اللقاء الذي وصفه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بأنه كان مثمرًا للغاية يبدو أنه لم يكن كافيًا بالنسبة للجانبين، ولذلك التقى “بلينكن” الرئيس الصيني شي جين بينج الذي أعرب عن أمله في أن تؤدي زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى استقرار العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم.
دبلوماسية إذابة الجليد
زيارة بلينكن كانت مقررة في فبراير الماضي على الرغم من عدم تأكيدها رسميًا من قبل الحكومتين الأمريكية والصينية، لكنها ألغيت إثر تحليق منطاد تجسس صيني فوق الأراضي الأمريكية. فأعلنت الولايات المتحدة إلغاءها، وقالت إنه في ضوء “الانتهاك الواضح لسيادتنا وكذلك القانون الدولي” الذي يشكله الحادث، فإن “الظروف ليست مناسبة في هذه اللحظة لسفر الوزير بلينكن إلى الصين”. في الوقت نفسه، ردت الصين بغضب شديد بعد أن أسقطت الولايات المتحدة البالون فوق المحيط الأطلسي، متهمة واشنطن “بالمبالغة في رد الفعل وانتهاك خطير لروح القانون الدولي والممارسة الدولية”.
وتوقفت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لعدة أشهر. ولكن في إطار إستراتيجية بايدن لـ”إذابة الجليد” في العلاقات الأمريكية الصينية رغم التوتر الشديد عقب أزمة المنطاد، استمرت واشنطن في نهجها على تجديد الاتصالات الدبلوماسية والعسكرية رفيعة المستوى. وبالفعل، هذا ما حدث خلال الشهور السابقة التي شهدت لقاءات عديدة رفيعة المستوى بين المسؤولين الأمريكيين والصينيين. وشهدت الفترة الأخيرة إطلاق “بلينكن” تصريحات دبلوماسية تجاه الصين، كان آخرها تأكيده خلال مؤتمر صحفي مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان على أن واشنطن “لم تطلب من أي دولة الاختيار بينها وبكين”، وذلك تعليقًا على تنامي العلاقات بين الصين والسعودية.
وكذلك سافر مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ دانيال كريتنبرينك، والمديرة الأولى لمجلس الأمن القومي لشؤون الصين وتايوان سارة بيران، إلى بكين من أجل “التأكد من أن خطوط الاتصال مفتوحة”. والتقى “وانغ” مع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان على مدار يومين في فيينا، ووصفت الولايات المتحدة المحادثات بأنها “صريحة وموضوعية وبناءة”، في حين قالت الصين إنها كانت “صريحة ومتعمقة وموضوعية وبناءة”. ووصل سفير الصين الجديد لدى الولايات المتحدة شيه فنغ، إلى واشنطن، متعهدًا “بتعزيز العلاقات الصينية الأمريكية، والتعاون”.
وسربت وسائل إعلام أمريكية أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز قام برحلة سرية الشهر الماضي إلى بكين، في إشارة أخرى إلى أن الجانبين مهتمان بإعادة الاتصالات عبر قنوات مختلفة. ومع ذلك، فإن ذوبان الجليد الدبلوماسي لم يتبعه ذوبان جليد أمني، ورفضت بكين طلب وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن لقاء نظيره الصيني لي شانغفو في قمة “شانغريلا” للحوار الدفاعي في سنغافورة، وهو ما يعني أن العلاقات الثنائية لا تزال هشة.
وفي الوقت نفسه، نشرت البحرية الأمريكية تسجيلًا مصورًا لاقتراب سفينة حربية صينية من مدمرة أمريكية في مضيق تايوان والعبور من أمامها بطريقة وصفتها البحرية الأمريكية بأنها “غير آمنة”. ونفذت مقاتلة صينية مناورة “عدوانية” يوم 26 مايو الماضي بالقرب من طائرة عسكرية أمريكية فوق بحر الصين الجنوبي في المجال الجوي الدولي.
