الأزمة الأوكرانية

المؤشرات الأولية للهجوم المضاد الأوكراني.. الدلالات والتوقعات

أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم الاثنين 12 يونيو 2023 بدء الهجوم الأوكراني المضاد المنتظر منذ فترة، بعد تقديم حلف الناتو المساعدات لأوكرانيا وتوفير الأسلحة المتطورة وتدريب الجنود الأوكرانيين. أتى هذا الإعلان بعد تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ببدء هذا الهجوم في 9 يونيو 2023، ولكن رفضت السلطات الأوكرانية تأكيد هذا حتى وقت تصريح الرئيس “زيلينسكي”.

ونجحت القوات الأوكرانية في تقديم خطوط هجومها لمسافة تقدر إلى الآن بحوالي 5 كيلومترات، مما شكل استرجاع 7 قرى بالقرب من منطقة دونيتسك. ويقول الجيش الأوكراني إن قواته تتقدم في اتجاه مدينة باخموت، في الوقت نفسه الذي أعلن فيه الجيش الروسي تدمير 4 دبابات “ليوبارد”، و5 مركبات “برادلي”، ونشر صورًا لها، مما أثار التساؤلات حول مدى أهمية النجاحات الأوكرانية، وقدرتها على الاستمرار في التقدم، وكيف يؤثر هذا على مسار الصراع؟

دلالات الهجوم المضاد

بدأ الهجوم الأوكراني المضاد قبل إعلان الرئيس الاوكراني “زيلينسكي” بيومين، لكن كان هناك تكتم كبير غير مفهوم من السلطات الأوكرانية عما إذا كان الهجوم الذي طال انتظاره بدأ أم لا. من الممكن ان يكون التكتم الأوكراني كان لهدف استراتيجي للاحتفاظ بعنصر المفاجأة، إلا أن إقرار الرئيس الأوكراني ببدء الهجوم لا يشير إلى هذا، فمن المرجح أن يكون الهدف كان التأكد من النجاح المبدئي للعملية العسكرية قبل الإعلان عن بدايتها، خاصة وأنه كان منتظرًا بدرجة كبيرة من الدول الغربية. وبالرغم من تأكيد “زيلينسكي” على بدء الهجوم المضاد، إلا أنه رفض الإفصاح عن المرحلة التي وصلت لها القوات الأوكرانية من الهجوم.

وبالرغم من أن تشديد المسؤولين الأوكرانيين الدائم على عدم الدخول في مفاوضات سلام إلا بعد استعادة كامل الأراضي الأوكرانية، إلا أن الاتجاه الذي تتحرك فيه القوات الأوكرانية يشير إلى الرغبة في التقدم والسيطرة على محور “توكماك” في مدينة “خيرسون” وقطع الجسر البري بينها وبين شبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها روسيا منذ 2014، والذي تستخدمه موسكو لإمداد القوات الروسية بالأسلحة والمؤن المختلفة، لحصار القوات الروسية وإجبارها على الانسحاب. ومن المحتمل أن تكون رغبة أوكرانيا هي الاتجاه إلى المفاوضات بعد انسحاب القوات الروسية إلى القرم.

ويعد الاتجاه للمفاوضات بعد وصول القوات الأوكرانية على هذه النقطة هدفًا أكثر واقعية من إجلاء القوات الروسية بشكل كامل من الأراضي الأوكرانية –بما في ذلك القرم- لإدراك السلطات الأوكرانية أن روسيا لن تسمح بهزيمتها بشكل كامل، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد نووي. ولكن في حال استطاعت أوكرانيا السيطرة على المعبر البري من القرم لخيرسون، ستكون نجحت في تحرير جزء كبير من أراضيها وأظهرت قوتها في الرد في ساحة المعركة، مما يعطيها موقفًا قويًا على طاولة المفاوضات يفتح الباب لإجبار روسيا على تقديم بعض التنازلات ويرفع احتمالية انتهاء الصراع.