إن فجوة الخمس سنوات منذ آخر زيارة قام بها مايك يومبيو إلى الصين في عام 2018 هي انعكاس للعلاقة المشحونة بين القوتين، وكيف حلت الشكوك المتبادلة محل الحوار المنتظم وقنوات الاتصال المفتوحة. حيث كانت الزيارات الدبلوماسية الأمريكية رفيعة المستوى إلى الصين روتينية؛ فقد أجرت هيلاري كلينتون على سبيل المثال سبع زيارات إلى الصين خلال السنوات الأربع التي قضتها كوزيرة للخارجية. والآن، في غياب بعض الانفراجات الكبرى هناك احتمال بأن يصبح بايدن أول رئيس أمريكي لا يزور الصين منذ تطبيع جيمي كارتر للعلاقات في عام 1978. فقد زار كل من الرؤساء: رونالد ريجان، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، في فترة ولايتهم الأولى. إلا أن ترتيب لقاء بين “بلينكن” و”شي” قد يشير إلى أن محادثاته السابقة مع المسؤولين الصينيين قد أفضت إلى بعض النتائج الإيجابية بما أدى إلى ترتيب هذا اللقاء، وبما يرفع التوقعات بشأن ترتيب لقاء يجمع الرئيسين الأمريكي والصيني في وقت لاحق من هذا العام. وقالت وزارة الخارجية ، يوم الأحد ، قبل تشين دعوة لزيارة واشنطن ، بعد 7 ساعات ونصف من المحادثات التي وصفها الجانبان بأنها “مثمرة” و “صريحة”.
ملفات شائكة
التقارب الروسي الصيني: تأتي زيارة بلينكن إلى الصين بعد أقل من شهر من لقاء الرئيس الصيني ورئيس وزراء الاتحاد الروسي، ميخائيل ميشوستين، وتوقيع الصين وروسيا سلسلة من الاتفاقيات الثنائية بشأن التعاون التجاري الخدمي والرياضة وبراءات الاختراع. وفي مارس الماضي، قام الرئيس الصيني بزيارة ناجحة إلى روسيا، وحدد الخطوط العريضة لتنمية العلاقات الصينية الروسية والتعاون في مختلف المجالات مع الرئيس فلاديمير بوتين. وكانت هذه الزيارة دفعة هائلة للعلاقات وإعادة تأكيد شراكتهما “بلا حدود” وتشتيت المحاولات الغربية لخلق صدع في العلاقات الصينية الروسية. فالشاغل المشترك لروسيا والصين هو أن النظام العالمي يجب أن يعود إلى نظام دولي تكون الأمم المتحدة في صميمه ونظام عالمي قائم على القانون الدولي.
كشفت استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن، التي صدرت نهاية عام 2022، أن بكين تمثل التحدي الجيوسياسي الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية مع حليفها الروسي. وسبق ذلك تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في خطاب للتعريف باستراتيجية الإدارة الأمريكية تجاه الصين، معتبرا أنها: “الدولة الوحيدة التي يمكنها إعادة تشكيل النظام الدولي الحالي، وهي تلجأ بشكل متزايد إلى القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”.
وتأتي زيارة بلينكن إلى الصين في إطار استمرار الإدارة الأمريكية خلال العام الحالي في استراتيجيتها لمواجهة النفوذ العسكري والاقتصادي الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والحد من التحركات الروسية مع الصين في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى محاولة الولايات المتحدة خلال تلك الزيارة حشد المزيد من الدول الحليفة معها، والاصطفاف مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين لعزل موسكو دوليا، والبناء على الالتزامات الأمريكية تجاه الحلفاء العسكريين في الناتو، ومحاصرة وتقليص الدعم الصيني المقدم لموسكو.
إزالة الدولرة: في السنوات الأخيرة، اكتسبت حركة “إزالة الدولرة” زخمًا؛ إذ تسعى البلدان إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي وتعزيز قدر أكبر من السيادة الاقتصادية. وهذا الاتجاه مدفوع بالتحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تواجهها العديد من الدول التي تقع تحت وطأة العقوبات أو النفوذ الأمريكي. ويسعى العديد من الدول إلى التخلص من الدولرة ، مثل: الصين، وروسيا، والبرازيل، والهند، ودول الآسيان، وكينيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وانضمت الهند، الحليف الوثيق تقليديا للولايات المتحدة، إلى الصين في الترويج لعملتها الخاصة، الروبية الهندية، كبديل للدولار في التجارة العالمية.
ومع ذلك، فإن عملية إزالة الدولرة ليست عملية بسيطة، وسوف يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى تتحدى أي عملة هيمنة الدولار الأمريكي. في الوقت الحالي، يمثل الدولار الأمريكي أكثر من 58٪ من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، بينما يمثل اليوان الصيني 2.7٪ فقط. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الدولار الأمريكي على نطاق واسع لتسعير وتداول السلع، وخاصة النفط. وتتمتع الولايات المتحدة أيضًا بنفوذ كبير على المؤسسات المالية العالمية والتجارة.
وعلى الرغم من التحديات، فإن اتجاه التحول إلى الدولار يتسارع، وقد يخلف عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي. يتمتع الدولار الأمريكي منذ فترة طويلة بمكانة متميزة بوصفه العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، والتي تمنح فوائد مثل الاقتراض الرخيص، والنفوذ العالمي. ومع ذلك، إذا حلت العملات الأخرى محل الدولار كمخزن للقيمة ووسيلة للتبادل، فقد تواجه الولايات المتحدة تكاليف اقتراض أعلى، وانخفاض الطلب على أصولها، وانخفاض القوة الجيوسياسية. بجانب أن دور الدولار الأمريكي كأصل ملاذ آمن ومزود عالمي للسيولة للتحدي إذا ظهرت عملة جديدة أو عالم متعدد الأقطاب، مما قد يؤدي إلى عدم الاستقرار المالي.
قضية تايوان: إحدى النقاط الشائكة الحاسمة بالنسبة لبكين هي استمرار دعم الولايات المتحدة لتايوان، وتخشى الصين تقويض التزام الولايات المتحدة بسياسة “الصين الواحدة” التي تعترف بجمهورية الصين الشعبية كحكومة شرعية وحيدة للصين، لكنها لا تقبل مطالبات بكين بشأن تايوان. وتشعر بكين كذلك بالاستياء بشأن مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان، والاتصالات الرسمية التي تقول الصين إنها تشجع العناصر التايوانية الانفصالية. وقد تدهورت العلاقات بين البلدين على خلفية زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان في أغسطس 2022، وردت عليها الصين بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية حول تايوان وتجميد معظم الاتصالات الرسمية مع الولايات المتحدة.
تعزيز التحالفات العسكرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ: تسعى واشنطن باستمرار إلى تعميق تعاونها الاقتصادي والشراكات العسكرية والدفاعية والأمنية مع شركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهو ما حدث مع توقيع واشنطن على الاتفاقية الرباعية “the Quad” مع أستراليا والهند واليابان، بهدف الحفاظ على منطقة المحيط الهندي والهادئ حرة ومنفتحة، أما هدفها غير المعلن فهو التصدي لنفوذ الصين المتنامي، ما يثير استياء السلطة في بكين. بالإضافة إلى اتفاقية AUKUS المثيرة للجدل دوليًا ذات الطابع الدفاعي والأمني النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا. ويُنظر إلى الاتفاقية على أنها محاولة لمواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي؛ إذ تعد المنطقة بؤرة ساخنة للتوترات على مدار سنوات.