ولكن من الصعب الوصول إلى هذا الهدف بالوضع الحالي للقوات الأوكرانية؛ فبالرغم من قدرتها على استعادة عدة قرى واختراق خطوط الدفاع الروسية بمساعدة الأسلحة الغربية، إلا ان موسكو لا تزال تملك التفوق في القوات الجوية، مما دفع أوكرانيا لمطالبة الدول الغربية بدعمها بطائرات F-16 حتى تستطيع مجاراة القوة الجوية الروسية ودعم الهجوم المضاد الأوكراني للحفاظ على المناطق التي نجحت كييف في السيطرة عليها.

ولكن لم يحدث هذا حتى الآن، بالرغم من دعم القوات الأوكرانية بالكثير من الأسلحة والمركبات المقاتلة ومختلف مستلزمات الحرب بتكلفة تخطت مليارات الدولارات، وتصريح كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بالنية في دعم أوكرانيا بالطائرات المقاتلة. وأعلن المتحدث الرسمي باسم القوات الجوية الأوكرانية يوري إنات عن إرسال الجنود للتدرب على استخدام طائرات F-16 في أسرع وقت، في إشارة منه على استعداد أوكرانيا لاستقبال الطائرات من الدول الغربية.

أما من الجانب الروسي فبالرغم من تأكيد الرئيس بوتين على استعداده للدخول في محادثات سلام، إلا أن من المؤكد عدم رغبة موسكو في التفاوض من موقف ضعف، مما يؤدي إلى تمسك موسكو بالمناطق المسيطرة عليها بشكل أكبر. لا تظهر روسيا أي تأثر بالخسائر إلى الآن، وتصر على وصف الهجوم الأوكراني المضاد بالفشل، وحرص المسؤولون الروس على التأكيد على أن الخسائر طفيفة ولا تؤثر على مسار حرب، وإظهار ثقة كبيرة في قدرة القوات الروسية على الحفاظ على المناطق المهمة التي تسيطر عليها واستعداد موسكو التام لصد أي هجوم أوكراني مهما كانت قوته.

وفي نفس الوقت طلب وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو من مجمع المصانع العسكري الروسي زيادة إنتاج الدبابات وأنظمة قاذفات اللهب الثقيلة لتحقيق أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا، مع الإشادة بتحسين القدرات الإنتاجية العسكرية وتحسين جودة السلاح الروسي، مما يؤكد على ثقة روسيا في موقفها في الصراع إلى الآن، وحرصها الشديد على المحافظة على هذا الموقف بشتى الطرق.

حدود التوقعات

أعلنت أوكرانيا عن استرجاعها السيطرة على 7 قرى إلى الآن، ونُشرت مقاطع مصورة للجنود الأوكرانيين وهم يرفعون الأعلام الأوكرانية في هذه القرى. وتواصل القوات الأوكرانية الاشتباكات مع القوات الروسية بعد النجاح في اختراق خطوط الدفاع الروسية وإجبارها على التراجع في بعض المناطق، حيث صرح نائب وزير الدفاع الأوكراني حنا ماليار بنجاح خطوط الهجوم الأوكرانية في التقدم بشكل تدريجي، ويقول “الوقت الحالي، يصل التقدم إلى 2 كيلومتر في كل اتجاه”. وكانت هناك مواجهات عنيفة بين القوات الأوكرانية والقوات الروسية يوم الجمعة 16 يونيو 2023، لكن لم تظهر نتائج واضحة لتقدم قوات على الأخرى إلى الآن.

وبالرغم من رفض المسؤولين الأوكرانيين الإفصاح عن المرحلة التي وصل لها الهجوم المضاد، إلا أنه من المؤكد أنه ما زال في مراحله الأولى، حيث يهدف الهجوم المضاد -بحسب تصريحات السلطات الأوكرانية- إلى استعادة كييف كامل أراضيها وإجبار القوات الروسية على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية بشكل كامل، وتتطلب عملية مثل هذه الكثير من الوقت والموارد، خاصة أمام خصم قوي مثل روسيا، مما يشير إلى أن الهجوم المضاد حتى مع افتراض تحقيقه النجاح فإن هذا النجاح سيستغرق شهورًا طويلة.