وضغطت إدارة بايدن على اليابان وهولندا للانضمام إلى الولايات المتحدة في تقييد بيع معدات تصنيع الرقائق الرئيسية إلى الصين، وحذرت الصين من أن واشنطن تهدد السلام والاستقرار الإقليمي، وذلك بعد اتفاق جديد يسمح للولايات المتحدة باستخدام 4 قواعد عسكرية إضافية في الفلبين. وتمضي إدارة بايدن كذلك قدمًا في اتفاقية الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ بين عشرات الدول، وتستثني الصين منهاعن قصد.
وترى الصين في هذه التحركات محاولة لتطويق واحتواء صعودها. فيما ترد الولايات المتحدة بأنها تعتزم التنافس مع الصين لتجنب الانزلاق إلى الصراع أو المواجهة المباشرة. وفي الوقت الذي تسعى فيه الصين والولايات المتحدة إلى إنهاء اعتمادهما المتبادل على بعضهما البعض، قالت واشنطن إن استراتيجيتها الآن، كما ورد في قمة مجموعة السبع في هيروشيما باليابان الشهر الماضي، تؤكد على “إزالة المخاطر، وليس فك الارتباط”. فيما تنظر الصين إلى هذين الأمرين على أنهما نفس الشيء.
الحفاظ على مناطق النفوذ الأمريكية: في إطار المخاوف الأمريكية من أن تلقي بكين بثقلها الدبلوماسي خلال العام 2023 بعد تخليها عن العزلة النسبية التي فرضتها سياسة “صفر كوفيد” وفوز الرئيس الصيني بولاية ثالثة على رأس الحزب الشيوعي الحاكم في الصين الذي منحه نفوذا سياسيا داخليا، تخشى أمريكا من تحول بكين إلى مناطق النفوذ الأمريكية لضرب شبكة مصالحها إقليميا وعالميا. وهنا تكمن أهمية زيارة وزير الخارجية الأمريكي للصين كمحاولة أمريكية لتحييد الصين بشكل أساسي تجاه قضيتين تهمان واشنطن في الوقت الحالي، وهما دعم الرئيس الروسي في حربه ضد أوكرانيا، والاتفاق النووي الإيراني، خاصة في ظل عدم وجود استراتيجية بديلة للإدارة الأمريكية الحالية لاحتواء إيران بعد فشل الجهود الدبلوماسية الأمريكية للعودة إلى الاتفاق النووي مرة أخرى أو فرض ضغوط حقيقية على طهران.
التحدي النووي الكوري شمالي: تتجلى المخاوف الأمريكية من قضية التحدي النووي لكوريا الشمالية، وتسعى واشنطن إلى تقليص برنامجها النووي والعسكري والباليستي عبر بكين. ففي بداية العام الجاري، تم تسليط الضوء على الاجتماع الموسع الذي جرى بين الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” وقادة وأعضاء حزب العمال الحاكم، لزيادة الترسانة النووية للبلاد، والتأكيد على زيادة القوة العسكرية لكوريا الشمالية، لتعزيز قدرات الردع والدفاع، من خلال زيادة إنتاج الأسلحة النووية التكتيكية بكميات كبيرة، وزيادة ترسانة كوريا الشمالية العابرة للقارات.
وهناك تخوف أمريكي كوري جنوبي من قيام كوريا الشمالية بسلسلة من التجارب النووية بالقرب من مناطق نفوذ واشنطن وحلفائها الإقليميين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية واليابان، وهذا ما ترجمته واشنطن عسكريًا في الاتفاق مع كوريا الجنوبية على إجراء المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة خلال عام 2023.
النفوذ الصيني في الشرق الأوسط: شكّل تدهور الوضع الأمني في منطقة الشرق الأوسط وانهيار بعض دوله مثل (ليبيا، سوريا، العراق، اليمن) تحديًا خطيرًا للصين وسياساتها الإقليمية ، وتهديدًا مباشرًا للاستثمارات الصينية وتدفق الواردات من النفط والمواد الخام من المنطقة والصادرات من السوق الصينية إليها، وسلامة المواطنين الصينيين العاملين في دول المنطقة. ومن هنا تبحث الصين عن أفضل السبل لتأمين مصالحها ومشاريعها في إطار مبادرة الحزام والطريق في منطقة الشرق الأوسط. هذا ما حذر منه تقرير صادر عن الكونجرس الأمريكي، حول القوة العسكرية الصينية، خاصة في الشرق الأوسط، قائلًا إن بكين قد تستخدم موانئ إيران والخليج العربي والشرق الأوسط بأكمله لإنشاء قواعد عسكرية للصين في جميع دول المنطقة.
قد يكون هذا متسقًا مع العقيدة العسكرية الصينية الصادرة في عام 2019 ، والتي تتبنى رؤية صينية واسعة للأمن القومي تشمل مشاركة عسكرية صينية واسعة في حالات تهديد وحدة أراضي الصين والحفاظ على المصالح الصينية في الخارج. لذلك، يتعين على الصين أن تشارك بشكل أكبر في التعاون الأمني الإقليمي والدولي لحماية حقوق ومصالح الشعب الصيني.
وفي ظل المنافسة الشديدة، تضغط كل من القوتين لتوسيع نفوذها على عدة جبهات. ويتجلى ذلك بعد نجاح جهود الوساطة الصينية في تحقيق التقارب والمصالحة السعودية الإيرانية. وأصبح ذلك واضحًا في سياق سعي الصين لتوسيع نفوذها في المنطقة، ليس فقط اقتصاديًا ولكن أيضًا عسكريًا ودبلوماسيًا وسياسيًا، مما شكل تحديًا قويًا لدور الولايات المتحدة الأمريكية على المدى الطويل كقوة مهيمنة في المنطقة لفترة طويلة. خاصة مع اتفاق ومشاركة جميع الدول في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي مع الصين بشأن آرائها حول أهمية الحفاظ على سيادة الدول واحترام مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى وخاصة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان.
رفض حزبي لصعود الصين: في إطار السياسة الأمريكية الصارمة تجاه بكين، هناك اتفاق وشبه إجماع في الوقت الحاضر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول التهديد الذي يمثله صعود الصين اقتصاديًا وعسكريًا وأيديولوجيًا للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فهم يدعمون نهجًا متشددًا نحو بكين. بالإضافة إلى تبني الإدارة الأمريكية لمجموعة من الإجراءات الاقتصادية والعسكرية الجديدة للتنافس مع الصين، وهي إجراءات من شأنها تقويض العلاقات الثنائية الأمريكية الصينية، كما حدث مؤخرًا مع فرض واشنطن قيودًا مشددة على مبيعات أشباه الموصلات لبكين، لعرقلة الجهود الصينية للمنافسة في مجال التقنيات المتقدمة.
ومن هنا جاءت الدعوات الأمريكية الرسمية من قبل عدد من المشرعين في مجلسي الشيوخ والنواب ومسؤولي الأمن القومي إلى حظر عدد من التطبيقات الصينية، وعلى رأسها برنامج “WeChat” للتواصل الاجتماعي، وبرنامج ” Tik Tok”؛ نظرًا إلى خطورتها على الأمن القومي الأمريكي، إلى جانب محاولة أمريكا استفزاز الجانب الصيني من خلال موافقة واشنطن على صفقة أسلحة إضافية لتايوان.
ختامًا، إن زيارة “بلينكن” القصيرة لن تحل أيا من المشاكل الكبيرة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لكنها يمكن أن تعيد إحياء الحوار المباشر الذي تشتد الحاجة إليه، وتبعث إشارة بأن البلدين ينتقلان من خطاب الغضب أمام وسائل الإعلام إلى محادثات أكثر رصانة خلف أبواب مغلقة. زيارة واحدة يقوم بها كبير الدبلوماسيين الأمريكيين إلى الصين لن تكون كافية لإعادة العلاقات إلى مسارها الصحيح، لكن من الضروري تجديد الحوار وخاصة المحادثات العسكرية، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة أمر ضروري بين الخصوم والمنافسين.