ولقد تأخرت بداية الهجوم المضاد لعدة أشهر بسبب عدم جاهزية أوكرانية بشكل كافي من جانب وعدم مساعدة الطقس في الأشهر الماضية بسبب كثرة الأمطار للهجوم الأوكراني الذي يعتمد بشكل أساسي على القوات البرية. ساعد هذا التأخير موسكو في القيام بالاستعدادات الدفاعية الكافية لصد الهجوم الأوكراني والجاهزية لمختلف السيناريوهات الممكنة بعد بداية الهجوم المضاد الأوكراني، وهو ما تسبب في بطئ التقدم الأوكراني بشكل كبير وسيطرتها على مناطق تراها روسيا غير مهمة، حيث رأت موسكو أن الهجوم المضاد الأوكراني إلى الآن ضعيف وفاشل ولا يشكل تهديدًا حقيقيًا.

من جانب آخر، تستمر موسكو في نشر الأسلحة النووية في بيلاروسيا مع تأكيد المسؤولين الروس على استعداد موسكو الكامل لاستخدام القوة النووية في حال تطلب الأمر بدون تردد. وحذر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف من أن الغرب يقلل بشدة من خطر نشوب حرب نووية بسبب أوكرانيا، خاصة مع ظهور شائعات بتفكير الناتو في دعم أوكرانيا بأسلحة نووية لتعادل خطر روسيا النووي بدون الدخول بشكل مباشر في الصراع، إلا أن “ميدفيديف” أكد على قيام روسيا بضربة نووية استباقية في حال تأكدت هذه الشائعات.

ويصب التأخير في تقدم القوات الأوكرانية في مصلحة موسكو؛ إذ يعطيها فرصة أكبر لتدعيم دفاعاتها، وقراءة استراتيجيات الهجوم الأوكراني مما يعطي القوات الروسية قدرة أكبر على الاستعداد لصد الضربات الأوكرانية. وأكد أيضًا الرئيس الروسي بوتين على أن كييف لن تستطيع الصمود فترة طويلة على هذا النحو؛ فكل المعدات والأسلحة التي تستخدمها ليست ملكها، ويشير هذا إلى أمل السلطات الروسية في انفضاض الغرب عن دعم أوكرانيا إذا شعر أن الهجوم المضاد غير مجدٍ. وأكد أيضًا الرئيس الروسي على موسكو للتصدي للطائرات المقاتلة الغربية كما تصدت القوات الروسية للدبابات والمدرعات الغربية، مما يؤكد على اتجاه روسيا لزيادة الاستعدادات الدفاعية.

ختامًا، بالرغم من نجاح أوكرانيا بعض الشيء في اختراق خطوط أمامية لروسيا، فإن الوضع إلى الآن يشير إلى التفوق الروسي على المدى الأبعد. فلا يشير الوضع الحالي إلى قدرة أوكرانيا على الوصول لنقطة التعادل التي تسمح لها بالدخول في المفاوضات، حيث نجحت موسكو في إبطاء التقدم الأوكراني بشكل كبير، بالإضافة إلى تأخر بدأ الهجوم الأوكراني، مما يسمح للقوات الروسية بزيادة استعداداتها الدفاعية بهدف إحباط الهجوم المضاد الأوكراني أملًا في انفضاض الغرب عن مساعدة أوكرانيا وهو الأمر الذي يعد فوزًا نهائيًا لروسيا في الصراع، وأيضًا من غير المرجح أن يتوقف الغرب عن دعم أوكرانيا بشكل نهائي، إلا أنه من الممكن انخفاض مستوى المساعدات أو استعداد الغرب لتقديم المزيد من التنازلات في المفاوضات.

وتقوم موسكو في نفس الوقت بالاستعداد لأي سيناريوهات مفاجئة عن طريق تجهيز قوتها النووية ونشر الأسلحة النووية في بيلا روسيا، مع التأكيد الدائم على استعداد موسكو الكامل لاستخدام القوة النووية التي صرح الرئيس الروسي بأنها أكبر من القوة النووية لدول حلف الناتو. فيشير الوضع الآن إلى أن القتال سيطول لمدة أكبر من التي ترغب فيها كييف، حيث تصب المدة الطويلة في مصلحة روسيا، ولم تظهر أوكرانيا إلى الآن خطة حقيقية للتقدم بشكل أسرع مما هي عليه الآن.

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى